الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث:
مقدمات أساسية لكشف العلة الخفية
هذا مبحث معقود لبيان أصول لا بد من مراعاتها قبل تقحم علم تعليل الحديث، إليك بيانها:
المقدمة الأولى: تمييز مراتب الرواة الثقات
.
وهذه أعظم المقدمات، وبيانها في نوعين:
النوع الأول: معرفة مراتب الثقات الذين تدور عليهم الأحاديث الصحيحة وكيف الترجيح بينهم عند اختلافهم.
وذلك كتمييز أصحاب أبي هريرة، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب نافع مولاه، وأصحاب قتادة عن أنس، وأصحاب ثابت البناني عن أنس، وأصحاب الزهري، وأصحاب الحسن البصري، ، وهكذا.
وهذا طريق معتمد عند أئمة النقاد في علم (علل الحديث) يرجحون بتفاوت حفظ الثقات عمن عليهم مدار الحديث.
وذلك التفاوت على صور:
الأولى: المقارنة بين الثقتين في الرواية عن الشيخ الواحد المعين، كالترجيح بين أصحاب الأعمش إذا اختلفوا عليه.
وذلك كقول عثمان الدارمي: " سألت يحيى بن معين عن أصحاب الأعمش، قلت: سفيان أحب إليك في الأعمش، أو شعبة؟ فقال: سفيان أحب إلي في الأعمش. قلت: فزهير أحب إليك أم زائدة؟ فقال: كلاهما، يعني: ثبت. قلت: فأبو معاوية أحب إليك فيه أم وكيع؟ فقال: أبو معاوية أعلم به، ووكيع ثقة. قلت: فجرير أحب إليك أو ابن نمير؟ فقال: كلاهما ، قلت: وابن إدريس أحب إليك أو ابن نمير؟ فقال كلاهما ثقتان، إلا أن ابن إدريس أرفع، وهو ثقة في كل شيء. قلت: فأبو عوانة أحب فيه أو عبد الواحد؟ فقال: أبو عوانة أحب إلي، وعبد الواحد ثقة، قلت: وأبو شهاب أحب إليك فيه أو أبو بكر بن عياش؟ فقال: أبو شهاب أحب إلي من أبي بكر في كل شيء. قلت: فأبو بكر أحب إليك فيه أو أبو الأحوص؟ فقال: ما أقربهما "(1).
والثانية: بين الثقات مطلقاً في الرواية عن الشيخ الواحد المعين.
كقول طائفة من النقاد: " حماد بن سلمة أثبت الناس في ثابت البناني "(2).
وكقول أحمد بن حنبل: " كان عبد الملك بن أبي سليمان من الحفاظ، إلا أنه يخالف ابن جريج في أشياء. قال: وابن جريج أثبت عندنا منه. قال: عمرو بن دينار وابن جريج أثبت الناس في عطاء "(3).
والثالثة: بين الثقتين في جملة شيوخهما.
(1) تاريخ الدارمي (النص: 47 _ 54).
(2)
قال ذلك أحمد بن حنبل (العلل، النص: 1783، 5189)، ويحيى بن معين (سؤالات ابن الجنيد، النص: 172، رواية الدوري النص: 4299، 4483)، وعليُّ بن المديني (الجرح والتعديل 1/ 2 / 142)، ومسلم بن الحجاج (التمييز، ص: 217)، وأبو حاتم الرازي (علل الحديث، رقم 1211، 1212) وغيرهم، بل حكى مُسلم إجماعَ أئمة الحديث على ذلك.
(3)
تاريخ بغداد (10/ 406).
كقول أحمد بن حنبل في (عاصم بن بهدلة): " ثقة، رجل صالح خير ثقة، والأعمش أحفظ منه "(1). وسأله ابنه عبد الله عن أبي أسامة حماد بن أسامة، وأبي عاصم الضحاك بن مخلد: من أثبتهما في الحديث؟ فقال: " أبو أسامة أثبت من مئة مثل أبي عاصم "(2).
ومن هذا الترجيح بين الثقتين في الرواية عن أهل بلدهما، كمنصور بن المعتمر والأعمش في الرواية عن الكوفيين، حيث ذهب كبار النقاد إلى ترجيح منصور، وتنازعوا في روايتهما عن إبراهيم النخعي خاصة، وعلة تقديم منصور كما قال أبو حاتم الرازي: الأعمش حافظ يخلط ويدلس، ومنصوراً أتقن لا يدلس ولا يخلط " (3).
واعلم كذلك أن نقاد المحدثين قد يختلفون في تلك المقارنات النسبية بين الثقات.
قال أحمد بن حنبل: " كنت أنا وعلي بن المديني، فذكرنا أثبت من يروي عن الزهري، فقال علي: سفيان بن عيينة، وقلت أنا: مالك بن أنس، وقلت: مالك أقل خطأ عن الزهري، وابن عيينة يخطئ في نحو من عشرين حديثاً عن الزهري، في حديث كذا، وحديث كذا، فذكرت منها ثمانية عشر حديثاً، وقلت: هات ما أخطأ فيه مالك، فجاء بحديثين أو ثلاثة، فرجعت فنظرت فيما أخطأ فيه ابن عيينة، فإذا هي أكثر من عشرين حديثاً "(4).
قلت: فهذه الحكاية تبين طريقة النظر في ترجيح الثقات بعضهم على بعض.
(1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 918).
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 5980).
(3)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 179).
(4)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 2543).
قال مسلم بن الحجاج: " أن يروي نفر من حفاظ الناس حديثاً عن مثل الزهري أو غيره من الأئمة بإسناد واحد، ومتن واحد، مجتمعون على روايته في الإسناد والمتن، لا يختلفون فيه في معنى، فيرويه آخر سواهم عمن حدث عنه النفر الذين وصفناهم بعينه، فيخالفهم في الإسناد، أو يقلب المتن فيجعله بخلاف ما حكى من وصفنا من الحفاظ، فيعلم حينئذ أن الصحيح من الروايتين ما حدث الجماعة من الحفاظ دون الواحد المنفرد، وإن كان حافظاً، على هذا المذهب رأينا أهل العلم بالحديث يحكمون في الحديث، مثل شعبة، وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أئمة أهل العلم "(1).
قلت: ومثاله تمييز طبقات أصحاب الزهري، ولأئمة الحديث فيهم مقارنات ضرورية الأخذ بالاعتبار، لتمييز المحفوظ من حديث الزهري من غيره.
وقد قسم أبو بكر الحازمي أصحاب الزهري بالنظر إلى جملتهم إلى خمس طبقات (2)، وتبعه على قسمته غير واحد، منهم ابن رجب الحنبلي (3)، إليكها بمزيد تهذيب وزيادة:
الطبقة الأولى: جمعت الحفظ والإتقان وطول الصحبة للزهري، والعلم بحديثه، والضبط له، كمالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ومعمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وعبيد الله بن عمر العمري، محمد بن الوليد الزبيدي، وإبراهيم بن سعد، وصالح بن كيسان، وغيرهم.
والطبقة الثانية: أهل حفظ وإتقان، لكن لم تطل صحبتهم للزهري،
(1) التمييز (ص: 172).
(2)
وذلك في " شروط الأئمة الخمسة "(ص: 151 _ 155).
(3)
في " شرح علل الترمذي "(1/ 399 _ 400).
وإنما صحبوه مدة يسيرة، ولم يمارسوا حديثه، وهم في إتقان دون الطبقة الأولى، كالأوزاعي، والليث بن سعد، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وسليمان بن موسى، ونحوهم.
والطبقة الثالثة: لازموا الزهري وصحبوه ورووا عنه، ولكن تكلم في حفظهم، كسفيان بن حسين، وابن أخي الزهري محمد بن عبد الله بن مسلم، ومحمد بن إسحاق، وأبي أويس عبد الله بن عبد الله المدني، وصالح بن أبي الأخضر، وزمعة بن صالح، ومحمد بن أبي حفصة، وعبد الرحمن بن أبي نمر، وسليمان بن كثير العبدي، وأسامة بن زيد، وجعفر بن برقان، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، ونحوهم.
والطبقة الرابعة: قوم رووا عن الزهري من غير ملازمة ولا طول صحبة، وهم متكلم فيهم مطلقاً، مثل: إسحاق بن يحيى الكلبي، ومعاوية بن يحيى الصدفي، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وإبراهيم بن يزيد المكي، والمثنى بن الصباح، ونحوهم.
والطبقة الخامسة: قوم من المتروكين والمجهولين، كالحكم بن عبد الله الأيلي، وبحر بن كنيز السقاء، وعبد القدوس بن حبيب، ومحمد بن سعيد المصلوب، ونحوهم (1).
ومن مثاله في أصحاب قتادة عن أنس، قول أبي بكر البرديجي: " إذا ورد عليك حديث لسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس مروفوعاً، وخالفه هشام وشعبة (2)، حكم لشعبة وهشام على سعيد، وإذا روى حماد بن سلمة
(1) وانظر عبارات الأئمة في المقارنة بين أصحاب الزهري فيما جمعه ابن رجب في " شرح العلل "(2/ 478 _ 486).
(2)
هشامُ، هو ابن أبي عبد الله الدستوائي، وشعبة هوَ ابن الحجاج.
وهمام وأبان (1) ونحوهم من الشيوخ عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً وخالف سعيد أو هشام أو شعبة، كان القول قول هشام وسعيد وشعبة على الانفراد، فإذا اتفقوا هؤلاء الأولون، وهم: همام بن يحيى وأبان وحماد بن سلمة، على حديث مرفوع، وخالفهم شعبة وهشام وسعيد، أو شعبة وحده، أو هشام وحده، أو سعيد وحده، توقف عن الحديث؛ لأن هؤلاء الثلاثة: شعبة وسعيد وهشام (2) أثبت من همام وأبان وحماد " (3).
النوع الثاني: معرفة من هو ثقة في حال فيقبل حديثه، مجروح في حال فيرد حديثه.
وهم أقسام ثلاثة (4):
أولها: من ضعف حديثه في بعض الأوقات دون بعض.
كالمختلطين للكبر، كسعيد بن أبي عروبة، وسعيد بن إياس الجريري، وعطاء بن السائب.
ومن تغير حفظه بأخرة، كأبي حمزة محمد بن ميمون السكري، بعدما ذهب بصره.
ومن ساء حفظه لكنه صحيح الكتاب، كعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وشريك بن عبد الله النخعي.
وثانيها: من ضعف حديثه في بعض الأماكن دون بعض، وهو ثلاثة أصناف:
الأول: من حدث في مكان ليس معه فيه كتابه فخلط، وحدث في مكان آخر فضبط.
(1) همام هو ابن يحيى، وأبان هو ابن يزيد العطَّار.
(2)
القياس في العبارة النصب، لكن أهمِلتْ (سعيد) من ألف النصب، فضبطْت الجميع بالرفع على تقدير المبتدأ.
(3)
أخرجه الخطيب في " الجامع "(رقم: 1904) وإسناده صحيح.
(4)
هذه القسمة لابن رجب في " شرح العلل "(2/ 522 وما يليها) ولخَّصتها في التالي.
مثل معمر بن راشد في لين حديثه بالبصرة، وقوته باليمن.
والثاني: من حدث عن أهل بلد اعتنى بحديثه عنهم فأتقنه، وعن آخرين فلم يضبطه.
كإسماعيل بن عياش الشامي، فإنه ثقة إذا روى عن أهل بلده، ضعيف في غيرهم.
والثالث: من حدث عنه أهل بلد فضبطوا، وأهل بلد آخر فلم يضبطوا.
كزهير بن محمد التميمي، فإنه ثقة إذا حدث عنه أهل العراق، ضعيف إذا حدث عنه أهل الشام.
وثالثها: من كان ثقة في بعض شيوخه، ضعيفاً في آخرين.
كجعفر بن برقان في روايته عن الزهري خاصة، فهي ضعيفة، وهو ثقة في غيره.
وسماك بن حرب عن عكرمة خاصة ضعيف، ثقة في غيره.
وجرير بن حازم عن قتادة ويحيى الأنصاري في حديثه عنهما خطأ ولين، ثقة حجة عن غيرهما.
ومما يشبه هذا صور:
أولها: من كان رأسا في الحفظ، لكن في حفظ حديث الكبار، فإذا نزل للرواية عن الصغار والأقران لم يتقن.
كالأعمش، إذا روى عن مثل الحكم بن عتيبة وحبيب بن أبي ثابت وأبي إسحاق السبيعي.
ثانيها: من كان إذا جمع رواياته عن الشيوخ لم يتقن، وإذا أفردها أتقنها.
كعطاء بن السائب.