الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
حكم الاحتجاج بالحديث الضعيف
فيما تقدم علمت أن الحديث الضعيف هو الحديث المردود، وذلك إما من جهة رجحان عدم الثبوت، أو القطع بعدم الثبوت، وبين الدرجتين درجات متفاوتة في الضعف، وبناء على تفاوت تلك الدرجات علمت أن منه الضعيف الذي يصلح الاعتبار به، والضعيف الذي لا يصلح الاعتبار به، كما علمت أن المعتبر به منه، هو ما فيه القدرة على النهوض لو وجد مساعداً، وما دون ذلك فهو ساقط.
وعليه فهذا التأصيل يوجب أن لا يتردد في منع الاحتجاج بالقسمين جميعاً، فأما غير الصالح للاعتبار، فظاهر، حيث لا يرجى برؤه، وأما الصالح للاعتبار فلتوقف قبوله على الجابر، فما لم يوجد فهو على الأصل في رجحان الرد .......
قال أحمد بن الحسن الترمذي: كنا عند أحمد بن حنبل، فذكروا على من تجب الجمعة، فلم يذكر أحمد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال أحمد بن الحسن: فقلت لأحمد بن حنبل: فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أحمد: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم. قال أحمد بن الحسن: حدثنا حجاج بن نصير، قال: حدثنا معارك بن عباد، عن عبد الله بن سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" الجمعة على من آواه الليل إلى أهله ".
قال: فغضب علي أحمد، وقال لي:" استغفر ربك، استغفر ربك ".
قال الترمذي صاحب " الجامع " بعد تخريجه: " وإنما فعل هذا أحمد بن حنبل؛ لأنه لم يصدق هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لضعف إسناده؛ لأنه لم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحجاج بن نصير يضعف في الحديث، وعبد الله بن سعيد المقبري ضعفه يحيى بن سعيد القطان جداً في الحديث "(1).
من أجل ذلك اتفق أهل العلم بالحديث على منع الاحتجاج بالحديث الضعيف، وبناء الأحكام عليه بمجرده.
قال ابن تيمية: " لم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع "(2).
قلت: نعم، قد تجد في كلامهم في الأحكام ذكر الضعيف، بل في كلام الفقهاء ما هو واه شديد الضعف، أو ساقط موضوع، وهذا في التحقيق يعود إلى أحد سببين:
الأول: أن يكون الحكم ثابتاً بدليل غير ذلك الضعيف، فيأتي ذكره على سبيل الاستئناس، وهذا قد يتساهل فيه فيما يكون ضعفه غير مسقط.
والثاني: أن يكون المستدل به ممن لا شأن له في تمييز المقبول من المردود، على ما عليه الحال الذي صار إليه أكثر الفقهاء، خصوصاً المتأخرين، فكم تراهم يتداولون الحديث يأخذه اللاحق عن السابق وهو لا أصل له، بل لا يوجد مسنداً في شيء من الكتب البتة، لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ولا موضوع، وكم من حديث لا يروى إلا موقوفاً أو مقطوعاً عدوه مرفوعاً، وهذا ترى أمثلته واضحة في الكتب التي اعتنت بتخريج أحاديث كتب الفقه، كتخاريج النووي والزيلعي وابن الملقن وابن
(1) أخرجه الترمذي في " الجامع "(رقم: 502) وفي (العلل) منه (6/ 233 _ 234).
(2)
قاعدة جليلة في التوسَّل والوسيلة (ص: 162) .......
حجر والألباني، وغيرهم، كذلك الكتب التي اعتنت بتخريج الأحاديث المشتهرة على الألسنة.
ومن عجيب ما تراه في طريقة بعض الفقهاء في شأن هذا النوع من الحديث، أنهم إذا أرادوا الرد على استدلال المخالف لهم في المذهب بالحديث الضعيف اجتهدوا في إبراز ضعف ذلك الحديث، وعملوا على إسقاطه عليه من جهة الضعف، مما يدلك على أن الضعيف عندهم جميعاً مما لا تثبت به الحجاج، ولا يصح به الاحتجاج.
والخطورة في الاحتجاج بالحديث الضعيف تأتي من جهة بناء شيء من الشرائع على الظن المرجوح، كما فيه نسبة تشريع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه جزماً، أو غالباً، ونسبة قول أو فعل لم يثبت عنه جزماً أو غالباً، وهذا لا يسلم صاحبه من الدخول في الوعيد الوارد في القول عليه صلى الله عليه وسلم ما لم يقله.
فعن أبي قتادة الأنصاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: " يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولن إلا حقا أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار "(1).
(1) حديث صحيح.
أخرجه أحمد (5/ 297) وابن أبي شيبة (8/ 761) وابن ماجة (رقم: 35) والدارمي (رقم: 241) والطحاوي في " شرح المشْكل "(رقم: 414) والحاكم (1/ 111 رقم: 379) من طُرق عن محمد بن إسحاق، عن مَعبد بن كعب بن مالك، قال سمعت أبا قِلابة، به.
بيَّن ابن إسحاق سماعه من ابن كعب عند أحمد والحاكم.
قلت: وإسناده جيد وقال الحاكم: " حديث على شرْط مُسلم ".
وله طريق أخرى صالحة عن معْبد بن كعْب مُتابعة لابن إسحاق، عند الطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 413)، وثانيةٌ يعتبر بها من طريق عبد الرحمن بن كعْبٍ بن مالك، متابعة لمعبد عن أبي قتادة بمعناه، عند الحاكم (1/ 112 رقم: 380).
وعن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:" من حدث عني حديثاً، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين "(1).
قال الشافعي في تفسيره: " إذا حدثت بالحديث، فيكون عندك كذباً ثم تحدث به، فأنت أحد الكاذبين في المأثم "(2).
وسأل الترمذي شيخه الإمام أبا محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن هذا الحديث، قال: قلت له: من روى حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ، أيخاف أن يكون قد دخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو إذا روى الناس حديثاً مرسلاً، فأسنده بعضهم، أو قلب إسناده، يكون قد دخل في هذا الحديث؟ فقال:" لا، إنما معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث "(3).
وقال ابن حبان: " إني خائف على من روى ما سمع من الصحيح والسقيم
(1) حديث صحيح.
أخرجه الطيالسي في " مُسنده "(رقم: 895) وابنُ أبي شيبة (8/ 595) وأحمد (33/ 333، 374، 376، رقم: 20163، 20221، 20224) ومسلم في " مقدمة الصحيح "(1/ 9) وابنُ أبي الدنيا في " الصمت "(رقم: 537) وأبو القاسم البغوي في " الجعديات (رقم: 144) وابن القطان في " زوائده " على ابن ماجة (بعد رقم: 40) والطحاوي في " شرح المشكل " (رقم: 422) والخرائطي في " مساوئ الأخلاق " (رقم: 166) وابن أبي حاتم في " العلل " (2/ 287) والطبراني في " الكبير " (7/ 215 رقم: 6757) وابن عدي في " الكامل " (1/ 92) والقطيعي في " الفوائد " (رقم: 316) وابن حبان في " صحيحه " (رقم: 29) و " المجروحين من المحدثين " (1/ 7) وابن قانع في " معجمه " (1/ 306) وأبو نعيم في " مستخرجه " (رقم: 28، 62، 63) والبيهقي في " دلائل النبوة " (1/ 33) والخطيب في " تاريخه " (4/ 161) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 40 _ 41) من طرٍق كثيرة عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن سمرة، به.
قلت وإسناده صحيح. وله شاهد من حديث علي بن أبي طالب، وثانٍ من حديث المغيرة بن شعبة. بينت ذلك في كتاب " علل الحديث " .......
(2)
أسنده ابن عدي في " الكامل "(1/ 207).
(3)
جامع الترمذي (عقب رقم: 2662).
أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كان عالماً بما يروي " (1).
وقال أيضاً: " المحدث إذا روى ما لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما تقول عليه، وهو يعلم ذلك، يكون كأحد الكاذبين، على أن ظاهر الخبر ما هو أشد من هذا، وذاك أنه قال صلى الله عليه وسلم: من روى عني حديثاً وهو يرى أنه كذب، ولم يقل: إنه تيقن أنه كذب، فكل شاك فيما يروي أنه صحيح أو غير صحيح، داخل في ظاهر خطاب هذا الخبر "(2).
وقال الترمذي: " كل من روي عنه حديث، ممن يتهم، أو يضعف لغفلته وكثرة خطئه، ولا يعرف ذلك الحديث إلا من حديثه، فلا يحتج به "(3).
قلت: وفي المنقطع والمرسل بينت اختلافهم في الاحتجاج بهما في محله عند بيانهما، وبينت أن الراجح من مذاهبهم فيهما منع الاحتجاج بما كان كذلك، وكذلك في روايات المجهولين.
لكن لم يقع الخلاف منهم في منع الاحتجاج بما اشتد ضعفه، بل هم متفقون عليه، وظهور ذلك من صنيع أهل العلم من السلف الأولين، ومن جرى على طريقهم من أئمة هذا العلم والعارفين به، في ترك الاحتجاج بالضعيف في الأحكام، حتى ما خف ضعفه، ظاهر مشهور، تغني شهرته عن سياق العبارات فيه، حيث لم يضع هذا العلم بقوانينه الدقيقة إلا لتحاشي مالا تثبت نسبته إلى صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم.
ولم يترخصوا في الحديث الضعيف احتجاجاً به وإن خف ضعفه، ما لم يبلغ القبول، ولكن منهم من ترخص في الاستئناس بالحديث الضعيف غير الساقط في فضائل الأعمال، والترغيب والترهيب، فيما له أصل معروف، وهو الآتي تحريه في المبحث التالي.
(1) المجروحين من المحدثين (1/ 6).
(2)
المجروحين (1/ 7 _ 8).
(3)
كتاب (العلل) من آخر " الجامع "(6/ 234) .......