الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) قواعد الترجيح بين المرويات
" إذا اختلف الناس عن مالك فالقول ما قال ابن القاسم"(1).
هذه القاعدة هي أقدم القواعد الترجيحية ظهوراً وتطبيقاً في المذهب المالكي، فقد تمسك بها أهل الأندلس، وطبقوها في القضاء في وقت مبكر من انتشار المذهب خلال المرحلة الأولى، فـ "أهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية، حتى إنهم كانوا لا يولون حاكماً إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم"(2). يصور مدى اعتماد هذه القاعدة لدى قضاة الأندلس ما جرى من الخلاف بين يحيى بن معمر (ت 226 هـ)(3)،
(1) هذا النص جاء معزواً إلى كتاب إقليد التقليد المؤدي إلى النظر السديد.
انظر: ابن فرحون، إبراهيم بن [علي] بن محمد، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 49).
وكتاب إقليد التقليد المؤدي إلى النظر السديد، هو لابن أبي حمزة: أي بكر محمد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن أبي جمرة، توفي سنة (559 هـ). شجرة النور الزكية (ص 162).
(2)
نفح الطيب (4/ 202)، وانظر: تبصرة الحكام (1/ 45).
(3)
يحيى بن معمر، ولي أحكام القضاء بقرطبة مرتين "اعتد من خير القضاة في قصد سيرته، وحسن هديه، وصلابة قناته
…
، كان إذا أشكل عليه أمر من أحكامه
…
، كتب فيه إلى مصر إلى أصبغ بن الفرج وغيره من نظرائه
…
فيجاوبونه بما يعمل عليه، فكأنه بذلك يحقر فقهاء قرطبة
…
، (ت سنة 226 هـ) ".
ترتيب المدارك 04/ 145 - 149)، وانظر: قضاة قرطبة وعلماء إفريقية (ص 70، 71، 76 ت، 78)، تاريخ علماء الأندلس، رقم (1555)، المقتبس (ص 190 - 192)، جذوة المقتبس (ص 379).
وعبد الملك بن حبيب، مؤلف الواضحة، وزعيم المالكية الأندلسيين في عصره، حين أراد ابن حبيب من القاضي أن يعدل عن رأي ابن القاسم إلى رأي أشهب، فيكون جواب القاضي صريحاً: "ما أعدل عن رأي ابن القاسم، فهو الذي أفتيتموني به منذ قعدت هذا المقعد
…
" (1).
وصورة أخرى لمدى تمسك علماء المالكية الأندلسيين برأي ابن القاسم ما ذكر أن أفضل بن سلمة بن حريز (ت سنة 319 هـ)(2) لما رجع إلى بلده، "وجد فقهاءها قد تمكن سؤددهم، وتفننهم في المدونة خاصة. فلما جالسهم، وذكر لهم أقوال أصحاب مالك. قالوا: دع هذا عنك، فلسنا نحتاج إليه، طريقنا كلام ابن القاسم لا غيره"(3).
(1) المقتبس (ص 192)، وانظر: قضاة قرطبة وعلماء إفريقية (ص 77)، ترتيب المدارك (4/ 148).
(2)
فضل بن سلمة بن جرير (جرير): فقيه مقدم حسن النظر، كان من أفقه الناس، وأعرفهم باختلاف مالك ومذهبه، حافظاً متقناً، من أشغف الناس بحب المسائل، وأبصرهم بعلل الوثائق (ت سنة 319 هـ).
انظر: تاريخ علماء الأندلس، رقم (1042)، جذوة المقتبس (ص 327)، ترتيب المدارك (5/ 221 - 223)، بغية الملتمس (ص 443)، الديباج المذهب (2/ 137 - 138)، شجرة النور الزكية (ص 82).
(3)
ترتيب المدارك (5/ 222).
وهذا التمسك بقول ابن القاسم يظهر واضحاً في أن عدد المسائل التي خالف فيها الأندلسيون مذهب ابن القاسم لا تتجاوز ثماني عشرة مسألة (1) كما يراها بعض العلماء.
أما مجال التساؤل عن موقف المدرسة المصرية والقيروانية من هذه القاعدة فضيق؛ إذ أن ابن القاسم هو الزعيم الذي لا ينافس للمدرسة المصرية، ومدونة سحنون - رأس المدرسة القيروانية - هي زبدة آراء ابن القاسم ومروياته عن مالك وأكثرها وثوقاً؛ ولذا فعلى رأي ابن القاسم اعتمد "شيوخ الأندلس وإفريقية"(2).
يقول القابسي: "سمعت أبا القاسم حمزة بن محمد الكناني [ت 357] (3) يقول: إذا اختلف الناس عن مالك، فالقول ما قال ابن القاسم، وبحضرته جماعة من أهل بلده ومن الرحالين، فما سمعت نكيراً من أحد منهم، وهم أهل عناية بالحديث وبعلمه"(4).
(1) المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام (ص 274).
(2)
تبصرة الحكام (1/ 49).
(3)
حمزة بن محمد الكناني: "الإمام الحافظ، القدوة، محدث الديار المصرية، أبو القاسم الكناني، المصري
…
جمع، وصنع، وكان متقناً مجوداً".
مات قبل دخول عسكر المعز مصر بثلاثة أيام، سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء (16/ 179 - 181).
(4)
ابن القابسي، علي بن محمد المغافري، موطأ الإمام مالك بن أنس، رواية ابن القاسم، وتلخيص القابسي (حققه وعلقه عليه محمد بن علوي بن عباس المالك، ص 40).
والنص واضح الدلالة في اعتماد ما قاله ابن القاسم من عالمين جليلين، مصري وتونسي، بل وتلقي ذلك بالقبول من جماعة ثقات لهم عناية بالحديث، ورغم أن الرواية جاءت في معرض تقديم رواية ابن القاسم للموطأ
…
إلا أنها في مجال التطبيق الفقهي أشهر منها في مجال الحديث.
والمدرسة العراقية رغم اعتمادها على روايات ابن عبد الحكم لم تهمل المدونة أو تتركها. يقول الأبهري: "قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة، والأسدية خمساً وسبعين مرة، والموطأ خمسة وأربعين مرة"(1)، بل إن سماعات ابن القاسم وآراءه لم تلبث أن أضحت هي الراجحة؛ حيث إن القاضي عبد الوهاب - زعم الفقهاء العراقيين في وقته - "رجح مسائل المدونة؛ لرواية سحنون لها عن ابن القاسم، وانفراد ابن القاسم بمالك، وطول صحبته، وأنه لم يخلط غيره إلا في شيء يسير"(2).
وهو ترجيح يعود بالمدرسة العراقية لتلتقي التقاءً وثيقاً بالمدارس المالكية الأخرى في اعتماد أقوال ابن القاسم.
ظلت هذه القاعدة هي المعتمدة بين فروع المدارس المالكية، ولكن ذلك لا يعني أنها لا تخضع للتطوير، بل إن ما تقدم ذكره من
(1) ترتيب المدارك (6/ 186).
(2)
المرجع السابق (3/ 246).
الخلاف بين ابن معمر، وعبد الملك بن حبيب واضح الدلالة في رغبة علماء المالكية في تطوير هذه القاعدة المذهبية باعتماد آراء وسماعات آخرين من تلاميذ مالك، وإن اعتماد علماء المالكية لكل من الواضحة لابن حبيب، والعتبية للعتبي، والمبسوط للقاضي إسماعيل يدل دلالة لا يعتورها الشك على أن تلك القاعدة قد توسعت لتشمل بالاعتماد روايات وآراء غير ابن القاسم، بل وحتى تلك التي اعتمدتها المدرسة العراقية في المبسوط.
يصور لنا الهسكوري (1) قمة ما بلغته هذه القاعدة من تطوير خلال هذه المرحلة فيقول: "إنما يفتى بقول مالك في الموطأ، فإن لم يجده في النازلة فبقوله في المدونة، فلم يم يجده فبقول ابن القاسم فيها، وغلا فبقوله في غيرها، وإلا فبقول الغير فيها، وإلا فأقاويل
(1) "أبو محمد صالح بن محمد الفاسي الهسكوري، شيخ المغرب علماً، وحالاً، وفضلاً، الإمام الكبير، المعرف بالعدالة، من بيت صلاح وجلالة،
…
له تآليف في الفقه مشهورة، توفي سنة (631 هـ) كما في الديباج، وفي سلوة الأنفاس أن المذكور غير صاحب الترجمة، وصاحب الترجمة توفي سنة (653/ 656 هـ)، شجرة النور الزكية (ص 185)، وانظر: الديباج المذهب (1/ 4040)، الفكر السامي (2/ 232)، وفيه: "كما شيخ المغرب،
…
له تقييد على الرسالة، توفي سنة 653
…
، ودفن بفاس، وليس هو دفين آسفين، فإن هذا قرشي مخزومي، وقيل أموي
…
، فالأول من رجال العلم، والثاني من أهل التصوف والصلاح، فلا تغتر بما في الديباج، توفي الثاني هذا سنة (631 هـ).
أهل المذهب" (1).
هذا النص يوضح بجلاء موقف علماء المالكية في هذه المرحلة من آراء الإمام نفسه بالنسبة إلى آراء خليفته (ابن القاسم)، وتلاميذه الآخرين، كما يسلط الضوء على مدى اعتماد المالكية على أهم كتابين في المذهب: الموطأ، والمدونة، مبيناً "مركز" الآراء الفقهية الواردة في هذين الكتابين، وموقعها بالنسبة لما يرد في كتب الأمهات الأخرى والدواوين.
أما من حيث الرأي وقائله فقول الإمام مقدم على أي قول آخر إذا ورد ذلك في الموطأ أولاً، ثم في المدونة ثانياً، ويليه قول خليفته ابن القاسم مع إعطاء الأولوية لما يرد عنه في المدونة، ثم ما يرد عنه في المصادر الأخرى، يلي ذلك آراء تلاميذ مالك الآخرين في المدونة أولاً، ثم في المصادر الأخرى.
بناءً على هذه القاعدة يتحدد الرأي الراجح المعتمد للفتوى في مذهب مالك (في هذا الدور) حسب الترتيب الآتي:
1 -
قول مالك في الموطأ.
2 -
قول مالك في المدونة.
3 -
قول ابن القاسم في المدونة.
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/ 73).
4 -
قول ابن القاسم في غير المدونة.
5 -
قول غير ابن القاسم في المدونة.
6 -
قول غير ابن القاسم من أهل المذهب خارج المدونة.
هذا الترتيب الإلزامي لا يسمح بالانتقال من درجة إلى أخرى إلا عند عدم الحصول على رأي للمصدر الأول وهكذا.
كما أن هذه القاعدة تضع ترتيباً إلزامياً بين كتب المذهب المعتمدة للترجيح على النحو الآتي:
1 -
الموطأ.
2 -
المدونة.
3 -
الكتب الأخرى من الأمهات والدواوين.
* * *