الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
الكتب في الحديث الصحيح
أصح الكتب المصنفة في الحديث الصحيح: صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم، لم يسبقهما في الصحة كتاب له مثل درجتهما، ولا خلفهما كذلك، وهما أول الكتب المجردة في الحديث الصحيح، والبخاري قبل مسلم.
وقد جاء عن الشافعي تقديم (الموطأ) للإمام مالك بن أنس.
فعن يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، قال:" ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من موطأ مالك "(1).
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: " ما بعد كتاب الله تعالى كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك "(2).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدِمة "(ص: 12) و " آداب الشافعي "(ص: 195 _ 196) والبيهقي في " مناقب الشافعي "(1/ 507) وابن عساكر في " كشْف المغطى في فضل الموطَّأ "(رقم: 16) وإسناده صحيح. وأخرجه ابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 77، 79) وابن عساكر كذلك (رقم: 19) نحوه.
(2)
أخرجه أبو نُعيم في " الحلية "(6/ 360 رقم: 8932) وابن عساكر في " كشْف المغطى "(رقم: 20) وإسناده صحيح.
وقال هارون بن سعيد الأيلي: سمعت الشافعي يقول: "ما كتاب بعد كتاب الله تعالى أنفع [للمسلمين] من كتاب مالك بن أنس "(1).
وقال أبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح: سمعت الشافعي يقول: " ما أعلم شيئاً بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك "(2).
قلت: وهذا حكم قبل أن يوجد " الصحيحان "، فإن الناس صنفت الكتب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البخاري ومسلم، فكان " الموطأ " أصح تلك الكتب حديثاً، فهو مقارن بما زامنه إلى عهد الشافعي، فلما ألف " الصحيحان " لم تبق تلك الدعوى صحيحة، خصوصاً وأن مالكاً رحمه الله ضمن كتابه الأحاديث والآثار ورأي نفسه، كما وقع في أسانيد أحاديثه المتصل والمرسل والمنقطع والبلاغات، فلم يجرد للحديث الصحيح المتصل.
نعم، (الموطأ) من كتب الحديث الصحيح، وليس فيه حديث مسند إلا وهو صحيح.
وقد استحق " الصحيحان " التقديم لشدة ما اشترط صاحباهما الإمامان: البخاري ومسلم، ولاجتهادهما في تحقيق شرطهما؛ فإنهما التزما بشروط الحديث الصحيح إلى أقصى حد ممكن، لكن صنيعهما صنيع بشر؛ لذا لم يسلم من مؤاخذات، هي على أحرف يسيرة في " البخاري "، وعلى أحاديث قليلة في " مسلم "، قد ميزت وعرفت.
(1) أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 41) وأبو نُعيم في " الحلية "(9/ 79 رقم: 13182) والجوهري في " مُسند الموطأ "(رقم: 77) والبيهقي في " مناقب الشافعي "(1/ 507) والزيادة له، والخطيب في " الجامع " (رقم: 1564) وابن عبد البر (1/ 76، 77) وابن عساكر في " كشف المغطى "(رقم: 22) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه البيهقي في " المناقب "(1/ 507) وإسناده جيد. ورُوي هذا المعنى الذي قاله الشافعي عن عبد الرحمن بن مَهدي، ولم يثبت عنه. أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 42) .......
والقاعدة: أن كل ما في الصحيحين متلقى بالقبول، محكوم بصحة، وليس فيهما حديث موضوع، ولا منكر، بل ولا ضعيف، إلا أحاديث معللة معدودة في " صحيح مسلم ".
وقد يزعم بعض أهل البدع وجود موضوع أو منكر ساقط فيهما؛ لمجيء بعض الروايات على غير أهوائهم، أو لآخرون ظنوا في بعض الأحاديث مخالفة لمعقولهم فردوها، وفهم معاني الأحاديث يتفاوت فيه الناس كما يتفاوتون في فهم القرآن العظيم، وفوق كل ذي علم عليم.
ولا يهوَّل بما وقع من انتقادات بعض الحفاظ على " الصحيحين " كالحافظ الكبير أبي الحسن الدراقطني، عاب عليهما في التخريج لبعض الرجال، وعاب بعض الأحاديث بالتعليل الخفي، كما في كتاب " التتبع " له.
وسأل السلمي الدارقطني: لم ترك محمد بن إسماعيل البخاري حديث سهيل بن أبي صالح في الصحيح؟ فقال: " لا أعرف له فيه عذراً، فقد كان أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إذا مر بحديث لسهيل قال: سهيل _ والله _ خير من أبي اليمان ويحيى بن بكير، وكتاب البخاري من هؤلاء ملاء "(1).
وقال أبو عثمان سعيد بن عمرو البرذعي: شهدت أبا زرعة ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج، ثم الفضل الصائغ على مثاله، فقال لي أبو زرعة:" هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئاً يتشوفون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه؛ ليقيموا لأنفسهم رياسة قبل وقتها ". وأتاه ذات يوم وأنا شاهد رجل بكتاب (الصحيح) من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال لي أبو زرعة:" ما أبعد هذا من الصحيح ! يدخل في كتابه أسباط بن نصر؟! " ثم رأى في الكتاب قطن بن
(1) سؤالات السلمي (النص: 148) وبنحوه كذلك (النص: 149) .......
نسير، فقال لي:" وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت، جعلها عن أنس "، ثم نظر فقال:" يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه (الصحيح)؟!. . ما رأيت أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى " وأشار أبو زرعة بيده إلى لسانه، كأنه يقول: الكذب، ثم قال لي:" يحدث عن أمثال هؤلاء، ويترك عن محمد بن عجلان ونظرائه، ويطرق لأهل البدع علينا؛ فيجدون السبيل بأن يقولوا لحديث إذا احتج عليهم به: ليس هذا في كتاب (الصحيح) "، ورأيته يذم وضع هذا الكتاب ويؤنبه.
فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه روايته في هذا الكتاب عن أسباط بن نصر، وقطن بن نسير، وأحمد بن عيسى، فقال لي مسلم:" إنما قلت: صحيح، وإنما أدخلت من حديث أسباط وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع، ويكون عندي من رواية من هو أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات " .......
وقدم مسلم بعد ذلك إلى الري، فبلغني أنه خرج إلى أبي عبد الله محمد بن مسلم بن وارة، فجفاه وعاتبه على هذا الكتاب، وقال له نحواً مما قاله أبو زرعة:" إن هذا يطرق لأهل البدع علينا "، فاعتذر إليه مسلم، وقال:" إنما أخرجت هذا الكتاب وقلت: هو صحاح، ولم أقل: إن ما لم أخرجه من الحديث في هذا الكتاب ضعيف، ولكني إنما أخرجت هذا من الحديث الصحيح؛ ليكون مجموعاً عندي وعند من يكتبه عني، فلا يرتاب في صحتها، ولم أقل: إن ما سواه ضعيف " ونحو ذلك مما اعتذر به مسلم إلى محمد بن مسلم، فقبل عذره وحدثه (1).
(1) ساقَ هذه الحكاية بطولها البَرْذعي في " سؤالاته لأبي زُرعة "(2/ 674 _ 677).