الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:
الحديث المدلس
تعريفه:
التدليس لغة: كتمان العيب، ومنه التدليس في البيع، وهو كتمان العيب في السلعة على المشتري، فيوهم السلامة منه.
واصطلاحاً: مأخوذ من هذا المعنى، وهو نوعان في الجملة، أولهما يندرج تحت الانقطاع في الإسناد، أما الثاني فليس انقطاعاً، إنما صلته بعدالة الراوي المدلس وضبطه خاصة، وهذا بيان النوعين:
و
النوع الأول: تدليس الوصل
.
وهو قسمان:
القسم الأول: تدليس الإسناد
.
تعريفه: أن يروي الراوي عمن سمع منه ما لم يسمعه منه؛ بصيغة موهمة للاتصال، يقول:(عن فلان) أو (قال فلان) أو شبه ذلك.
وقال الخطيب: " رواية المحدث عمن عاصره ولم يلقه، فيتوهم أنه سمع منه، أو روايته عمن قد لقيه ما لم يسمعه منه، هذا هو التدليس في الإسناد "(1).
(1) الكفاية (ص: 59) .......
قلت: وهذا التعريف قد اشتمل على صورتين لعدم السماع جمعهما الإدراك، وافترقا في ثبوت السماع في الجملة:
فالأولى: إدراك مجرد، دون سماع ذلك الراوي ولا في خبر واحد ممن روى عنه.
والثانية: أنه سمع ممن روى عنه غير ذلك الحديث، وإنما حدث عنه بما سمعه من غيره عنه، فأسقط تلك الواسطة، وروى الخبر بالعنعنة عن ذلك الشيخ.
وطائفة من المتأخرين يسمون الصورة الأولى: (الإرسال الخفي)، مع أن معنى الإيهام موجود فيها، من أجل إدراك الراوي في الجملة لمن أرسل عنه.
وعرف ابن عبد البر هذا النوع من التدليس، بعبارة أدق، تخرج منه الصورة الأولى، فقال:" التدليس: أن يحدث الرجل عن الرجل، قد لقيه، وأدرك زمانه، وأخذ عنه، وسمع منه، وحدث عنه بما لم يسمعه منه، وإنما سمعه من غيره عنه، ممن ترضى حاله أو لا ترضى، على أن الأغلب في ذلك أن لو كانت حاله مرضية لذكره، وقد يكون لأنه استصغره. هذا هو التدليس عند جماعتهم، لا اختلاف بينهم في ذلك "(1).
والمقصود: أن يأتي بصيغة الأداء غير صريحة في السماع، وهي (عن) ومعناها (2).
(1) التمهيد (1/ 15) ونحوه كذلك (1/ 27، 28). وقوله: لا اختلاف بينهم في ذلك "، ظاهره: في حصْر التدليس في هذا المعنى، وليس كذلك، بل تقدم عن الخطيب أنه أدْرج فيه المرسل الخفي، كذلك صح وُجود بعض عبارات الأئمة في التدليس قيلت فيما هو من قبيل الإرسال الخفي، كبعض ما قيل في تدليس الحسن البصري.
(2)
وكن يَقظاً لِما جرى من بعْض المتأخرين من إطلاق وَصف التدليس على مَن روى بطريق الإجازة فقال: (أخبرنا)، فالتدليس رواية بالواسطة، بخلاف الإجازة فلا واسطة بين المجيز والمُجاز .......
والإسناد الذي يقع فيه التدليس إسناد مرسل في ذلك المحل، لكنه صورة خاصة من الإرسال أو الانقطاع، فارقت معنى الإرسال والانقطاع المعروفين فيما يقع فيها من إيهام السماع فذلك بينٌ يسهل إدراكه بخلاف ما يظن أنه مسموع وليس كذلك.
قال الخطيب: " والتدليس يشتمل على ثلاثة أحوال تقتضي ذم المدلس وتوهينه:
فأحدها: إيهامه السماع من لم يسمع منه، وذلك مقارب الإخبار بالسماع ممن لم يسمع منه.
والثانية: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال، وذلك خلاف موجب الورع والأمانة.
والثالثة: أن المدلس إنما لم يبين من بينه وبين من روى عنه؛ لعلمه بأنه لو ذكره لم يكن مرضيا مقبولاً عند أهل النقل؛ فلذلك عدل عن ذكره.
وفيه: أنه لا يذكر من بينه وبين من دلس عنه؛ طلباً لتوهيم علو الإسناد، والأنفة من الرواية عمن حدثه، وذلك خلاف موجب العدالة ومقتضى الديانة، من التواضع في طلب العلم، وترك الحمية في الإخبار بأخذ العلم عمن أخذه " (1).
ومما يبين كيف يقع التدليس في الإسناد: قول الأعمش: قال لي حبيب بن أبي ثابت: " لو أن رجلاً حدثني عنك بحديث ما باليت أن أرويه عنك "(2). وربما أسقط المدلس أكثر من واسطة بينه وبين شيخه، كما قال أحمد بن حنبل وذكر المبارك بن فضالة:" كان يرسل [عن] الحسن "، قيل:
(1) الكفاية (ص: 510 _ 511).
(2)
أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 455 _ 456) بإسناد حَسنٍ.
يدلس؟ قال: " نعم "، قال:" وحدث يوماً عن الحسن بحديث، فوقف عليه، قال: حدثنيه بعض أصحاب الحديث عن أبي حرب عن يونس "(1).
قلت: فأسقط ثلاث وسائط: الراوي الذي لم يسم، وأبا حرب، ويونس بن عبيد.
وقال علي بن المديني: قلت ليحيى (يعني القطان): حديث حماد بن زيد عن أبي عبد الله الشقري، عن إبراهيم، في العبد يتسرى؟ فقال:" بينه وبين إبراهيم ثلاثة " أي لم يسمعه من إبراهيم (2).
وقال الشافعي: حدث شعبة عن حماد عن إبراهيم بحديث، قال شعبة: فقلت لحماد: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن أخبرني مغيرة، قال: فذهبت إلى مغيرة، فقلت: إن حماداً أخبرني عنك بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني منصور، قال: فلقيت منصورا ً، فقلت: حدثني عنك مغيرة بكذا، فقال: صدق، فقلت: سمعته من إبراهيم؟ قال: لا، ولكن حدثني الحكم، فجهدت أن أعرف طرقه فلم أعرفه ولم يمكني (3).
واعلم أن من المدلسين من يعرف بالتدليس كجرح نسبي لحقه في كل ما يرويه بالعنعنة عن جميع من روى عنهم، ومنهم من انحصر تدليسه في بعض حديثه، لا مطلقاً، فهذا لا يجوز تعميم رد ما لم يذكر فيه سماعاً عن كل من روى عنه، فتيقظ للتفريق بين الصنفين.
(1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ "(2/ 633) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 235) وإسناده صحيح. اسم الشقري سلمة بن تمَّام، وإبراهيم هو النخعي، والتسري: أن تكون له الأمة يطأها.
(3)
أخرجه البيهقي في " معرفة السنن والآثار "(1/ 165 _ 166) و " الخلافيات "(رقم " 759، 760) و " مناقب الشافعي "(1/ 527) وإسناده إلى الشافعي صحيح، وهو عند ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " (ص: 218 _ 219) بمعناه. وإبراهيم فيه هو النخعي، وحماد هوَ ابنُ أبي سُليمان، ومغيرة هوَ ابنُ مِقسم الضبي، ومنصور هو ابن المعتمر، والحكم هوَ ابنُ عتيبة .......