الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويشبهه: أن يعاد حديث الثقة إلى أصل غيره من الثقات ممن شاركه في السماع، فلا يوجد الحديث فيه على الوجه الذي ذكره.
مثل: قال أحمد بن منصور الرمادي: قلت لعلي بن المديني: حدثني بعض مشايخنا المصريين، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عمرة، عائشة، قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين: فذكر الحديث.
فحرك رأسه، وضحك، قال: ليس هذا بشيء، وقال: جرير بن حازم إنما سمع من يحيى بن سعيد بالبصرة مع حماد بن زيد في كتاب حماد بن زيد، وهذا الحديث إنما رواه حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، قال: قالت عائشة: أصبحت أنا وحفصة صائمتين.
وليس هذا من حديث عمرة، إنما سمعه يحيى بن سعيد من الزهري، والزهري إنما سمعه من رجل لا يعرفه، حدثه به بعض من يدخل على عائشة، عن عائشة (1).
سادساً: أن يثبت عن راوي الحديث ترك عمله به، أو ذهابه إلى خلافه
.
وهذا مسألة شائعة في الأصول على خلاف وتفصيل، لكنها أيضاً طريق جرى كبار نقاد الحديث على اعتباره في تعليل الحديث، كعلامة على العلة، أو تكون هي العلة، فيقضى على ناقلها بالوهم إن كان من الثقات، أو الضعف إن كان ممن دونهم.
وله أمثلة كثيرة، منها.
تضعيف جميع ما روي عن أبي هريرة في المسح على الخفين، بما جاء عنه في إنكاره.
(1) أخرجه المقدمي في آخر كتاب " التاريخ "(ص: 155 _ 156).
نعم، الأحاديث المروية عن أبي هريرة في إثبات المسح عديدة، لكنها معلولة بغير علة (1)، غير أن مخالفتها المروي عنه في إنكار المسح من جملة تلك الأدلة على ضعفها.
والرواية عن أبي هريرة بترك المسح جاءت عنه من وجهين:
الأول: عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، قال: سألت أبا هريرة عن المسح على الخفين؟ قال: فدخل أبو هريرة دار مروان بن الحكم، فبال، ثم دعا بماء فتوضأ، وخلع خفيه، وقال: ما أمرنا الله أن نمسح على جلود البقر والغنم (2).
والثاني: عن أبي رزين، قال: قال أبو هريرة: ما أبالي، على ظهر خفي مسحت، أو على ظهر حمار (3).
وهذان خبران صحيحان عن أبي هريرة، ظاهران في مذهبه في ترك المسح على الخفين، وقد حكم بثبوتها عن أبي هريرة مسلم بن الحجاج، وقال:" ولو كان قد حفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجدر الناس وأولاهم للزومه والتدين به، فلما أنكره. . . بان ذلك أنه غير حافظ المسح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن من أسند ذلك عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، واهي الراوية، أخطأ فيه إما سهواً أر تعمداً ".
قال مسلم بعد إيراده إحدى الطرق عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في
(1) كما بينت ذلك في " علل الحديث ".
(2)
أخرجه مسلم في " التمييز "(رقم: 89) قال: حدثنا مُحمد بن المثنى، حدثنا محمد، حدثنا شُعبةُ، عن يزيد بن زاذِي (في الأصل: زاذان)، قال: سمعت أبا زُرعة، به.
قلت: وهذا إسنادٌ صحيح، ومُحمد هو ابن جَعفر غنْدرٌ.
(3)
أخرجه ابنُ أبي شيبة (1/ 186) قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال: حدثنا إسماعيل بن سُميْع، قال: حدثني أبو رَزين، به.
قلت: هذا إسناد صحيح، وأبو رَزين اسمه مَسْعود بن مالك.
إثبات المسح: " هذه الرواية في المسح عن أبي هريرة ليست محفوظة، وذلك أن أبا هريرة لم يحفظ المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم، لثبوت الرواية عنه بإنكاره المسح على الخفين "(1).
وسئل الدارقطني عن الأحاديث الواردة عن أبي هريرة في المسح، فذكر خمسة من طرقها، ثم قال:" قال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وكلها باطلة، ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح "(2).
ومع صحة الرواية بإنكار المسح عن أبي هريرة، وجدت ابن عبد البر يقول فيه:" لا يثبت "(3)، ولم يعلله بشيء، وتبعه على ذلك جماعة ممن جاء بعده، وقوله هذا خلاف قول أحمد ومسلم.
بل سبق الشافعي إلى إثبات الرواية بالإنكار عن أبي هريرة، فقال:" ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخفين، فأنكر المسح علي بن أبي طالب وعائشة وابن عباس وأبو هريرة، وهؤلاء أهل علم بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومسح عمر وسعد وابن عمر وأنس بن مالك، وهؤلاء أهل علم به "(4).
قلت: فهذا مثال لتعليل الروية أو الروايات بمجيئها على خلاف الثابت المحفوظ عن راويها من رأيه ومذهبه.
(1) التمييز (ص: 209).
(2)
العلل (8/ 276)، وحكي ابنُ حجر في " التلخيص " (1/ 158) قال:" قال أحمد: لا يصحُّ حديث أبي هريرة في إنكار المسح، وهو باطلٌ "، كذا قال، وما نقله الدارقطني عن أحمد هوَ الصواب، وبمعناه كذلك نقل ابنُ رجبٍ عن أحمد في " شرح العلل "(2/ 797)، وفي نصٍّ ساقه ابنُ عبد البر في " التمهيد "(11/ 139) من رواية أبي بكر الأثرم عن أحمد أنَّ أبا هريرة كانَ لا يرى المسح، مما يوكِّدُ خطأ حِكاية إنكار أحمد للرواية بترك المسح عن أبي هريرة، وإنما أنكر الرواية عنه بإثبات المسح.
(3)
التمهيد (11/ 138).
(4)
الأم: (14/ 598).
ورأيت أحمد بن حنبل أعمل هذا الأصل أيضاً (1).
ومما يتصل بهذا الأصل: تعليل زيادة في الحديث مع كونها من رواية الثقة؛ من أجل أنها جاءت على خلاف المحفوظ من رأي الصحابي راوي الحديث.
قال أحمد بن حنبل: " كان شعبة يتهيب حديث ابن عمر: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. يعني يتهيبه للزيادة التي فيها: (والنهار)؛ لأنه مشهور عن ابن عمر من وجوه: (صلاة الليل)، ليس فيه: (والنهار)، وروى نافع أن ابن عمر: كان لا يرى بأساً أن يصلي بالنهار أربعاً. وبعضهم قال: أنه كان يصلي بالنهار أربعاً فلو كان حفظ ابن عمر عن النبي عليه السلام: (صلاة النهار مثنى مثنى) لم يكن يرى أن يصلي بالنهار أربعاً، وقد روي عن عبد الله بن عمر قوله: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى "(2).
سابعاً: أن يدل على نكارة الحديث ما يجده الناقد من نفرة منه ينزه عن مثلها الوحي وألفاظ النبوة.
والمقصود أن يقع ذلك الشعور لمن عايش المفردات والمعاني النبوية حتى أصبح وهو يحرك لسانه بالألفاظ النبوية، وكأنه يتذوق منها ريق النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قد يرد عليه من الرواية ما يجد له مرارة أو بعض مرارة، فيرد على قلبه الحرج في نسبة مثل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون ذلك
(1) قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد (يعني ابنَ حنبل) ذكر حديثاً لصالح بن كيْسان، عن الحارث بن فُضيْل الخَطمي، عن جعفر بن عبد الله بن الحكم، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبي رافع، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" يكون أمراءُ، يقولون ما لا يَفعلون، فمن جاهدهم بيده ". قال أحمد: " جَعفرٌ هذا هو أبو عبد الحميد بن جعفر، والحارث بن فُضيْل ليس بمحمودٍ في الحديث، وهذا الكلام لا يُشبه كلام ابن مسعود، ابنُ مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصْبروا حتى تلْقوني "(مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود ص: 307).
(2)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 294)، ومعناه (ص: 310).
الشعور علامة على علة في الرواية، توجب عليه بحثاً عن محل الغلط منها حتى يقف عليه.
وليس المقصود أن ينصب الناقد هواه ومزاجه مجرداً لقبول الحديث أو رده، فإن الرأي يخطئ مهما اعتدل وراقب صاحبه ربه، والهوى لا تعصم منه نفس.
ومما وجدته يصلح لهذا مثالاً، حديث بقي في القلب منه غصة زماناً، حتى اطمأنت النفس لعلته، وهو حديث أبي سعيد الخدري: أن رجلاً أتى بابنة له إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن ابنتي هذه أبت أن تزوج، قال: فقال لها: " أطيعي أباك "، قال: فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته، فرددت عليه مقالتها، قال: فقال: " حق الزوج على زوجته أن لو كان به قرحة فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دماً ثم لحسته ما أدت حقه "، قال: فقالت: والذي بعثك بالحق، لا أتزوج أبداً، قال: فقال: " لا تنكحوهن إلا بإذنهن ".
قلت: فهذا الحديث فيما ذكر فيه من وصف حق الزوج على الزوجة بهذه الألفاظ المنفرة المستنكرة، ليس في شيء من المعهود في سنة أعف خلق الله صلى الله عليه وسلم، والذي أوتي الحكمة وفصل الخطاب وجوامع الكلم، وقد فصل الله في كتابه ونبيه ذو الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم في سنته الحقوق بين الزوجين بأجمع العبارات وأحسن الكلمات، كلها من باب قول ربنا عز وجل:{ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [البقرة: 228].
وأما علة الحديث فما هي مجرد النفرة من صيغة تلك العبارات، وإنما روى هذا الحديث جعفر بن عون، قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن نهار العبدي، عن أبي سعيد، به (1).
(1) أخرجه ابنُ أبي شيبة (4/ 303) والنسائي في " الكبرى "(رقم: 5386) والبزار (رقم: 1465) _ كشف الأستار) وابن حبان (9/ 472 رقم: 4164) والدارقطني (3/ 237) والحاكم (2/ 188 _ 189 رقم: 2767) والبيهقي في " الكبرى "(7/ 291) من طرق عن جعفر بن عون، به، واللفظ لابن أبي شيبة والبزار.
قال البزار: " لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد، ولا رواه عن ربيعة إلا جعفر ".
وقال الحاكم: " حديث صحيح الإسناد "، فتعقبه الذهبي بجرح ربيعة.
وكنت اغتررت مدة بكون ربيعة هذا قد أخرج له مسلم في " الصحيح "(1) حديثه " المؤمن القوي "، من روايته عن محمد بن يحيى بن حبان، محتجاً به، فأجريت أمره على القبول في هذا الحديث.
والتحقيق أن تخريج مسلم له لا يصلح الاحتجاج به بإطلاق، فمسلم قد ينتقي من حديث من تكلم فيه وكان الأصل فيه الثقة، فيخرج من حديثه ما تبين له كونه محفوظاً.
أما هذا الحديث فالشأن كما ذكر البزار من تفرد جعفر به عن ربيعة، وهو إسناد فرد مطلق.
وربيعة هذا قال يحيى بن معين ومحمد بن سعد: " ثقة "، وقال النسائي:" ليس به بأس "، لكن قال أبو زرعة الرازي:" إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القوي "، وقال أبو حاتم الرازي:" منكر الحديث، يكتب حديثه "(2).
قلت: والجرح إذا بان وجهه وظهر قدحه فهو مقدم على التعديل، كما شرحته في محله من هذا الكتاب، فالرجل أحسن أحواله أن يكون حسن الحديث بعد أن يزول عما يرويه التفرد، فيروي ما يروي غيره، أو يوجد لحديثه أصل من غير طريقه بما يوافقه.
وليس كذلك في هذا الحديث.
(1) أخرجه مسلم (رقم 2664).
(2)
انظر ترجمته في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 477) و " الطبقات " لابن سعد (ص: 396 _ التتمة)" وتهذيب الكمال "(9/ 133).
وعلى هذا المعنى يحمل ما روي من حديث أبي حميد وأبي أسيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا سمعتم الحديث عني، تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه ".
وهذا _ فيما أرى _ حديث في صحته نظر (1)، ولو صح فمحمله: أن يكون شعور العارف بالسنن المخالط للعلم النبوي، المجتهد في البراءة من الهوى، دليلاً على علة في الرواية، لا يجرؤ على القول بها والطعن على الحديث حتى يقف على وجهها.
* * *
(1) جمعت طرقه، وبينت علله في كتابي " علل الحديث "، وقد أخرجه أحمد (25/ 456 رقم: 16058 _ الرسالة و 5/ 425) وابن سعد في " الطبقات "(1/ 387) والبزار (رقم: 187 _ زوائده) والطحاوي في " شرح مُشكل الآثار "(15/ 344 رقم: 6067) وابن حبان في " صحيحه "(رقم 63) وغيرهم.