الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحديث لم يتحدث عن غياب للشمس بمعنى انقطاعها عن الأرض، وإنما اعتبر لها حالاً غيبيا عند غروبها عن محل من الأرض، هو السجود تحت العرش، وعلى اعتبار أن الشمس في حال غياب وطلوع دائم لما نعلمه من طبيعة الخلق فهي في سجود لله دائم، وفي استئذان للطلوع دائم، وذلك أنها مسيرة بأمره وتدبيره تبارك وتعالى.
النوع الخامس: مخالفة العقل
وهذا النوع ذكره تكميل من أجل تبيين وجهه؛ لأنه معدوم في روايات الثقات، إنما يوجد ما تتفق العقول على بطلانه في رواية الكذابين الذين حدثوا بالمستحيل.
ولا وجه لافتراضه أصلا في روايات الثقات حيث كان الواقع ينفيه.
وإنما يوجد في بعض الحديث ما لم تستوعب بعض العقول فهمه، تارة للجهل، وتارة للهوى والبدعة وبُغض السنن.
ووقع مثل ذلك عن طوائف من الناس ردوا بمحض العقول نصوصاً تتصل بالغيب، كبعض نصوص الصفات واليوم الآخر، مما لم تنفرد به السنن الصحيحة، وإنما له في القرآن نظائر، وهذا مما لا يجوز أن يكون العقل فيه حاكماً على النص.
وربما وقع من بعض العلماء استشكال معنى حديث صحيح، يحسبه أحدهم أتى على خلاف العقل في ظاهره، فيجتهد في تأويله لا في تعليله، وهذا وإن كان مما ينظر في أفراده وأمثلته، لكنه أقوم طريقاً من طريق من يسارع لرد الحديث وتعليله دون العمل على حمله على أحسن وجوهه.
ومن أمثلة صنيع بعض العلماء: ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالموت كهيئة
كبش أملح، فينادى مناد: يا أهل الجنة، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت "، ثم قرأ:{وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة} ، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا، {وهم لا يؤمنون} [مريم: 39] (1).
قال أبو بكر ابن العربي: " استشكل هذا الحديث لكونه يخالف صريح العقل؛ لأن الموت عرض، والعرض لا ينقلب جسما، فكيف يذبح؟ فأنكرت طائفة صحة هذا الحديث ودفعته، وتأولته طائفة، فقالوا هذا تمثيل، ولا ذبح هناك حقيقة، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح متولي الموت، وكلهم يعرفه؛ لأنه الذي تولى قبض أرواحهم "(2).
قلت: والذي ألجأ إلى ظن مخالفة صريح العقل قياس الغيب على الشهادة، وأمر الآخرة غيب، وقص علينا ربنا تبارك وتعالى من شأنه، وكذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ما لا يأتي على القياس، ولا تتصوره العقول، والله تعالى يخلق ما يشاء، ويحيل ما يشاء إلى ما يشاء، وليس في قدرته مستحيل والوقف عند النص هو اللائق هنا دون التأويل.
وهكذا في جميع ما تظن بعض العقول أنه لا يأتي على مقاييسها من أخبار الثقات المتقنين، فإن بابه كباب هذا الحديث، أو يكون وجهه خفي على مدعي معارضته للعقول.
(1) متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 4453) ومسلم (رقم: 2849).
(2)
نقله ابنُ حجر في " فتح الباري "(11/ 421).