الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
الحديث الضعيف في فضائل الأعمال
شاع عند أكثر المتأخرين التساهل في الأحاديث الضعيف في فضائل الأعمال، وأطلق بعضهم عده مذبها ًلأهل العلم من أئمة الحديث، وتحرير القول في صحة هذا المذهب لا بد له من سياق المنقول عن أهل العلم من أئمة الحديث ممن يتعلق بنسبة ذلك إليهم، وتبيين مرادهم به.
فأما النصوص المروية عنهم، فجاءت عن: سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وأبي زكريا العنبري، فإليكها:
1 _
روي عن سفيان الثوري لإسناد ضعيف، قال:" لا تأخذوا هذا العلم في الحلال والحرام إلا من الرؤساء المشهورين بالعلم الذين يعرفون الزيادة والنقصان، ولا بأس بما سوى ذلك من المشايخ "(1).
2 _
وصح عن عبدة بن سليمان، قال: قيل لابن المبارك، وروى عن
(1) أخرجه ابن عدي (1/ 257) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 212) _ والرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 406، 417 _ 418) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1266) من طرقٍ عن رواد بن الجراح، عن سفيان، به.
قلت: وإسناده ضعيف، رواد ضعيف الحديث، والأسانيد بهذا الخبر إليه غير نقية.
رجل حديثاً، فقيل: هذا رجل ضعيف، فقال:" يحتمل أن يروى عنه هذا القدر أو مثل هذه الأشياء ".
قال أبو حاتم الرازي: قلت لعبدة: مثل أي شيء كان؟ قال: " في أدب، في موعظة، في زهد، أو نحو هذا "(1).
3 _
وصح عن عبد الرحمن بن مهدي، قال:" إذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والأحكام شددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال. وإذا روينا في فضائل الأعمال والثواب والعقاب والمباحات والدعوات، تساهلنا في الأسانيد "(2).
وروي عن أحمد بن حنبل نحوه، ولا بثبت عنه (3).
4 _
وروي عن أحمد بن حنبل، قال:" أحاديث الرقاق يحتمل أن يتساهل فيها، حتى يجيء شيء فيه حكم"(4).
5 _
وقال أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري (أحد الثقات): " الخبر إذا ورد لم يحرم حلالاً ،لوم يحل حراماً، ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيب أو ترهيب، أو تشديد أو ترخيص، وجب الإغماض عنه والتساهل في رواته "(5).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 30 _ 31) وإسناده صحيح .......
(2)
أخرجه الحاكم في " المستدرك "(1/ 490 بعد رقم: 1801) وفي " المدخل إلى كتاب الإكليل "(ص: 29) والبيهقي في " دلائل النبوة "(1/ 34) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1267) وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 213) بإسناده إلى أحمد أنه قال: " إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال وما لا يَضع حُكماً ولا يَرفعه تساهلنا في الأسانيد "، وفي إسناده أحمد بن مُحمد بن الأزهر السجزي مُتهم بالكذب.
(4)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 213) عن كتاب " العلل " لأبي بكر الخلال، وهو كتاب لا يرويه الخطيب بسندٍ مُتصل، بل يقول فيه:" حُدثت عن عبد العزيز بن جعفر، أخبرنا الخلال "، ولولا ذاك فهو خبرٌ صحيح عن أحمد.
(5)
أخرجه الخطيبب في " الكفاية "(ص: 213) بإسناد صحيح.
قلت: هذه النصوص عن هؤلاء الأئمة دلت جميعاً على أن الأحاديث التي تروى في غير إثبات الشرائع والأحكام، كانوا يتساهلون في روايتها وكتابتها عن الضعفاء؛ وذلك لثبوت أصولها في الجملة، ولكونها لم تأت بحكم ليس في المحفوظ المعلوم.
وليس في شيء من قولهم جواز الحكم بنسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إنما غايته جواز ذكرها وكتابتها في الكتب، وإن لم يوجد ما يشدها لذاتها.
ومن هذا أيضاً قولهم في بعض الرواة: يقبل في الرقائق وشبهها، لا في الأحكام، ومن أمثلته:
1 _
قال سفيان بن عيينة: " لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره "(1).
2 _
وقال أحمد بن حنبل في (رشدين بن سعد): " رشدين ليس به بأس في أحاديث الرقاق "(2).
3 _
وسئل أحمد بن حنبل عن (النظر بن إسماعيل أبي المغيرة)؟ فقال: " قد كتبنا عنه، ليس هو بقوي، يعتبر بحديثه، ولكن ما كان من رقائق "(3).
4 _
ونقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال: " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " ،
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل "(ص: 41) وفي " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 435) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 212) _ من طريق يحيى بن المغيرة، قال: سمعْت ابن عيينة، به. وإسناده صحيح.
(2)
هوَ من رواية الميموني عن أحمد في " العلل " رواية المروذي وغيره (النص: 481)، وكذلك أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(2/ 67).
(3)
العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 218) .......
وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام (1).
وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)؟ فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول، ويخرجه في (المسند)، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: " لم يكن يحتج به في السنن"(2).
قلت: وهذه العبارات وشبهها في الرواة، صريحة في منع قبول الحديث في إثبات حكم شرعي إلا من طريق الثقات المتقنين، إنما يتسهل عمن دونهم في نقل ما ليس بشرائع، وهذا لا يتعدى كتابة حديث هؤلاء، وجواز إيراده في الكتب في غير أبواب الشرائع، تارة لاعتنائهم به، كابن
(1) أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن مَعين "(النص: 231) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النبوة "(1/ 37 _ 38).
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(1/ 230) وإسناده جيد.
قلت: وقد عابَ ابنُ حزم على من ذهب هذا المذهب في الرجال، فقال:" مما غلطَ فيه بعْضُ أصْحاب الحديث أن قال: فلانٌ يُحتمل في الرقائق، ولا يُحتمل في الأحكام "، قال:" وهذا باطل؛ لأنه تقسيم فاسدٌ لا برْهان عليه، بل البرهان يُبطله، وذلك أنه لا يخلو كلُّ أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق، فإن كان غير فاسق كان عدْلاً، ولا سبيل إلى مرْتبةٍ ثالثة، فالعدل ينْقسم إلى قسميْن: فقيه، وغير فقيه، فالفقيه العدْل مقبولٌ في كل شيء، والفاسق لا يُحتمل في شيء، والعدْل غير الحافظ لا تُقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء؛ لأنَّ شرْط القبول الذي نصَّ الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه، ومنْ كان عدْلاً في بعْض نقْله فهو عدْلٌ في سائره، ومن المحالِ أن يجوز قبول بعض خبره ولا يجوز قبول سائره، إلا بنصٍّ من الله تعالى، أو إجماع في التفريق بين ذلك، وإلا فهو تحكُّم بلا برْهانٍ، وقوْلٌ بلا علم، وذلك لا يحلُّ ". (الإحكام في أصول الأحكام 1/ 143).
قلت: وهذا استدْراك ضعيف، فإنَّ الحفْظ يتفاوت، والخطأ فيه واردٌ، والواقع مثْبتٌ أن الراوي يعتني بحديث بعْض شيوخه فيكون له مُتقناً، دون حديثه عن غيرهم، فلا يأتي بالحديث على وجهه، وهذا مُتميزٌ في عدد من الرواة، فإن رددْنا جميع حديثه، أنْكرنا ما هو صحيح محفوظ منه مما أمكننا معرفته وتمييزه، وإن قبلْنا جميع حديثه، قبلْنا منه الخطأ وما لم يحْفظه من الحديث، كذلك هنا جهةُ التفريق حاصلةٌ فيما يرويه الراوي الصدوق الذي لم يرْق صدْقه إلى درجةِ الاحتجاج؛ لسوءِ حفظه، يروي ما له أصْلٌ معروف من الأحكام من غير طريقه، ولا يأتي في حديثه إلا بترغيب أو ترهيب مثلاً، فهذا لا يثْبت بما نقله شريعةٌ، وإنما قصد من ذهب إلى التسهيل فيه أن الرقائق لا يُطلب فيها التشديد لعدم إضافتها إلى الدين ما ليس منه.
إسحاق في " السير والمغازي "، وتارة لخفة أمر ما ينقلونه ورجوعه في الجملة إلى فضيلة عمل معلوم الثبوت في نفسه من غير طريق الضعيف.
ويبين ابن تيمية الوجه في ترخيص من رخص من العلماء بالضعيف في الفضائل، فيقول:" أحمد بن حنبل وغيره من العلماء جوزوا أن يروى في فضائل الأعمال ما لم يعلم أنه ثابت إذا لم يعلم أنه كذب، وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله، حديث لا يعلم أنه كذب، جاز أن يكون الثواب حقا، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. وهذا كما أنه لا يجوز أن يحرم شيء إلا بدليل شرعي، لكن إذا علم تحريمه، وروي حديث في وعيد الفاعل له، ولم يعلم أنه كذب، جاز أن يرويه، فيجوز أن يروى في الترغيب والترهيب ما لم يعلم أنه كذب لكن فيما علم أن الله رغب فيه أو رهب منه بدليل آخر غير هذا الحديث المجهول حاله "(1).
قلت: فهذا وجه هذه المسألة عند من قال بها من الأئمة، دون تعرض منهم إلى صيغة الأداء لمثل هذا الحديث.
وعلمنا من النظر في صنيعهم أنهم تركوا من المجروحين خلائق ومنعوا من الحديث عنهم بشيء، وعلمنا أن منهم من كانوا يستعملون (الحديث الحسن) بالمعنى الاصطلاحي فيسمونه (الضعيف)، كما وقع من أحمد بن حنبل، وعلمنا منهم من يعتبر قلة ما أتى به الراوي من المنكرات في الأصول، ويحترز عما تبين فيه خطؤه في غير الأصول، ويخرج ما لا ينبني عليه عمل، إعمالاً لصدق ذلك الراوي في الجملة، كما وقع للبخاري حين جرح في " الصحيح " أحاديث لجماعة في الرقائق وتحاشاهم في الأحكام.
(1) قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص: 162 _ 163) .......
فاعتبار ذلك منهم واجب لفهم طبيعة ما قصدوه من التسهيل في هذه المسألة.
كذلك، فإن أولئك المرخصين فيه من السلف، معلوم عنهم سياق الإسناد، كما يدل عليه المعهود من صنيعهم، وما تشير إليه عباراتهم المتقدمة من تعيين التساهل في الأسانيد، فيحدثون بالشيء من تلك الأخبار بأسانيدها، ومن أسند فقد أحال، والإسناد لمن يفهمه، لا لمن لا يفهمه.
وهذا المعنى بهذا القدر لم يجر عليه حال المتساهلين من المتأخرين في هذه المسألة، بل إنهم جاوزوا طريقة أولئك العلماء من السلف في ثلاثة أمور ضرورية:
أولها: أنهم حذفوا الإسناد غالباً، وكان السلف يسوقون الأسانيد.
وثانيها: أنهم ترخصوا في التحديث به للعامة منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، دون بيان، والعامة ربما اعتقدوا بسماعه أو قراءته في الكتب صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وثالثها: أنهم جاوزوا فيه الضعيف الصالح للاعتبار، إلى الواهي والمنكر والموضوع.
فمن فعل هذا لم يصح له دعوى الاقتداء بترخيص من ترخص بذلك من السلف، لتجاوزه الصفة التي قصدوا .......
فلما رأى بعض أعيان الأئمة المتأخرين ذلك التوسع عمدوا إلى ضبط التسهيل في هذه المسألة بشروط، هي ضوابط لازمة للتحديث بالحديث الضعيف في الفضائل لمن رأى اختيار هذا المذهب، فإليكها محررة من عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني، قال رحمه الله:
" إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة:
الأول: متفق عليه، أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.
الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً.
الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
قال: الأخيران عن ابن عبد السلام، وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه " (1).
قلت: وهذه قيود لا يفهمها إلا من له بالحديث عناية، يميز شديد الضعف من خفيفه، أما أن يسترسل في ذلك من ليس الحديث مهنته فهذا يخشى عليه الوقوع في جملة القائلين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل.
* * *
(1) نقل هذا النص عن ابن حَجر تلميذه: الحافظ السخاوي في " القول البديع "(ص: 363 _ 364) عن خطِّ ابنِ حجرٍ كتبَ له به .......