الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
تطبيق لإظهار تحقق شروط الحديث الصحيح
قال الإمام أحمد بن حنبل في " مسنده ": حدثنا ابن نمير، عن مالك _ يعني ابن مغول _، عن محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر:
إن كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول: " رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الغفور " مئة مرة (1).
مخرج هذا الحديث هو أحمد بن حنبل وهو أحد كبار حفاظ الأمة وأئمتها، وكتابه " المسند " من أعظم دواوين الإسلام في حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يشك أهل العلم بالحديث في صحة نسبة هذا الديوان إليه، كما لا يشكون في صحة أصوله التي نشر عنها.
ولما كان أحمد رحمه الله لم يشترط في " مسنده " أن لا يخرج إلا الصحيح، احتجنا للنظر في درجة هذا الحديث.
وترتيب البحث فيه على مرحلتين:
المرحلة الأولى: النظر في إسناد أحمد لهذا الحديث، ويعني أمرين:
أولاً: معرفة أحوال نقلته، بتمييز العدالة والضبط لكل راو.
(1) مُسند أحمد (رقم: 4726) .......
وثانياً: معرفة وقوع الاتصال فيما بينهم من عدمه.
فتحقيق أحوال النقلة على النحو الذي شرحه في (تمييز النقلة)، وباتباع ذلك المنهاج تبين ما خلاصته: أن رواة الإسناد كلهم ثقات، وروى لهم البخاري ومسلم.
وأما الأمر الثاني: وهو سلامة الإسناد من الانقطاع، فإن كل موضع يصرح فيه الثقة بالسماع فإنه يزيل مظنة الانقطاع فيه بينه وبين شيخه، لكن هذا الإسناد كله معنعن، والعنعنة صيغة ليست قطعية بالاتصال، ولا يحكم باتصال الإسناد بها إلا إذا سلم المعنعن من التدليس، وثبت إمكان سماعه ممن فوقه، وقد وجدنا في تراجم رجال هذا الإسناد أن كل راو من رواته ممكن سماعه ممن فوقه، ولم يوصف أحد منهم بتدليس.
فحيث تحقق هذا؛ فهو إسناد متصل برواية الثقات.
المرحلة الثانية: تحقيق السلامة من العلل المؤثرة.
وهذا يتم بتتبع طرق هذا الحديث ومواضع وروده عند أحمد في غير الموضع المذكور، وعند غير أحمد في كتب رواية الحديث الأخرى.
رجعنا فوجدنا الحديث أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه " في موضعين (1)، قال في الموضع الأول: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا مالك بن مغول، وفي الموضع الثاني كما رواه أحمد.
وفيه أن ابن أبي شيبة وهو أحد الأئمة الحفاظ وافق الإمام أحمد على روايته، وهذه (متابعة)، وفي روايته من الفائدة تمييز (ابن نمير) وذكر سماعه من ابن مغول صريحاً.
وتابع أحمد وابن أبي شيبة عليه: أحمد بن عبد الله، ويقال له: ابن
(1) المصنف (10/ 297 _ 298، و 13/ 462).
أبي شعيب الحراني، وهو ثقة، رواه عنه البخاري في كتاب " الأدب المفرد "(1).
ثم وجدنا ابن نمير لم يتفرد بروايته عن مالك بن مغول، بل تابعه جماعة من الثقات، منهم:
1_
أبو أسامة (2)، واسمه حماد بن أسامة ثقة محتج به في " الصحيحين ".
2_
المحاربي (3)، واسمه عبد الرحمن بن محمد، كوفي ثقة احتج به الشيخان، تكلم فيه بعض الحفاظ؛ لأنه كان يروي عن مجاهيل أحاديث منكرة، والعيب فيها من جهتهم لا من جهته، وهو هنا روى عن ثقة.
3_
أبو بكر الحنفي (4)، واسمه عبد الكبير بن عبد المجيد، قال:(حدثنا مالك بن مغول)، وأبو بكر هذا بصري ثقة، احتج به الشيخان.
فهذا ابن نمير لم بنفرد برواية هذا الحديث عن مالك بن مغول، وهل انفرد ابن مغول عن محمد بن سوقة.
لا، بل وجدناه تابعه الحافظ الإمام سفيان بن عيينة فرواه عن محمد بن سوقة (5).
وهل وافق ابن سوقة أحد عن نافع؟ لم نجد ذلك، لكنه ثقة فلا يضره التفرد، لا سيما أنه لم يخالفه أحد.
فإن قلت: فهل تجد أحداً عن ابن عمر غير نافع؟
(1) الأدب المفرد (رقم: 618) .......
(2)
أخرجه أبو داود في " سننه "(رقم: 1516) وابنُ ماجه في " سننه "(رقم: 3814).
(3)
أخرجه الترمذي في " جامعه "(رقم: 3430) وابنُ ماجه في الموضع المتقدم.
(4)
أخرجه النسائي في " عمل اليوم والليلة "(رقم: 458).
(5)
أخرجه الترمذي بعد روايته الماضية، وابنُ حبان في " صحيحه " (رقم: 927) .............
قلت: نعم، وجدته عن ابن عمر من طريقين آخرين، كلاهما عند أهل العلم بالحديث صالح.
فإن قلت: نافع حجة بنفسه لا يتوقف في صحة حديثه حتى يوجد الموافق.
قلت: نعم، لكن البحث قد يدل على مخالفة لنافع مؤثرة في حديثه، لا لاحتياج حديثه إلى عاضد، فحيث جاء الموافق دل على ضعف احتمال المخالفة، خصوصاً وأنك لم تجد مخالفة حصلت لأحد ممن روى هذا الحديث.
بل قد روى غير ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد لأصل هذا الحديث، فجاء معناه من حديث الأغر المزني وحذيفة بن اليمان وغيرهما.
فدل التتبع والبحث على أن هذا الحديث سلم من العلل المؤثرة.
فإن قلت: رأينا بعض من رواه قال في لفظه في آخره: " الغفور "، وبعضهم قال:" الرحيم ".
قلت: هذا واسع في الألفاظ، فإن الله تعالى كذلك، على أنه قد ترجح أن من قال " الغفور " فروايته أقوى وأبين.
وقد وجدنا الإمام الترمذي قال في هذا الحديث: " حديث حسن صحيح " فزاد ذلك الطمأنينة في صحة ما استخلصناه من هذا البحث من الحكم بصحة الحديث.
* * *