الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: رواية الصحابي ما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم
…
.
وهذا ما يصطلح عليه بـ (مراسيل الصحابة).
وقد وقع ذلك من كثير من الصحابة، وأكثره في صغارهم مثل: عبد الله بن عباس، وأنس بن مالك.
فما حكم ما يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكرون فيه السماع؟.
صورة هذه المسألة صورة التدليس، على ما سيأتي بيانه في تعريفه، وذلك أن الصحابي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويروي عنه بالواسطة، وتارة يسقطها، وإسقاط الواسطة بين الراوي وشيخه تدليس.
لكن هل يجوز إطلاق مثل ذلك على ما وقع صنيع الصحابة؟
حُكي عن شعبة بن الحجاج قال: " أبو هريرة كان يدلس "(1).
وهذا خبر واهٍ من جهة الإسناد، والتحقيق: أنه قبيح من جهة اللفظ أن ينسب للصحابة تدليس، فلفظ التدليس وإن كان له معنى اصطلاحي يتناول ما نسميه بمراسيل الصحابة، إلا أن الاصطلاح منشأ من قبلنا، قصدنا به دفع ما وقع من الموصوفين بالتدليس من إسقاط الواسط المجروحة، مما يوهم سلامة الإسناد في الظاهر، وهو أمرٌ حادث بعد الصحابة.
(1) أخرجه ابنُ عدي (1/ 151) _ ومن طريقه: ابنُ عساكر (67/ 359) _ قال: أخبرنا الحسن بن عثمان التُّستري، أخبرنا سلمة بن شبيب، قال: سمعت [يزيد بن هارون، قال: سمعت] شعبة، به.
سقط ما بين المعقوفين من مطبوعةِ ابن عدي ومن مخطوطة أحمد الثالث لكتاب " الكامل "، واستدركتها من ابن عساكر، وهذه الرواية ساقطةٌ بسقوط التستري هذا، فإنه متهم بالكذب.
ووجدت الذهبي ذكر هذا النص في " سير أعلام النبلاء "(2/ 608) وقال بعده: " تدليس الصحابة كثير، ولا عيْب فيه، فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدولٌ ". قلت: وليته بيَّن وهاء الرواية، ولم يعلق بمثل هذا، فزاد على تلك العبارة القبيحة المنسوبة إلى شُعبة أن عمم إطلاق التدليس على ما يقع من إرْسال سائر الصحابة، وهذا أقبح، وكلٌّ يؤخذ من قوله ويُترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم .......
وقد صح عن البراء بن عازب، قال:" ما كل ما نحدثكموه سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن حدثنا أصحابنا، وكانت تشغلنا رعْية الإبل "(1).
وفي رواية، عن البراء، قال: " ما كل ما نُحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه، ولكن سمعناه، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب (2).
وروى قتادة السدوسي عن أنس بن مالك قصة، فقال له رجل: سمعت هذا من أنس؟ قال: نعم، قال رجل لأنس: أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب "(3).
قلت: فهذا يبطل وصف ما وقع من الصحابة من هذا القبيل بالتدليس.
كذلك، فإن النظر في اتصال الإسناد لصحة الحديث إنما يجب أن
(1) أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " المسند "(30/ 450، 458 رقم: 18493، 18498) و " العلل "(النص: 3675، 3676) والحاكم في " المستدرك "(1/ 95 رقم 326) و " المعرفة "(ص: 14) وأبو نعيم في " معرفة الصحابة "(رقم: 1165) وابن حزم في " الإحكام "(2/ 12) من طريقين عن سفيان الثوري، عن إسحاق، عن البراء، به.
قال الحاكم: " هذا حديث له طرقٌ عن أبي إسحاق السبيعي، وهو صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه ".
(2)
أثرٌ صحيح. أخرجه أحمد في " العلل "(النص: 2835) ويعقوب بن سُفيان في " المعرفة والتاريخ "(2/ 634) من رواية وكيع، وجعفرٌ الفريابي في " فوائده " (ق: 80 / ب ظاهرية) وابن عدي (1/ 261) من طريق عليِّ بن مسهر، وكذا ابن عَدي من طريق مالك بن سُعير وإسحاق بن الربيع، أربعتهم عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن البراء، به. وإسناده صحيح.
وخرَّجته كذلك من طريق يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، وفيه سماع أبي إسحاق من البراء، وذلك فيما تقدم من هذا الكتاب في (عدالة الصحابة).
(3)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ "(2/ 633 _ 634) وإسناده حسن.
يراعى فيما دون الصحابي، أما الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يخلو من أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعه من صحابي آخر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يروي الصحابي عن تابعي عن صحابي آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا في صور نادرة تستطرف، ولعلها لا يثبت منها كبير شيء، فحيث عادت (مراسيل الصحابة) إلى وسائط من الصحابة أنفسهم، وهم جميعاً عدول فليس لهذه الصورة إذاً تأثيرٌ في صحة الإسناد، وإن أطلق عليها لفظ (الإرسال).
قال الخطيب في كلامه عن (المرسل): " إن كان من مراسيل الصحابة قبل ووجب العمل به؛ لأن الصحابة مقطوع بعدالتهم، فإرسال بعضهم عن بعض صحيح "(1).
وصحة الاحتجاج بمراسيل الصحابة في الواقع التطبيقي العملي، جرى عليه عامة أهل العلم، فلم يرد أحد حديثاً لابن عباس صح الإسناد به إليه، من أجل كونه كان كثير الإرسال عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لقلة ما سمع منه لصغر سنه يومئذ، فكان أكثر حديثه مما أخذه بالواسطة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يذكر تلك الوسائط في كثير مما حدث به.
وهذا القول هو الذي رجحه الحافظ الخطيب (2)، وحكاه ابن رشيد عن جمهور أهل العلم (3).
وذكر الخطيب أن فيمن رد المرسل من العلماء من رد مراسيل الصحابة، ولم يسم أحداً (4).
وذكره بعض من جاء من بعد عن بعض أهل الكلام (5).
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 291) .......
(2)
الكفاية (ص: 548).
(3)
السنن الأبين (ص: 116).
(4)
الكفاية (ص: 547).
(5)
انظر: جامع التحصيل، للعلائي (ص: 47).
وأن من حجة صاحب هذا المذهب مظنة أن يكون ذلك الصحابي قد سمع ذلك الحديث من تابعي يحتاج أن يميز حاله في النقل، أو أعرابي مجهول.
وهذا القول في التحقيق مهجور لضعف حجته.
* * *