الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن هذه الجهة جاءت عن السلف عبارات تنبئ عن هذه الحقيقة، ففسرها من لم يفهم مراد أهلها بأن هذا العلم كهانة.
قال علي بن المديني: جاء رجل لعبد الرحمن (يعني ابن مهدي)، فقال: يا أبا سعيد، إنك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت، فعمن تقول ذلك؟ قال عبد الرحمن:" أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد، وهذا ستوق، وهذا نبهرج (1)، أكنت تسأل عمن ذلك، أو كنت تسلم الأمر إليه؟ "، قال: لا، بل كنت أسلم الأمر إليه، قال:" فهذا كذلك؛ لطول المجالسة أو المناظرة والخبرة "(2).
قلت: فانظر كيف أعاده إلى أمر مدرك: طول مجالسة لأهله، وكثرة مناظرة فيه، وخبرة مكتسبة.
وكذلك انظر إلى مثله المضروب، فالصَّرَّاف يميَّز مزيَّفَ النَّقد من صحيحه، لا بصدفةٍ أو إلهام مجرد، بل بدراية ومعرفة، أكسَبَها طول الملازمة، وشُغْل الوقت في المعالجة.
المبرّزون من أئمة الحديث في معرفة علله:
حفَّاظ الحديث خلق كثير على مرِّ الأزمان، وإن شحَّ بهم هذا الزمان، لكنك لا تجد فيهم المتعرِّض إلى هذا الفن من فنون هذا العلم، إلا قليلاًَ، وذلك لما تقدمت الإشارة إليه، أن معرفة هذا العلم لا تقتصر على مجرد حفظ، فإذا كان في بعض من يحفظ الحديث من لا يميز علله الظاهرة وهم أكثر المعدودين في حفَّاظه، فكيف يفهم علله الباطنة؟
ولذا كان من عدَّ في العارفين به قلة في أئمة الأمة.
(1) ستُّوق، ونبهرج: نقد مُزيَّف.
(2)
أخرجه ابنُ عدي (1/ 198) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النُّبوة "(1/ 31) وإسنادُهُ صحيح.
قال أبو حاتم الرازي: " الذي كان يحسن صحيح الحديث من سقيمه وعنده تمييز ذلك، ويحسن علل الحديث: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وبعدهم أبو زرعة كان يحسن ذلك " فقيل له: فغير هؤلاء تعرف اليوم أحداً؟ قال: " لا "(1)
قلت: بل منهم في عصره: البخاري، ومحمد بن يحيي الذهليُّ، ثم بعدهم مسلم والترمذي، فالنسائي وهكذا، وأبو حاتم نفسه رأسٌ من رءوس أهله.
فأما أحمد بن حنبل، فعنه كلام كثير منقول في هذا الباب.
ويحيى بن معين، ففي بعض كتبه منثورات في علل الحديث.
وعلي بن المديني، له فيه تصنيف، وصلنا بعضه، وقد قال فيه الخطيب:" كان علي بن المديني فيلسوف هذه الصنعة وطبيبها، ولسان طائفة الحديث وخطيبها "(2).
وتلميذه محمد بن إسماعيل البخاري، وله كلام كثير منثور في " تاريخيه " وحكى عنه الترمذي الكثير في مصنفه في (العلل)، بل " صحيحه " أعظم الأدلة على قوة تمكنه وكبير منزلته، فإن نقاد الحديث توالوا على تتبعه فيه ونقده في خفي علل الحديث، وما كاد يرجح فيه رأيهم على رأيه إلا في مواضع معدودة.
وتلميذه مسلم بن الحجاج، وله فيه كتاب " التمييز "، وصلنا بعضه، وهو ينبئ عن تمكن ودراية، مثله الذي جعل لـ" صحيحه " التقدم حتى صار ثاني الكتب في صحيح السنة.
ويعقوب بن شيبة، وقد ألف مسنداً معللا، تدل القطعة التي وصلتنا
(1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 23).
(2)
الجامع لأخلاق الرَّاوي (2/ 302).
منه من (مسند عمر بن الخطاب) على تبحره في معرفة هذا العلم، وذكروا أنه لم يتم ذلك الكتاب (1).
وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، قدوة في معرفة هذا العلم، وكلامهما في علل الحديث كثير نافع، ضمَّنه عبد الرحمن بن أبي حاتم الكتاب الذي جمعه في ذلك عنهما.
وأبو بكر البزار، وقد ضمَّن " مسنده " المعروف بـ" البحر الزَّخَّار " من علوم الحديث أنواعاً، وضرب منه بنصيب وافر في بيان علل الحديث، وإن كان مختصر العبارة فيه.
وأبو عبد الرحمن النسائي، وفي كتابيه " السنن الكبرى " و " المجتبى " من بيان علل الحديث شيء كثير.
وغيرهم عدد ليس بالكثير من أقرانهم من الحفاظ، وبعدهم طائفة من الكبار، هم قلة في أئمة الحديث، من أبرزهم:
الحافظ الكبير أبو الحسن الدارقطني، وكتابه " العلل الواردة في الأحاديث النبوية " الذي رواه عنه تلميذه الحافظ أبو بكر البرقاني، من أعظم هذه الكتب نفعاً، يبين عن دقة هذا العلم، وتمكن الدارقطني فيه.
قال ابن كثير يبين قدر هذا الكتاب: " هو من أجل كتاب، بل أجل ما رأيناه وضع في هذا الفن، لم يسبق إلى مثله، رقد أعجز من يريد أن يأتي بعده "(2).
لكن ينبغي أن تلاحظ أنه يعل بالعلل القادحة وغير القادحة، فقد توسع في ذلك.
(1) انظر ترجمته في " تاريخ بغداد " للخطيب (14/ 281).
(2)
اختصارُ علوم الحديث، لابن كثير (ص: 54) مع " الباعث الحثيث ".