الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً، والصلاة والسلام على المعلم الأول الذي جاء بشرع الله بشيراً ونذيراً وعلى آله وصحبه وسلم.
علم الخلاف، أو اختلاف العلماء، قديم تضرب جذوره في القرن الأول الهجري، حين كانت حلقات العلم في المساجد تزخر بالمناقشات العلمية الفقهية للآراء المختلفة.
"هذا الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية، كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم خلافاً لابد من وقوعه
…
، واتسع ذلك في الملة اتساعاً عظيماً" (1).
كان المجتهدون من علماء الأمة يناقشون الأوجه المتعددة للقضية، قصدهم من ذلك الوصول إلى الحكم الشرعي الصحيح المبني على المصادر التشريعية من: كتاب، وسنة، وقياس.
"اجتمع الأوزاعي بأبي حنيفة بمكة، فقال الأوزاعي: ما لكم لا ترفعون أيديكم عند الركوع والرفع منه؟ فقال أبو حنيفة: لم يصح عن رسول الله في صلك شيء. فقال الأوزاعي: كيف وقد حدثني
(1) ابن خلدون، عبد الرحمن، مقدمة ابن خلدون (ص 248).
الزهري، عن سالم، عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه، فقال أبو حنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة، ولا يعود لشيء من ذلك؟ فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد، عن إبراهيم؟ ! فقال له أبو حنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر، إن كان لابن عمر صحبة، أو له فضل صحبة، فالأسود له فضل كثير، وعبد الله هو عبد الله. فكست الأوزاعي" (1)، مناقشة هادئة هادفة بين إمامين، للوصول إلى الحق، واحترام كل لرأي الآخر، ودليله.
أما الإمام محمد بن حسن الشيباني فيؤلف كتابه: "الحجة على أهل المدينة"، يناقش فيه آراء المالكية مؤيداً مذهب شيخه الإمام أبي حنيفة، ولا يتردد في ترجيح رأي الإمام مالك إذا تبين له - بعد المناقشة - صحة دليله، وقوته.
في مسألة إمامة المصلي جالساً يقول: "قول أهل المدينة في هذا
(1) الثعالبي، محمد بن الحسن الحجوي، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي (1/ 320 - 321).
أحب إليّ من قول أبي حنيفة، وإن كنت احتججت لأبي حنيفة بحجة ثابتة لم تر أهل المدينة بمخرج منها، لكن بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يَؤُمَّنَّ الناس أحدٌ بعدي جالساً"
…
فأخذنا بهذا لأنه أوثق، وليس الصلاة في فضلها خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم كالصلاة خلف غيره" (1).
"كتاب الأم، وإن كان يمثل فقه الشافعي بخاصة، واجتهاده الجديد بعامة، فإنه مدونة في علم الخلاف (الفقه المقارن)
…
وهو في كافة مسائل الخلاف ملتزم بموضوعية البحث، يحاول إقناع المخالف بما يتوافر لديه من نصوص الكتاب، والسنة، والمعقول، فينقض أدلته تارة، ويصحح مذهبه أخرى، ويلزمه بمبادئه، وقواعده التي يسلم بها، ويتنزل معه تارة في سبيل إقناعه، كل هذا في حوار هادئ، ومناقشة علمية رصينة.
يكاد (باب الخلاف) في كتاب الأم، يكون من العناوين الثابتة
…
لا استخرجت هذه الأبواب من كتاب الأم لكان كتاباً مستقلاً مهماً في الفقه المقارن، بكل أصوله، ومعاييره، يقدم
(1) الشيباني، محمد بن الحسن، الحجة على أهل المدينة، (طبع بمطبعة المعارف الشرقية، حيدر آباد الدكن، 1385 هـ تصوير عالم الكتب، بيروت)(1/ 128 - 129).
للباحثين أنموذجاً رفيعاً في هذا الفن من فنون الفقه عرضاً، وتقريراً، وحواراً، استدلالاً" (1).
وإذا قدم لنا الإمام الشافعي أنموذجاً مثالثاً لعلم الخلاف، (الفقه المقارن)، بحثاً، وتطبيقاً، فقد قدم الإمام أبو حنيفة أنموذجاً آخر لهذا العلم، ولكنه في مجال تدريس الطلاب وتمرينهم لتكوين ملكاتهم في هذا الفن.
"وطريقة أبي حنيفة في تفقيه أصحابه أنه كان عند مدارسته المسائل مع أصحابه يذكر احتمالاً في المسألة، فيؤيده بكل ما له من حول، وطول، ثم يسائل أصحابه أعندهم ما يعارضونه به؟ فإذا وجدهم مشوا على التسليم، بدأ هو بنفسه ينقض ما قاله أولاً، بحيث يقتنع السامعون بصواب رأيه الثاني، فيسألهم عن ما عندهم في الرأي الجديد، فإذا رأى أنه لا شيء عندهم أخذ يصور وجهاً ثالثاً، فيصرف الجميع إلى هذا الرأي الثالث، وفي آخر الأمر يحكم لأحدها بأنه هو الصواب بأدلة ناهضة"(2).
(1) أبو سليمان، عبد الوهاب، منهجية الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الطبعة الأولى (مكة المكرمة، الدار المكية عام 1420 هـ)(ص 70 - 71).
(2)
الكوثري، محمد زاهد، حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي (مطبعة الأندلس، حمص 1398 هـ)(ص 15).
هذا هو منهج الأئمة المجتهدين في علم الخلاف بحثاً، وتطبيقاً، ومدارسة، وتعليماً.
"ثم لما انتهى ذلك إلى الأئمة الأربعة من علماء الأمصار، وكانوا بمكان من حسن الظن بهم، اقتصر الناس على تقليدهم، ومنعوا من تقليد سواهم؛ لذهاب الاجتهاد؛ لصعوبته، وتشعب العلوم التي هي مواده باتصال الزمان، وافتقاد من يقوم على سوى هذه المذاهب الأربعة"(1).
أصبحت المناقشات بين أتباع هذه المذاهب، كل يؤيد مذهب إمامه، ويدافع عنه بالأدلة والبرهان، متمسكاً في ذلك بأصول مذهبه، معتمداً الراجح من أقواله، ولا يتجاوزه إلى رأي مذهب آخر، واضعاً نصب عينيه أن لا ينسب إلى مذهب قولاً إلا إذا كان قد اعتمده، ورجحه علماء ذلك المذهب، وذكر في كتاب معتمد، موثوق به شأنه في ذلك شأن المفتي:"لا يجوز لمن كانت فتياه نقلاً لمذهب إمامه، إذا اعتمد في نقله على الكتب أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته"(2).
(1) مقدمة ابن خلدون (ص 248).
(2)
ابن الصلاح، عثمان بن عبد الرحمن، أدب المفتي والمستفتي (مع فتاوى ومسائل ابن الصلاح، الطبعة الأولى، دار المعرفة، سنة 1406 هـ)(ص 52).
قويت الدعوة في العصر الحديث إلى تجديد الفقه الإسلامي، تجديداً مؤسساً على فتح باب الاجتهاد، استنباطاً لرأي جديد، أو ترجيحاً لقول مذهب من المذاهب، أو عالم من العلماء.
لا شك أن هذا الاتجاه إحياء لعلم الخلاف، وعودة إلى ازدهار الفقه المقارن واعتماده، ليكون المسلك الأساس للدراسات الفقهية، يعود فيها الباحث إلى كتب المذاهب، يستطلع آراء كل مذهب، وما يعتمده ناظراً في أدلته، ومنهج استدلاله، مرجحاً ما قوي دليله من الآراء، مذهبية كانت أم فردية.
كان التلقي المباشر من العلماء المحققين هو النبع الأساسي لمعرفة المعتمد من الآراء في مذهب ما، أما وقد اختفى التلقي - أو كاد - وأصبح الاعتماد الكلي في ذلك على الكتب، وفي خضم المؤلفات الفقهية المذهبية، واختلاف تقويمها: مؤلفاً، وتأليفاً، يجد المتصدي لمقارنة المذاهب، باحثاً كان، أو معلماً، الكثير من الصعوبات في معرفة القول الراجح المعتمد مذهباً في المدارس الفقهية المختلفة، فالوصول إلى معرفة الكتب المتضمنة للآراء المعتمدة مشكلة يواجهها الكثير من الباحثين في مقارنة المذاهب.
أحسست بهذه المشكلة دارساً، وباحثاً، ومدرساً، مما دفعني إلى القيام بمحاولة متواضعة للتعرف على الكتب المتضمنة للآراء
الفقهية المعتمدة مذهباً في ثلاثة من المذاهب السنية، معتمداً في ذلك على آراء العلماء المشهورين، وتقويمهم للكتب المذهبية، ومدى اعتماد ما تضمنته من آراء وترجيحات.
رغبة في أن يستفيد الدارسون والباحثون في مقارنة المذاهب، دونت ما وفقت إليه من بحوث كان باكورتها "المذهب عند الشافعية"(1)، أعقبه "المذهب عند الحنفية"(2).
الكتاب الذي بين يدي القارئ "اصطلاح المذهب عند المالكية" هو ثالث البحوث، آخرها صدوراً، وأولها محاولة وتفكيراً، ولعله آخر المطاف، استغرق إنجازه وقتاً طويلاً لعوامل مختلفة أهمها وأكثرها تأثيراً: طبيعة البحث: مادةً، ومراجعاً، وتحليلاً.
"
…
ليس هذا البحث - كما نرى - مجرد تاريخ وتدوين لحركة مذهب من المذاهب الفقهية في فترة من فترات التاريخ، بل هو دليل مادي على ما قام به بعض علماء الأمة من جهود لبسط مبادئ الشريعة، وفهم أحكامها لحل القضايا والمشكلات التي
(1) نشر في مجلة جامعة الملك عبد العزيز، العدد الثاني، جمادى الثانية 1398 هـ/ مايو 1978 م.
(2)
نشره مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أم القرى، مكة، ضمن الكتاب السادس والعشرين، تحت عنوان:"دراسات في الفقه الإسلامي".