الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومن أجله قال عبد الرحمن بن مهدي: " حديث أهل الكوفة مدخول "(1).
مذاهب أهل العلم في خبر المدلس:
ذهب بعض السلف مذهباً شديداً في التدليس، حتى عده بعضهم بمنزلة الكذب، مع أن الواقع العلمي أننا رأيناهم جميعاً لا يجعلون التدليس جرحاً يرد به حديث الراوي مطلقاً، وإنما يرد ما عرف أنه دلس فيه، أو ما ظن أنه دلس فيه بمجرد عنعنته على قول آخرين.
فلم يكن وقوع التدليس من الراوي قادحاً عندهم في عدالته، مع ما جاء عن طائفة من عيبه وإنكاره.
قال حماد بن زيد وعوف الأعرابي: " التدليس كذب "(2).
وقال شعبة بن الحجاج: " التدليس أخو الكذب "(3).
وقال: " لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أدلس "(4).
وقال أبو عاصم النبيل: " أقل حالات المدلس عندي، أن يدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور "(5).
(1) أخرجه ابن عدي (1/ 242) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1879) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن عدي (1/ 106 _ 107) بإسناد حسن عن حماد، وصحيح عن عوْف.
(3)
أخرجه ابن عدي (1/ 107) والخطيب في " الكفاية "(ص: 508) من طريق الشافعي، قال: قال شُعبة، به. وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 92) وإسناده صحيح. ورُوي عن عبد الله بن المبارك معناه. أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 509) وفي إسناده أحمد بن محمد بن عمران الجندي وهو ضعيف، ومنهم من اتهمه.
(5)
أخرجه ابنُ عدي في " الكامل "(1/ 107 _ 108) وإسناده صحيح. ورُوي قبله عن حماد بن زيد أيضاً، أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 508 _ 509).
وأما حديث الذي استدلَّ به أبو عاصم، فهو مُتفق عليه من حديث أسماء بنت أبي بكر: أخرجه البُخاري (رقم: 4921) ومُسلم (رقم: 2130).
فهؤلاء شددوا في إنكار التدليس، لكن ليس فيهم من جرح راوياً بالتدليس، فرد حديثه بذلك مطلقاً.
وبين الشافعي فيما سيأتي من عبارته أن التدليس ليس كذباً يرد به كل حديث الراوي، وقال ابن رجب:" هذا أيضاً قول أحمد وغيره من الأئمة "(1).
قلت: التهمة بالتدليس جرح، لكنه نسبي، فهو لا ينافي الثقة، وما من أحد شدد في التدليس إلا روى عمن ذكر به، وشعبة من أظهرهم في ذلك روى عن جماعة من شيوخه من المعروفين بالتدليس، كأبي إسحاق السبيعي والأعمش من أئمة زمانه، فما منعه وقوع ذلك منهم من الرواية عنهم، ولا دعاه إلى الطعن عليهم.
والمذاهب المعتبرة لأهل العلم في حديث المدلس الذي لا يذكر فيه السماع تحصر في الأربعة التالية:
المذهب الأول: قبول روايته مطلقاً ما دام ثقة، ولم يتبين فيها علة قادحة، وإن لم يبين سماعه.
وهذا يمكن أن تنزل عليه مذاهب من رأى قبول المراسيل؛ لأنه في التحقيق أولى بالقبول من المرسل فالمرسلُ قد عمل في الانقطاع جزماً، والمدلس انقطاعه على سبيل المظنة الواردة بسبب العنعنة.
وممن ذهب إلى هذا أبو محمد ابن حزم، فقال: " نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله، وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك، وسواء قال:(أخبرنا فلان)،
(1) شرح علل الترمذي (1/ 356) .......
أو قال: (عن فلان)، أو قال:(فلان عن فلان)، كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند، فإن أيقنا ذلك تركنا الحديث وحده فقط، وأخذنا سائر رواياته " (1).
والمذهب الثاني: منع قبول رواية من عرف بالتدليس ولو مرة واحدة، إلا فيما بين فيه سماعه صريحاً، وردّ ما رواه بصيغة احتمال السماع واحتمال التدليس، كالعنعنة.
وهذا هو مذهب الشافعي، فإنه قال:" ومن عرفناه دلس مرة فقد أبان لنا عورته في رواياته، وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول فيه: حدثني، أو: سمعت "(2).
وقال ابن حبان: " المدلس ما لم يبين سماع خبره عمن كتب عنه، لا يجوز الاحتجاج بذلك الخبر؛ لأنه لا يدري لعله سمعه من إنسان ضعيف يبطل الخبر بذكره إذا وقف عليه وعرف الخبر به، فما لم يقل المدلس في خبره وإن كان ثقة: (سمعت) أو: (حدثني)، فلا يجوز الاحتجاج بخبره "(3).
وقال: " وهذا أصل أبي عبد الله الشافعي، رحمه الله، ومن تبعه من شيوخنا "(4).
قال الخطيب: " وهذا هو الصحيح عندنا "(5).
وقال الخطيب: " فإن قيل: لم إذا عرف تدليسه في بعض حديثه وجب حمل جميع حديثه على ذلك، مع جواز أن لا يكون كذلك؟
(1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 142).
(2)
الرسالة (الفقرات: 1033 _ 1035) .......
(3)
الثقات (1/ 12)، معنى ذلك له أيضاً في " المجروحين "(1/ 92) و " صحيحه "(1/ 161).
(4)
المجروحين (1/ 92).
(5)
الكفاية (ص: 515).
قلنا: لأن تدليسه الذي بان لنا صير ذلك هو الظاهر من حاله، كما أن من عرف بالكذب في حديث واحد صار الكذب هو الظاهر من حاله، وسقط العمل بجميع أحاديثه، مع جواز كونه صادقاً في بعضها، فكذلك حال من عرف بالتدليس، ولو بحديث واحد، فإن وافقه ثقة على روايته وجب العمل به؛ لأجل رواية الثقة له خاصة دون غيره " (1).
والمذهب الثالث: رد رواية من شاع عنه التدليس واشتهر به وكثر منه، حتى يبين سماعه صريحاً. دون من ذكر به، ولم يعرف له كبير أثر على صحة حديثه وروايته في الجملة، فهذا يقبل حديثه وإن عنعن فيه، من أجل ضعف مظنة التدليس، خصوصاً وأن حديث الراوي معروض في العادة على المعروف من حديث الثقات المتقنين، فلدينا بهذا الاعتبار ميزان لكشف أثر تدليسه إن وجد.
كذلك يقال كما سبق: التدليس قدح نسبي في الراوي، مظنته فيمن استقرت ثقة ولم يكثر منه شبيهة بمظنة خطئه، فمع احتمال وقوع ذلك منه، إلا أن روايته مقبولة ما لم يثبت خطؤه فيها.
وعلى هذا المذهب في التحقيق عمل الشيخين، وعليه دلت عبارات كبار أئمة الحديث:
قال يعقوب بن شيبة: سألت يحيى من معين عن التدليس؟ فكرهه وعابه، قلت له: أفيكون المدلس حجة فيما روى؟ أو حتى يقول: (حدثنا) و (أخبرنا)؟ فقال: " لا يكون حجة فيما دلس "(2).
قلت: فابن معين هنا لا يشترط بيان السماع لقبول حديث المدلس، وإنما هو لديه مقبول، إلا فيما ثبت أنه دلس فيه.
(1) الكفاية (518) .......
(2)
أخرجه ابن عدي في " الكامل "(1/ 107) والخطيب في " الكفاية "(ص: 516) وإسناده صحيح.
وقال يعقوب بن شيبة: سألت علي بن المديني عن الرجل يدلس، أيكون حجة فيما لم يقل:(حدثنا)؟ قال: " إن كان الغالب عليه التدليس فلا، حتى يقول: حدثنا "(1).
قلت: فجعل غلبة التدليس على الراوي هي السبب في رد ما لم يبين فيه السماع، دون من لم يغلب عليه وكان يذكر به نادراً.
وكأن من هذا صنيع أحمد بن حنبل في توقفه في قبول رواية لهشيم بن بشير، وهو معروف بالتدليس مشهور به، فقد قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: " حديث ابن شبرمة: قال رجل للشعبي: نذرت أن أطلق امرأتي، لم يقل فيه هشيم: أخبرنا، فلا أدري سمعه أم لا "(2).
كذلك قال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الرجل يعرف بالتدليس يحتج فيما لم يقل (سمعت)؟ قال: " لا أدري "، فقلت: الأعمش، متى تصاد له الألفاظ؟ قال:" يضيق هذا، أي: أنك تحتج به "(3).
قلت: فهذا د ل على توقف أحمد في قبول عنعنة المدلس في حال، وقبولها دون توقف في حال أخرى، فحال التوقف ينبغي أن تحمل على عنعنة من اشتهر أمره بالتدليس وكثر ذلك منه كهشيم، أما من ذكر به وكان كثير الحديث الصحيح المتصل، وشق تتبع ذكره للسماع في كثرة ما روى وندرة أثر ما ذكر به من التدليس، كالأعمش، فهذا يحتج به.
لكن يجب أن يقيد بالقول: ما لم يثبت أنه دلس فيه.
ومن ذلك قول البخاري: " لا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 516 _ 517) وإسناده صحيح.
(2)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 322).
(3)
سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل (النص: 138).
ثابت، ولا عن سلمة بن سهيل، ولا عن منصور _ وذكر مشايخ كثيرة _ لا أعرف لسفيان هؤلاء تدليساً، ما أقل تدليسه " (1).
وقال مسلم بن الحجاج: " وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه حتى تنزاح عنهم علة التدليس "(2).
وقال يعقوب بن سفيان: " حديث سفيان وأبي إسحاق، والأعمش، ما لم يعلم أنه مدلس يقوم مقام الحجة "(3).
قلت: وقد جهدت لأقف لأبي حاتم الرازي أو صاحبه أبي زرعة على حديث أعلاه بمجرد العنعنة من موصوف بالتدليس، فلم أجد، وإنما وجدتهما في شيء قليل يحيلان التهمة بنكارة الحديث على عنعنة المدلس، حيث لم يبين السماع، ولا ريب أن هذا أولى من تخطئة الثقة أو الصدوق أو حمل النكارة في الرواية عليه. وتارة لثبوت التدليس في الحديث المعين (4)، كما رأيت أبا حاتم توقف في بعض الأسانيد خشية التدليس لغلبة المظنة (5).
وجائز حمل عبارة ابن عبد البر على هذا المذهب، حين قال بعد أن ذكر الاتفاق على الإسناد المعنعن:" إلا أن يكون الرجل معروفاً بالتدليس، فلا يقبل حديثه حتى يقول: حدثنا، أو سمعت، فهذا ما لا أعلم فيه خلافاً "(6).
(1) العلل الكبير، للترمذي (2/ 966) .......
(2)
مقدمة صحيح مسلم (ص: 33).
(3)
المعرفة والتاريخ (2/ 637).
(4)
انظر إن شئت: علل الحديث، لابن أبي حاتم (الأرقام: 60، 109، 474، 725، 1221، 2078، 2308، 2579).
(5)
علل الحديث (رقم: 2119، 2463).
(6)
التمهيد (1/ 13).
ولما ذكر ابن رجب مذهب الشافعي في رد خبر المدلس بوقوعه في التدليس مرة، قال:" واعتبر غيره من أهل الحديث أن يغلب التدليس على حديث الرجل " وذكره عن علي بن المديني (1).
والمذهب الرابع: التفريق بين أصناف المدلسين من الثقات، بين من عرف أنه لم يدلس إلا عن ثقة معروف عند أهل العلم بالحديث، وبين من عرف بالتدليس عن المجروحين والضعفاء والمجهولين (2).
وهذا المذهب يجب اعتباره على تفصيل:
فمن قالوا فيه: (لا يدلس إلا عن ثقة) فيجب أن يكون ذلك الثقة معروفاً لأهل العلم، لا بناء على قول الناقد:(فلان لا يدلس إلا عن ثقة)، فذلك الثقة عنده ربما كان مجروحاً عند غيره لو سمي.
ولو قيل: بل نقبل ذلك بإطلاق، ما دام قائله في الراوي من النقاد العارفين.
قلنا: إذا يلزم أن نقبل بإطلاق كذلك خبر الحافظ الناقد المدلس إذا روى لنا عن شيخ له بالعنعنة، من أجل ما أحسناه فيه من الظن: أنه دلسه وهو عنده ثقة، لأنه لو كان يعده مجروحاً فدلسه كان ذلك مما يقدح فيه؛ لما فيه من ضد الأمانة في الدين، والصواب أن حسن الظن هنا لا يغني شيئاً.
وقد بينا في (مباحث التعديل) أن قول الناقد: (حدثني الثقة) ولا يسميه، لا يعتمد عليه، بل هو منزل منزلة المجهول، وفي التدليس لم يقل شيئاً من ذلك، بل أسقطه جملة، فزاد في الريبة، خصوصاً مع استحضار أن المدلس قد يسقط واسطتين أو أكثر.
(1) شرح علل الترمذي (1/ 353 _ 354).
(2)
نقل ابن رجب هذا المذهب في " شرح العلل "(1/ 354) عن الكرابيسي وأبي الفتح الأزدي وبعض فُقهاء الحنابلة، وقال:" هذا بناء على قولهم في قبول المرسل " .......
والواجب تقسيم هذه المسألة إلى صورتين:
الأولى: من عرف بالتدليس عن الثقات في الجملة، كالذي ذكر به سفيان بن عيينة، فهذا إن احتملنا تدليسه عن شيخ في موضع العنعنة، وقلنا: لا يدلس إلا عن ثقة، فحيث جهلنا من يكون ذلك الثقة فهو بمنزلة تصريحه بمن دلسه بصيغة الإبهام فقال:(حدثني ثقة عن ذلك الشيخ)، والراوي إذا أبهم شيخه، فإنه لا يغني في قبول روايته أن يطلق توثيقه دون تسميته، من أجل أنه لو سماه فجائز أن يكون مجروحاً عند غيره، كما تقدم.
فهذه الصورة لا تكاد تختلف عن صورة التدليس عن مجهول، فلا يصح إطلاق القبول فيها.
وقد شبهها ابن حبان بمراسيل الصحابة في القبول (1)، وليس كذلك فإن جهالة الصحابي لا تضر على التحقيق؛ لعدالتهم جميعاً، بخلاف جهالة غيره.
والثانية: أن نكون قد عرفنا من دلسه الراوي إن كان دلس، وكان المدلس ثقة، فهذا لا يقدح في ثبوت الرواية بين المدلس ومن روى عنه.
ومن أمثلة من كانوا يدلسون عن الثقات جماعة، منهم:
1 _
حميد الطويل عن أنس بن مالك.
قال ابن عدي: " الذي رواه عن أنس البعض مما يدلسه عن أنس، وقد سمعه من ثابت "(2).
2 _
يونس بن عبيد وهو من أصحاب الحسن البصري.
(1) في " صحيحه "(1/ 161).
(2)
الكامل (3/ 67) .......