الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تكرار الآيتين إما لاختلاف المخاطب، أو للتأكيد بأنه لا ينفع الإنسان إلا عمله وذلك لقطع التعلق بالمخلوقين
.
قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة 141].
• قال السمعاني رحمه الله: " وقوله تعالى: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يعني: أنكم غير مسؤولين عن أعمالهم بل هم المسئولون، فإن قيل: هذا تكرار، فإنه قد ذكره مرة، قلنا: أما الأول: كان في الأنبياء الذين سبق ذكرهم، وهذا الثاني: في اليهود والنصارى الذي سبق ذكرهم، أو كرره تأكيدا ".
(1)
الدراسة:
استنبط السمعاني استنباطين في مناسبة تكرار هاتين الآيتين، وبين أن سبب التكرار إما لاختلاف المخاطب بحيث أن الآية الأولى نزلت في الأنبياء والآية الثانية نزلت في أسلاف اليهود، أو أن سبب التكرار التأكيد وذلك لأجل قطع تعلق القلوب بالمخلوقين فلا ينفع الإنسان إلا كسبه.
الموافقون للسمعاني في استنباطه الأول بأن سبب التكرار اختلاف المخاطب:
قال بعض المفسرين أنه ليس في الآيتين تكرار، وإنما السياق يبين اختلاف من ورد في حقهم الخطاب، قال أبو حيان: " وليس ذلك بتكرار، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره، وإذا كان كذلك، فقد اختلف السياق،
(1)
تفسير السمعاني (1/ 148).
فلا تكرار، بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء، فتلك إشارة إليهم، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى، فالمشار إليه هم، فقد اختلف المخبر عنه والسياق، والمعنى: أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدّمهم، يجازون بما كسبوا، فأنتم أحق بذلك ".
(1)
وممن وافقه على ذلك أيضاً الرازي.
(2)
الموافقون للسمعاني في استنباطه الثاني بأن سبب التكرار هو التأكيد بأنه لا ينفع الانسان الا كسب نفسه وأنه لا يسأل عن أعمال غيره:
خالف بعض أهل التفسير بالقول بأن هذا التكرار لاختلاف السياق، وقالوا بأن الحكمة من التكرار قطع التعلق بالمخلوقين من الآباء وغيرهم من الأسلاف، وأن المعول ما اتصف به الإنسان.
قال حقي: " وهذا تكريرٌ للآية السابقة بعينها للمبالغة في الزجر، عمّا هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على أعمالهم".
(3)
وممن قال به أيضاً البيضاوي، والخازن، والألوسي، وأبو السعود، والشوكاني، والدوسري
(4)
.
(5)
(1)
البحر المحيط (1/ 664)
(2)
انظر: مفاتيح الغيب (4/ 82).
(3)
روح البيان (1/ 197).
(4)
الدوسري: هو عبدالرحمن بن محمد بن خلف آل نادر الدوسري، ولد في البحرين 1332 هـ نشأ في الكويت في بيئة صالحة، درس في المدرسة المباركية، وتأثر بعدد من المشائخ منهم: عبدالله الدحيان، وعبدالرحمن الدويش، وقاسم بن مهزع، وله مؤلفات منها: صفوة الآثار والمفاهيم تفسير، والأجوبة المفيدة لمهمات العقيدة وغير ذلك. توفي عام 1389 هـ. انظر: صفوة الآثار والمفاهيم (1/ 25)، وعلماء نجد خلال ثمانية قرون (3/ 163).
(5)
انظر: أنوار التنزيل (1/ 91)،، ولباب التأويل (1/ 117)، وروح المعاني (1/ 401) وإرشاد العقل السليم (1/ 170)، وفتح القدير (1/ 172)، وصفوة الآثار والمفاهيم (2/ 415).
النتيجة:
يظهر والله أعلم، أن التكرار في هاتين الآيتين لأجل التخويف والتهديد من الاعتماد على عمل الأسلاف وأنّ الإنسان مسؤولٌ عن نفسه، والتأكيد على هذا المعنى يزيد رسوخًا في نفوس الناس، قال ابن عاشور:" تكريرٌ لنظيره الذي تقدم آنفاً لزيادة رسوخ مدلوله في نفوس السامعين اهتماماً بما تضمنه لكونه معنى لم يسبق سماعه للمخاطبين فلم يقتنع فيه بمرة واحدة "
(1)
.
ومما لا شك فيه أنه لو كان هناك دليلٌ على اختلاف المخاطب من سبب نزول أو غيره لقُدّم هذا القول ورُجّح على ما سواه، لكن حقيقة الأمر أنه ليس هناك دليل على ذلك فأصبح القول بذلك تعسفاً، قال الألوسي بعد ذكره لهذا " ولا يخفى ما في هذا القول من التعسف الظاهر ".
(2)
وبالقول الآخر أنه للتأكيد يكون الصواب، والله أعلم سفر المعصية لا يبيح رخصة أكل الميتة.
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة 173].
• قال السمعاني رحمه الله: " ومعنى قوله تعالى: {وَلَا عَادٍ} أي: ولا متعد، عاص في سفره، ففي هذا دليل على أن العاصي في سفره لا يترخص بأكل الميتة".
(3)
(1)
التحرير والتنوير (1/ 748).
(2)
روح المعاني (1/ 401).
(3)
تفسير السمعاني (1/ 169).
الدراسة:
استنبط السمعاني مسألةً فقهيةً في أن العاصي في سفره لا يترخص بما يحتاجه المضطر عند الضرورة، وحجته في عدم الترخص أن الله جعل من شروط الرخصة عدم التعدي.
الموافقون:
وقد وافق السمعاني في استنباطه لهذا الحكم الفقهي الشافعي، وأحمد، ومجاهداً، وسعيد بن جبير، ولم يكن هذا الاستنباط إلا لتفسيرهم لقوله تعالى:{وَلَا عَادٍ} أي ولا متعد في سفره أو متعد على المسلمين، وحجتهم أيضاً أن الرخص لا تنال بالمعاصي.
(1)
وقد ذكر ابن كثير هذا القول ولم يرجحه قال: " وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر، لأن الرخص لا تنال
بالمعاصي".
(2)
المخالفون:
وممن خالف السمعاني في هذا الاستنباط الفقهي أبو حنيفة، ومالك، وشيخ الإسلام بن تيمية بحجتين:
الأولى: قالوا بأن المراد بقوله تعالى: {وَلَا عَادٍ} أي ولا متعد في أكله للميتة، أو ولا متعد على أعراض المسلمين وأموالهم.
(1)
انظر: البحر المحيط (2/ 116)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 31)، وروح المعاني (1/ 440)، واللباب في علوم الكتاب (1/ 506).
(2)
تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/ 31)
الثانية: أن اللفظ على عمومه والعاصي يدخل في جملة المكلفين، وقال ابن خويز منداد
(1)
: «فأما الأكل عند الاضطرار فالطائع والعاصي فيه سواء، لأن الميتة يجوز تناولها في السفر والحضر، وليس بخروج الخارج إلى المعاصي يسقط عنه حكم المقيم بل أسوأ حالة من أن يكون مقيما، وليس كذلك الفطر والقصر» . وأيده على ذلك القرطبي
(2)
، وقال به الجصاص، ووافقه الرازي، وهو اختيار شيخ الإسلام، وابن قدامه، والعثيمين.
(3)
النتيجة:
يظهر بعد وضوح الأدلة أن صراحة الأدلة عند المخالفين للسمعاني بجواز أكل الميتة للمسافر العاصي عند الضرورة، أقوى ممن وافقوا السمعاني، سواء من حيث التفسير الصحيح لبيان معنى الآية بأنها التعدي في الأكل، أو التعدي على المسلمين، وأيضا لإطلاق الآية، قال محمد رشيد رضا:" ولا خلاف بين المسلمين في أن السفر كالذي يباح فيه القصر يباح فيه الفطر وأما العاصي في السفر فهو على دخوله في الإطلاق من جملة المكلفين المخاطبين بالشريعة كلها كغيرهم".
(4)
والله أعلم.
(1)
ابن خويز منداد: هو محمد بن علي بن إسحاق بن خويز منداد، ويقال خواز منداد الفقيه المالكي البصري يكنى أبا عبد الله، وصنف كتبا كثيرة منها كتابه الكبير في الخلاف وكتابه في أصول الفقه، وكتابه في أحكام القرآن وعنده شواذ عن مالك واختيارات وتأويلات لم يعرج عليها حذاق المذهب، توفي في أواخر المائة الرابعة للهجرة. انظر لسان الميزان لابن حجر (5/ 291).
(2)
الجامع لأحكام القرآن (2/ 233).
(3)
انظر: أحكام القرآن للجصاص (1/ 156)، ومفاتيح الغيب (5/ 202)، ومجموع الفتاوى (10/ 348)، والمغني (4/ 38) وتفسير القرآن العظيم لابن عثيمين (1/ 26).
(4)
تفسير المنار (2/ 122).