الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
تمييز ما يصلح للاعتبار
عماد مسألة ما يصلح للاعتبار وما لا يصلح يقوم على أساسين:
الأول:
صلاحية الراوي
.
وذلك أن يكون الراوي محل الاعتبار لم يبلغ حديثه في الضعف درجة السقوط.
وللناقد الخبير أبي عبد الله الذهبي تصوير دقيق لمنازل الرواة يقرب فهم هذه المسألة، قال: " منهم هو العدل الحجة، كالشاب القوي المعافى.
ومنهم من هو ثقة صدوق، كالشاب الصحيح المتوسط في القوة.
ومنهم من هو صدوق، أو لا بأس به، كالكهل المعافى.
ومنهم الصدوق الذي فيه لين، كمن هو في عافية، لكن يوجعه رأسه أو به دمل.
ومنهم الضعيف الذي تحامل، ويشهد الجماعة محموماً، ولا يرمي جنبه.
ومنهم الضعيف الواهي، كالرجل المريض في الفراش، وبالتطبيب ترجى عافيته.
ومنهم الساقط المتروك، كصاحب المرض الحاد الخطر.
وآخر، حاله كحال من سقطت قوته، وأشرف على التلف.
وآخر، من الهالكين، كالممحتضر الذي ينازع.
وآخر، من الكذابين الدجالين " (1).
قلت: فهذا توضيح لصفة أحوال الرواة، فإذا استثنيت الصدوق ومن فوقه، وجدت سائر الأوصاف تعود في جملتها إلى قسمين:
الأول: من يمكن أن يعالج حديثه من الرواة تبعاً لحاله في المرض.
والثاني: ما لا سبيل إلى علاجه؛ لتمكن المرض، أو لبلوغه مبلغ الهلاك.
والصالح للاعتبار من هؤلاء: من أمكن علاج علته، وهذا ما كان ضعفه ناتجاً عن سوء حفظه، وكثرة خطئه، أو ورود مظنة ذلك عليه كالمجهول.
فبالنظر للأنواع المتقدمة للحديث الضعيف، نجد ما يمكن علاجه مما يعود ضعفه إلى ضعف راويه، ما يلي:
أولاً: حديث المجهول والمستور.
وينبغي أن يلاحظ فيه التسهيل في الاعتبار بمجاهيل التابعين، ومزيد الاحتياط فيمن بعدهم.
وذلك أن الكذب في التابعين كان قليلاً نادراً؛ لقرب العهد من نور النبوة، ولعدم ظهور الشره في الحديث الذي أصاب من بعدهم مما حمل كثيرين على الكذب ووضع الحديث.
(1) ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 171).
قيل لزيد بن أسلم (وهو من صغار التابعين): عمن يا أبا أسامة؟ قال: " ما كنا نجالس السفهاء، ولا نحمل عنهم "(1).
كذلك مما يوجب التشديد في الاعتبار بحديث المجهول في الطبقات المتأخرة، خصوصاً مجهول العين: ما عرف من طائفة من الرواة من تدليس الأسماء، فربما كان ذلك المجهول شيخاً واهياً لم يتعين أمره للتدليس.
ولا شك أن تمييز من يفعل ذلك من المدلسين طريق لتوقي حديث مثل هؤلاء المجهولين.
غير أن الشأن في الجملة: صحة الاعتبار برواية المجهول، وإن كان مجهول العين، كشأن الاعتبار بالحديث المنقطع، من جهة الجهالة بعين الساقط.
قال الدارقطني: " من لم يرو عنه إلا رجل واحد، انفرد بخبر، وجب التوقف عن خبره ذلك حتى يوافقه غيره "(2).
وإذا صح الاعتبار برواية مجهول العين، صح بالأولى الاعتبار برواية مجهول الحال والمستور، خصوصاً أن الأخيرين ربما صرنا إلى الحكم بقبول حديثهما لذاته، وذلك عند استيفاء شروط الحسن.
ثانياً: حديث سيء الحفظ، وهو راوي الحديث الذي يضعف بسبب لينه، لا من يبلغ الترك لغلبة خطئه.
وهذا من أكثر ما اعتنى أئمة الحديث بالاعتبار به، وأكثر ما جرى عليه الترمذي فيما حسنه من الحديث لغيره إنما كان من روايات هذا الصنف، والمعنى فيه ظاهر فإن الصدق في الجملة ثابت للراوي، وسوء حفظه لم يغلب الخطأ على حديثه، فحيث نجد ما يشده فإن قبول حديثه متعين؛ لزوال الشبهة.
(1) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه "(1/ 441) وإسناده حسن .......
(2)
سنن الدارقطني (3/ 174) .......
ويندرج في جملته: حديث الثقة المختلط الذي عرف أنه حدث به بعد اختلاطه، وحديث من عرف بقبول التلقين.
ثالثاً: من وقع الاضطراب في حديثه؛ لكون ذلك واقعاً بسبب سوء الحفظ، والاضطراب تكافؤ في الوجوه، فإذا وجد المرجح تعين المصير إليه، والمرجح قد يكون إلى جانب القبول.
رابعاً: من وقع في حديثه الاختلاف، فرد لأجله، فإن لم يتعين في ذلك الاختلاف الخطأ، ووجد المرجح إلى جهة القبول وجب المصير إليه والاعتداد بذلك الراوي، إذ ما خشيناه من مظنة خطئه قد زال.
وما لا يمكن علاجه منها، ما يلي:
أولاً: الراوي الموصوف بكونه (منكر الحديث)، أو (متروك الحديث)، أو (شديد الضعف)، أو بأي عبارة تقتضي الوهاء.
ثانياً: الراوي المتهم بالكذب، أو سرقة الحديث، وأولى منه من يثبت ذلك عليه.
فإن قلت: ربما روى الواحد من هذا الصنف أو الذي قبله ما يرويه الثقات، فهل يعتبر بما يوافق فيه الثقات أم لا؟
قلت: وجدنا من الناس من المتأخرين من يغتر بتلك الموافقات، والتحقيق: منع الاعتبار بروايات هذين الصنفين، وإن وقعت موافقة لروايات الثقات، والعلة في ذلك: ما يقع في رواياتهم من التحديث بما ليس من حديثهم المسموع لهم، سرقة، أو تشبيهاً عليهم، أو تلقيناً لهم، أو دسا في كتبهم.
فالواجب النظر إلى روايات هؤلاء بمنزلة المعدوم في هذا الباب.
ومن كلام الأئمة في توكيد هذا الأصل في التمييز بين من يعتبر به ومن لا يعتبر به، ما يلي:
قال الترمذي بعد ذكر (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى)
و (مجالد بن سعيد): " إذا تفرد أحد من هؤلاء بحديث ولم يتابع عليه، لم يحتج به، كما قال أحمد بن حنبل: ابن أبي ليلى لا يحتج به، إنما عنى إذا تفرد بالشيء "(1).
قلت: فهذا دال على أن حديث هذا الصنف صالح عند عدم التفرد.
وقال أحمد بن حنبل: " ما حديث ابن لهيعة بحجة، وإني لأكتب كثيراً مما أكتب أعتبر به، ويقوي بعضه بعضاً "(2).
فإن كان من أحاديث متهم أو متروك أو منكر الحديث، ممن هو شديد الضعف، فهذا لا يعتبر بحديثه عندهم.
قال أحمد بن حنبل في الفرق بين النوعين: " الحديث عن الضعفاء قد يحتاج إليه في وقت، والمنكر أبداً منكر "(3).
وبين ذلك بأكثر من هذا في روية أخرى، قيل له: فهذه الفوائد التي فيها المناكير، ترى أن يكتب الحديث المنكر؟ قال:" المنكر أبداً منكر "، قيل له: فالضعفاء؟ قال: " قد يحتاج إليهم في وقت " كأنه لم ير بالكتاب عنهم بأساً (4).
قلت: وجه ترك كتبة المنكرات، عدم صحة الاعتبار بها؛ لأن الاعتبار لا يكون بما ليس له أصل، والمنكرات لا أصول لها.
أما أحاديث الضعفاء التي يوجد ما يشدها فهذه تكتب؛ لأن لها أصلاً.
وكذلك صنع أحمد في " مسنده " فإن أكثره من رواية الثقات المتقنين، وفيه روايات الضعفاء الذين تعرف أحاديثهم أو معانيها من وجوه أخرى، إلا
(1) كتاب (العلل) في آخر " الجامع "(6/ 239).
(2)
أخرجه الخطيب في " الجامع "(رقم: 1583) وإسناده صحيح.
(3)
العلل، رواية أبي بكر المروذي (النص: 287).
(4)
مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 167) .......
قليلاً جداً مما يمكن وصفه بالنكارة، ولم يجر من أحمد على سبيل القصد مع تبينه لنكارته.
قال الجوزجاني في (سعيد بن سنان أبي مهدي الحمصي): " كان أبو اليمان يثني عليه في فضله وعبادته، قال: كنا نستمطر به. فنظرت في حديثه فإذا أحاديثه معضلة، فأخبرت أبا اليمان بذلك، فقال: أما إن يحيى بن معين لم يكتب منها شيئاً، فلما رجعت إلى العراق ذكرت أبا المهدي ليحيى بن معين، وقلت: ما منعك يا أبا زكريا أن تكتبها؟ قال: من يكتب تلك الأحاديث؟ من أين وقع عليها؟ لعلك كتبت منها يا أبا إسحاق؟ قلت: كتبت منها شيئاً يسيراً لأعتبر به، قال: تلك لا يعتبر بها، هي بواطيل "(1).
قلت: وعند بعض النقاد لا يترك حديث الراوي حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، وعلى هذا فمن لم يتفق على ترك حديثه فهو عند هذه الطائفة صالح للاعتبار.
وهذه طريقة أحمد بن صالح المصري.
قال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وذكر مسلمة بن علي، قال:" لا يترك حديث رجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه، قد يقال: (فلان ضعيف)، فأما أن يقال: (فلان متروك) فلا، إلا أن يجتمع الجميع على ترك حديثه "(2).
وكذلك جاء عن أحمد بن شعيب النسائي، أنه لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على ترك حديثه (3).
لكن هذا يجب أن يكون مشروطاً بعدم ظهور وجه الجرح الذي يسقط
(1) أحوال الرجال، للجوزجاني (النص: 301) والكامل، لابن عدي (4/ 399). واسم أبي اليمان: الحكم بن نافع.
(2)
المعرفة والتاريخ (2/ 191) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 181).
(3)
النكت على ابن الصلاح، لابن حجر (1/ 482) .......