الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذا الحديث مما اختلف فيه رفعاً ووقفا (1)، والصناعة الحديثية بناءً على الأصل المتقدم في قبول زيادة الثقة لا تُساعد على قبول زيادة الرفع من جهة حِفظ من زادها، ولكنه اعتضد بكون هذا وإن كان الراجح فيه الوقف بناءً على القواعد، لكنه مرفوعاً حُكماً، إذ مثله لا يُقال من قبل الرأي، فكانت هذه قرينة مُرجحة لزيادة الرَّفع في التحقيق.
التنبيه الثاني: من الثقات المتقنين من كانوا يُوقِفون الحديث تَقصيراً، وغيرهم يَرفعه، فمن تبيَّن ذلك منه لم يَصحَّ أن يُقام صَنيعه مُخالفة مُعتبرة للثقة الذي رفع الحديث.
كقول أبي بكر المُروذيِّ: سألته (يعني أحمد بن حنبل) عن هشام بن حسان؟ فقال: " أيوب وابنُ عوْن أحب إليَّ " وحسَّن أمر هشام، وقال:" قد روى أحاديث رَفعها أوْقفوها، وقد كانَ مذْهبهم أن يُقصروا بالحديث ويوقفوه "(2).
القسم الثاني: زِيادة الثقة في المتن
.
مَذهب جُمهور أهل الفقه والأصول قَبولها، ونسب بَعضهم إلى الإمام أبي حنيفة أنه ردَّها (3).
والتحقيق: أن مَذهب أبي حنيفة الذي يتبين من صنيع أصْحابه: قبولُ زيادة الثقة، كما وَجدته في كلام الطحاوي (4)، وتعلق به المتأخرون في مَواضع، كابن الهُمام (5)، وذكروه على التسليم.
وأحْسب الوهْم دخل على من نسب ردَّ الزيادة لأبي حنيفة، من جهة مذْهبه في النَّصَّين المستقلين، في أحدهما من الحُكم ما ليس في الآخر،
(1) كما شرحته في كتاب " الأجوبة المرْضية "(ص: 17 _ 21).
(2)
العلل ومعرفة الرجال، رواية المرُّوذي (النص: 78).
(3)
البرهان، لإمام الحرمين (1/ 662)، المنخول، للغزالي (ص: 283)، المستصفى، له (ص: 194).
(4)
انظر: شرح مشكل الآثار، للطحاوي (12/ 440).
(5)
انظر: شرح فتح القدير، لابن الهمام (2/ 68).
يتراخى أحدهما، فليس من مذهبه بناء المطلق على المقيد ولا العام على الخاص في هذه الحالة، وإنما يرى المتأخر منهما ناسخاً، وإلا تعارضا، في تفصيل يُعرف من أصول مذهبه (1).
وليست هذه المسألة من باب زيادة الثقة في الحديث الواحد المعين.
وكذلك الشأن عنْد أهل الصنعة، أهل الحديث، فإن الزيادة في المتن عندهم مَقبولة إذا كانَ من جاء بها ثِقة مُتقنا، لم يَقم دليل على وهمه فيها.
فكذلك كان أحمد بن حنبل يرى، كما سيأتي بعض قوله، وعلى ذلك جرى منهج الشيخين البُخاري ومسلم، فخرَّجا الكثير من مُتون الحديث يزيد الرُّواة فيها على بعضهم، يُصححان كل ذلك.
وسأل عبدُ الرحمن بنُ أبي حاتم أباه وأبا زُرعة عن حديث رواه أبو إسحاق السبيعي عن حارثة بن مُضرِّب في قصة ابن النواحة، الزيادة التي يزيد أبو عوانة أنه قال:" وكفَّلهم عشائرهم ": هو صحيح؟ فقالا: " رواه الثوري ولم يذكره هذه الزيادة، إلا أن أبا عوانة ثقة، وزيادة الثقة مقبولة "(2).
(1) انظر: شرح التلويح على التوضيح، للسعد التفتازاني (2/ 36)، و: كشف الأسرار عن أصول البزدوي، لعلاء الدين البخاري (3/ 110 _ 112).
(2)
علل الحديث لابن أبي حاتم (رقم: 1397) ومن قول أبي حاتم في قبول الزيادة أيضاً (رقم: 361).
وقصة ابنِ النواحة هذه صحيحة الإسناد، أخرجهما البيهقي في " الكبرى "(6/ 77 و 8/ 206) والخطيب في " الموضح لأوهام الجمع والتفريق "(2/ 107 _ 108) من طريق أبي عوانة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضرِّب، قال: صليت الغداة مع عبد الله بن مسعود، فذكر الحديث، وفيه الزيادة المذكورة من قول جَرير بن عبد الله والأشعث بن قيس، فيما أشارا به على ابن مسعود.
وعلق الزيادة المشار إليها البخاري في " صحيحه " في (كتاب الكفالة)(2/ 801).
والتحقيق أن أبا عوانة لم يتفرد بها عن أبي إسحاق، بل تابعه عليها: إسرائيل بن يونس. فيما أخرجه الطحاوي في " شرح المشكل "(11/ 312 _ 313).
والحديث بدونها رواه الأعمش وسُفيان الثوري وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق، في تفصيل له محلٌّ آخر.
وذكر الخطيب في قبول الزيادة من الثقة أو ردّها من متن الخبر مذاهب، ورجح منها قول الجُمهور، وهو: أن الزيادة الواردة في متن خبر مقبولة مُطلقاً، ومعمولٌ بها، إذا كان راويها عدْلاً حافظاً ومُتقناً ضابطاً (1).
والوجه في قبولها: أن الثقة إذا انفرد بحديث لم يأت به غيره، فهو صحيح مُحتجٌّ به، فإذا كانَ يُقبل تفرده بالحديث، فتفرَّده بالزيادة أولى بالقبول.
كما نقل صالحُ بن أحمد عن أبيه في زيادةِ (من المسلمين) في حديثِ ابن عمر في زكاة الفِطر، قال:" قد أنكر على مالك هذا الحديث، ومالكٌ إذا انفرد بحديث فهو ثقة، وما قال أحدٌ ممن قال بالرأي أثْبتَ منه في الحديث "(2).
فهو يقول: إذا انفرد بحديث فهو ثقة، فكذلك يَجب أن تُقبل الزيادة يتفرد بها.
فإن قيل: الحديث الواحد يُمكن أن يَسْمعه الراوي دون أن يُشاركه أحدٌ، أما الزيادة في متن حديث مَسموع لغيره كما هو مسموع له، لا يحفظ فيه ذلك الغير تلك الزيادة، فيَنبغي أن يكون دليلاً على خطئها.
قيل: كلَاّ، وذلك لوُجوه، منها:
أولاً: مَظنة أن يكون الراوي يُحدث بالحديث في الأحوال والأزمانِ المختلفة واقعٌ صحيحٌ، فتحديثه بالحديث تارة ببعض الاختصار وتارة بالتمام غير ممتنع (3)، فسمعه النقلة على الوجهين.
ثانيا: كما أنه لا يَمتنع أن يحضر الجماعة المجلس الواحد، فيسمعوا
(1) الكفاية (ص: 597)، وانظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (2/ 90 _ 91).
(2)
مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح (النص: 1160).
(3)
ذكر معنى هذا الخطيب في " الكفاية "(ص: 598).
الحديث جميعاً، فيحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر، وإذا جاز أن يَسمع الراوي الحديث فينساه كله، فأولى من ذلك صِحة احتمال نِِسيان بعضه.
ثالثاً: وكذلك فإن بعض الرواة عن ذلك الشيخ قد يَعمد إلى اختصار الحديث، فلا يجوز أن يكون صنيعه قادحاً في رواية من جاء بلفظ أتم من لفظه.
وللزَّيْلعي في زيادة الثقات في المتون تفصيل مُعتبرٌ، يؤيد ما تقدم من أن القبولَ مَشروطٌ بإتقان الراوي لها، وعدم خطئه فيها، فإنه قال في شأن زيادة ذكْر البَسملة في حديث أبي هريرة من رواية نُعيم المُجمر عنه: " فإن قيل: قدْ رواها نُعيم المجمر، وهو ثقةٌ، والزيادة من الثقة مقْبولة.
قلنا: ليس ذلك مُجمعاً عليه، بل فيه خلاف مَشهورٌ:
فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مُطلقاً، ومنهم من لا يَقبلها، والصحيح التفصيل، وهوَ أنها تُقبل في موضعٍ دون موضع.
فتُقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثِقةً حافظاً ثبْتاً، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس، قوله:" من المسلمين " في صدقة الفِطر، واحتج بها أكثر العلماء.
وتُقبل في موْضع آخر لقرائن تخصها.
ومن حكم في ذلك حُكماً عاماً فقد غلط، بل كلُّ زيادة لها حكم يخصها، ففي مَوْضعٍ يُجزم بِصِحَّتها، كزيادة مالك.
وفي موضع يغلب على الظن صحتها، كزيادة سَعْد بن طارق في حديث:" جُعلت الأرْضُ مسْجداً، وجعلت ترْبتُها لنا طَهُوراً "، وكزيادة سُليمان التميمي في حديث أبي موسى:" وإذا قرأ فأنصتوا ".
وفي موضع يُجزم بخطأ الزيادة، كزيادة مَعمر ومن وافقه، قوله:" وإن كانَ مائِعاَ فلا تقْربوه "، وكزيادة عبد الله بن زياد ذِكْر البسملة في حديث:
" قسمت الصلاة بيني وبين عبْدي نصْفين "، وإن كان مَعْمرٌ ثقةً، وعبد الله بن زياد ضعيفاَ، فإن الثقة قد يَغلط.
وفي موضع يَغلب على الظن خطؤها، كزيادة مَعمرٍ في حديث ماعز " الصلاة عليه "، رواها البُخاري في (صحيحه)، وسُئل هل رواها غيرُ معْمر؟ فقال: لا، وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر، وقال فيه:" ولم يُصلِّ عليه "، فقد اختلف على معمرٍ في ذلك، والراوي عن معمرٍ هو عبد الرزاق وقد اختلف عليه أيضاً، والصواب أنه قال:" ولم يُصلِّ عليه ".
وفي موْضع يُتوقف في الزيادة، كما في أحاديث كثيرة.
وزيادة نُعيم المُجمر التسمية في هذا الحديث مما يُتوقف فيه، بلْ يغلب على الظن ضَعفه " (1).
قلت: قد يناقش الزَّيْلعي في بعض ما مثَّل به، ولكن ما أشار إليه من عدم تنزيل الزيادة من الثقة منزلة القبول مُطلقاً، صحيحٌ في الجملة.
تنبيهان:
التنبيه الأول: الراوي يبلغه الحديث أو يسمعه بواسطة عن شيخٍ، ثُم يلقى ذلك الشيخ فيحمله عنه بعُلوِّ دون واسِطة، فيقع تَحديثه به تارة بالواسطة، وتارة بعَدمها.
هذه الصورة إذا انتفت فيها شُبهة الغلط، فالحديث مَحفوظ من الوجهين، ولا يُعدُّ ذلك اختلافاً مؤثراً.
لكن يجب أن يكون مَحلُّ وقوع الاختلاف على الراوي نَفسه، ومن اختلفا أو اختلفوا عليه ثقتان أو ثقاتٌ، وهو ثقةٌ كذلك، أماَّ إذا وقع الاختلاف بين النقلة في طبقة أدنى من طبقةِ من روى عن ذلك الشيخِ، فمَظنةُ الغلط أرْجح.
(1) نصب الراية (1/ 336 _ 337).
مثال هذه المسألة:
ما رواه يزيد بن أبي حبيب، عن عراك بن مالك، أنه بَلغه، أن نوْفل بن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من الصلاة صَلاةُ، من فاتته فكأنما وُتر أهله وماله "، قال ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هي صلاة العصر "(1).
ورواه جعفر بن ربيعة، أنَّ عِراك بن مالك حدثه، أن نَوْفل بن معاوية حدثه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من فاتته صلاة العصْر فكأنما وُتر أهله وماله "(2).
قال الخطيب: " والحُكم يوجب القَضاء في هذا الحديث لجعفر بن ربيعة بثبوت إيصاله الحديث؛ لثقته وضبطه، ورواية الليث (3) ليست تكذيباً له؛ لجواز أن يكون عِراك بلغه هذا الحديث عن نوفل بن معاوية، ثم سمعه منه بعد، فرواه على الوجهين جميعاً "(4).
التنبيه الثاني: قال ابن حبان: " لا نقبل شيئاً منها إلا عمن كان الغالب عليه الفقه، حتى يُعلم أنه كان يرْوى الشيء ويَعلمه، حتى لا يُشك فيه أنه أزاله عن سننه أو غيَّره عن معناه، أم لا "(5).
قلت: هذا مما انفرد به ابن حبان، واشترط ثِقة الناقل وعدم الدليل على وهمه فيما زاد يدفع المظِنة التي ذكرها ابن حبان.
(1) أخرجه النسائي (رقم: 479) والخطيب في " الكفاية "(ص: 583) من طريق الليث ابن سعد، عن يزيد، به.
(2)
أخرجه النسائي (رقم: 478) والبيهقي في " الشعب "(رقم: 2846) والخطيب في " الكفاية "(ص: 583 _ 584) من طريق حَيوة بن شريح، أنبأنا جعفر، به.
(3)
يعني ابن سعد راويه عن يزيد بن أبي حبيب.
(4)
الكفاية (ص: 584).
(5)
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 159).