الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانياً: وجدنا من الرواة من يتنازع في إطلاق وصف التدليس عليه، بمنزلة اختلافهم في جرح الراوي وتعديله.
قال أبو داود السجستاني في (مغيرة بن مقسم الضبي): " مغيرة لا يدلس، سمع مغيرة من إبراهيم مئة وثمانين حديثاً "(1).
وقال العجلي: " كان (يعني مغيرة) يرسل الحديث عن إبراهيم، وإذا أوقف أخبرهم عمن سمعه "(2).
قلت: وهذا من قول العجلي يثبت تدليسه عن إبراهيم، فكأن أبا داود أراد غالب أمره.
ثالثاً: وجدنا بعض من أطلق عليه وصف التدليس استفيد ذلك فيه من جهة وقوعه منه في روايته عن بعض شيوخه دون سائرهم، فإطلاق العبارة يوهم اندراج جميعهم.
وذلك مثل رواية أبي حرة واصل بن عبد الرحمن البصري عن الحسن البصري، فإنه كان يدلس عنه، وضُعف فيه من أجل أنه لم يسمع منه إلا شيئاً يسيراً، وكان يقول في سائر روايته عنه:(عن الحسن)، فكلامهم فيه بالتدليس محصور في الحسن خاصة، لا في سائر شيوخه أو حديثه.
فهذه الأسباب موجبة لتمييز معنى لفظ التدليس وصحته ووجهه، فأما اللفظ المجمل فلا يصح اعتماده لرد الحديث المعنعن للراوي الثقة يرويه عن شيوخه.
كيف يعرف التدليس
؟
يعرف التدليس في الراوية بطرق:
الأولى: تفقد السماع من فم الراوي نفسه.
(1) سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 166).
(2)
ترتيب ثقات العجلي (النص: 1777).
وذلك كثير الأمثلة من صنيع الأئمة في توقيف الراوي على ما سمع وما لم يسمع، يستكشفون به وقوع التدليس أو عدم السماع.
كما كان يصنع شعبة بن الحجاج في حق من ذكر من شيوخه بالتدليس، كقتادة وأبي إسحاق السبيعي، وهو أبرز من شاع عنه ذلك من الأقدمين في تتبع السماع، والحكايات الصحيحة عنه في ذلك كثيرة جداً، وكان لا يدلس أبداً، وكان شديداً جداً في إنكار التدليس.
فكان يقول مثلاً: " كنت أتفقد فم قتادة، فإذا قال: سمعت، أو: حدثنا، حفظت، وإذا قال: حدث فلان، تركته "(1).
وكذلك ربما فعل سفيان الثوري، وإن كان ربما وقع منه التدليس في الشيء النادر.
قال عبد الرحمن بن مهدي: " كنت مع سفيان عند عكرمة (يعني ابن عمار)، فجعل يوقفه على كل حديث على السماع "(2).
وفي رواية، قال ابن مهدي:" قال لي سفيان الثوري بمنى: مر بنا إلى عكرمة بن عمار اليمامي، قال: فجعل يملي على سفيان، ويوقفه عند كل حديث: قل حدثني، سمعت "(3).
(1) أخرجه عُثمان الدارمي في " تاريخه "(النص: 703) وابن أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 161، 169) والبغوي في " الجعديات "(رقم: 1074) وعبد الله بن أحمد في " العلل "(النص: 5077) والخطيب في " الكفاية "(ص: 517) بإسناد صحيح. وروى ابنُ أبي حاتم كذلك في " التقدمة "(ص: 169 _ 170) و " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 34، و 2/ 1 / 370) والبغوي أيضاً (رقم: 1073، 1075) وعبد الله في " العلل "(النص: 5068) والرامهرمزي (ص: 522) وابنُ عدي (1/ 151) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل "(ص: 43) والخليلي في " الإرشاد "(2/ 487) والخطيب في " الكفاية " وابنُ عبد البر في " التمهيد "(1/ 35) معناه من غير وجه .......
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل "(ص: 68) بإسناد صحيح.
(3)
أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح "(ص: 117) وإسناده صحيح.
وقال يحيى القطان: " شهدت سفيان يقول لأبي الأشهب: قل سمعت، قل سمعت "(1).
وقد جرى يحيى القطان على منهاج شيخه شعبة في التشديد في التدليس، والتنقيب والبحث عن السماع، حتى جاء عن أحمد بن حنبل: لم لا تقول ليحيى بن سعيد: قل حدثنا؟ فقال: " مثل يحيى يقال له: قل حدثنا؟! "(2).
قلت: يعني أن مثله لا يتفقد منه السماع؛ لأنه لا يروي إلا متصلاً.
وعن مالك بن أنس قال: " كنا نجلس إلى الزهري وإلى محمد بن المنكدر، فيقول الزهري: قال ابن عمر كذا كذا، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه، فقلنا له: الذي ذكرت عن ابن عمر من أخبرك به؟ قال: ابنه سالم "(3).
الثانية: مقارنة الأسانيد، فيكشف بذلك من أسقط في موضع العنعنة للشيخ المعين، مع إدراك ذلك الشيخ وسماعه في الأصل ممن عنعن عنه.
وذلك مثل: حديث رافع بن خديج، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر ".
هذا الحديث رواه سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبو خالد سليمان بن حيان الأحمر ويحيى بن سعيد القطان، وهؤلاء كلهم ثقات، عن محمد بن عجلان، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن رافع، به.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح "(ص: 82) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 233 _ 234) وإسناده جيد.
(3)
أخرجه أحمد في " العلل "(النص: 476) _ ومن طريقه: ابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 37) _ وابن سعد في " الطبقات "(ص: 179 _ القسم المتمم) وإسناده صحيح .......
ورواه جماعة عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة، عن عاصم بن عمر، ولم يقل في شيء من الروايات:(حدثني عاصم).
وهذه متابعة لابن عجلان، هكذا أوهم ابن إسحاق بتدليسه، وكشفت رواية أخرجها الإمام أحمد (1) عن حقيقة ذلك قال فيها: حدثنا يزيد (وهو ابن هارون)، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، قال: أنبأنا ابن عجلان، عن عاصم، بباقي الإسناد به.
فعاد الحديث لابن عجلان، فتأمل كيف أوهم التدليس طريقاً جديداً للحديث، ولو كان ابن عجلان ضعيفاً وأسقط، وبقي في السند الثقات لأوهم القبول، وقد عهد ابن إسحاق بكثرة التدليس، وهو يدلس عن مجروحين.
الثالثة: معرفة قدر ما روى الراوي عن شيخه متصلاً، فإذا روى عنه غير ذلك علمنا أنه إنما تلقاه عنه بواسطة، فأسقطها.
لكن هذا الطريق يوجب تحريا ًشديداً قبل الجزم به.
فلو اعتمدت مثلاً قول يحيى بن سعيد القطان: " كان ابن جريج لا يصحح أنه سمع من الزهري شيئاً "، قال:" فجهدت به في حديث: إن ناساً من اليهود غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم. فلم يصحح أنه سمع من الزهري. ولم يسمع ابن جريج من مجاهد إلا حديثاً واحداً "(فطلقوهن في قبل عدتهن). ولم يسمع ابن جريج من ابن طاوس إلا حديثاً في محرم أصاب ذرات، قال: فيها قبضات من طعام. ولم يسمع الحجاج بن أرطاة من الشعبي إلا حديثاً: لا تجوز صدقة حتى تقبض " (2).
فهذا لا يسلم على إطلاقه فيمن ذكر، ولا يصلح أن يبنى عليه بمجرده
(1) في " مُسنده "(3/ 465).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 245) بإسناد صحيح إلى يحيى.
مثلاً أن يكون جميع ما يرويه ابن جريج عن الزهري غير هذا الحديث مما لم يسمعه منه، فيحمل على أن ابن جريج دلس فيه؛ وذلك لأننا وجدنا في أحاديث كثيرة يقول فيها ابن جريج:(أخبرني الزهري) وغير ذلك من صيغ التحمل المباشر.
وقد قال سفيان بن عيينة: " ابن جريج جاء إلى الزهري بأحاديث، فقال: أريد أن أعرضها عليك، فقال: كيف أصنع بشغلي؟ قال: فأرويها عنك؟ قال: نعم "(1).
وقال أحمد بن حنبل: " ابن جريج عرض، وهو يقول: سألت ابن شهاب "(2).
وقال علي بن المديني: " ابن جريج لم يسمع من ابن شهاب شيئاً، إنما عرض له عليه "، قال:" وقال يحيى (يعني القطان): قال لي سفيان بن حبيب: بلى قد سمع منه كذا كذا، قال: فأتيته، فسألته عنه؟ فقال: ما أدري، سمعته أو قرأته "(3).
قلت: عرض على الزهري، وطائفة من الأئمة منهم الزهري نفسه يرون العرض كالسماع.
إذاً، فلا تحمل روايته عنه لغير الحديث المذكور لو ذكر السماع على
(1) أثر صحيح. أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 457) من طريق مُحمد بن عباد، عن سُفيان به، وإسناده جيد.
ورَوى ابن عيينة عنه معنى ذلك كذلك في قصة ابن جريج من غير هذا الوجه، أخرجه الرامهرمزي (ص: 436) والخطيب في " الكفاية "(ص: 457).
(2)
أخرجه البغوي في " الجعديات "(رقم: 2962) عن مُحمد بن علي الجوزجاني المعروف بحمدان الوراق عن أحمد، وإسناده صحيح، الجوزجاني من أصحاب أحمد بغدادي ثقة .......
(3)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة "(2/ 139) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 388) بأوله _ وإسناده صحيح.