الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قواعد الترجيح
السمة المميزة لهذا الدور أنه "دور الترجيح، وهو دور اجتهاد نظري، يعتمد درس الأقوال وتمحيصها، والاختيار فيها بالترجيح والتشهير"(1).
لم يتخل العلماء المالكيون عن قواعد الترجيح التي تبناها وأقرها علماء الدور السابق، وإن أدخلوا عليها شيئاً من التحوير، مستحدثين بذلك بعض القواعد التي أملتها طبيعة هذه المرحلة، وما بلغه المذهب من تطور من الآراء، واستقرار في المنهج الاستنباطي، والتفريع، والتخريج.
اعتمد علماء دور التطور القاعدة التي تنص على أنه "إنما يفتي بقول مالك في الموطأ، فإن لم يجده في النازلة فبقوله في المدونة، فإن لم يجده فبقول ابن القاسم فيها، وإلا فبقوله في غيرها، وإلا فبقول الغير فيها، وإلا فأقاويل أهل المذهب"، إلا أن علماء هذا الدور - دور الاستقرار - يرون أن هذا ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما قاله أبو الحسن الطنجي (2): "قول مالك في المدونة اولى من قول ابن
(1) أعلام الفكر الإسلامي (ص 70).
(2)
أبو الحسن الطنجي، علي بن عبد الرحمن بن تميم اليفرني، شهر بالطنجي، الفقيه، الحافظ، الفرضي، الحسابي، له تقييد على المدونة، أخذ عن أبي الحسن الزرويلي. (توفي سنة 734 هـ). انظر: نيل الابتهاج (ص 204)، ابن القاضي المكناسي، أحمد بن محمد، درة الحجال في أسماء الرجال (3/ 245)، شجرة النور الزكية (ص 218).
القاسم فيها؛ لأنه الإمام الأعظم، وقول ابن القاسم فيها أولى من قول غيره فيها؛ لأنه أعلم بمذهب مالك رضي الله تعالى عنه، وقول غيره فيها أولى من قول ابن القاسم في غيرها؛ وذلك لصحتها" (1).
وفي تفصيل أوضح: "رواية (2) ابن القاسم في المدونة مقدمة على رواية غيره فيها، ورواية غير ابن القاسم في المدونة مقدمة على قول (3) ابن القاسم في المدونة، فأولى في غيرها، وقول مالك والذي رواه عنه ابن القاسم ولو في غير المدونة مقدم على قول ابن القاسم في غيرها، وأما قوله فيها فهو مقدم على روايته عن الإمام في غيرها"(4).
في ضوء هذين النصين، فإن قاعدة ترتيب الترجيح بين الروايات والأقوال أصبحت على النهج الآتي:
(1) تبصرة الحكام (1/ 49 - 50)، وانظر: كشف النقاب الحاجب (ص 68)، البهجة شرح التحفة (1/ 21)، المعيار المعرب (12/ 23)، فتح العلي المالك (1/ 73).
(2)
المراج بالروايات غالباً أقوال مالك، وبالأقوال أقوال أصحابه ومن بعدهم من المتأخرين كابن رشد، ونحوه. انظر: العدوي، علي، حاشية العدوي على الخرشي، (بهامش الخرشي على خليل 1/ 48).
(3)
المرجع السابق.
(4)
حاشية العدوي على الخرشي (بهامش الخرشي على خليل 1/ 36).
1 -
قول الإمام الذي رواه ابن القاسم في المدونة.
2 -
قول الإمام الذي رواه غير ابن القاسم في المدونة.
3 -
قول ابن القاسم في المدونة.
4 -
قول غير ابن القاسم في المدونة.
5 -
قول الإمام الذي رواه ابن القاسم في غير المدونة.
6 -
قول الإمام الذي رواه غير ابن القاسم في غير المدونة.
7 -
قول ابن القاسم في غير المدونة.
8 -
ثم أقوال علماء المذهب.
هذا الترتيب التفصيلي ملزم، لا ينتقل من المتقدم عند وجوده إلى ما بعده، وبمقارنة هذا الترتيب بين الروايات والأقوال، وما تبناه علماء الدور السابق يمكن استنتاج ما يأتي:
1 -
التركيز على أهمية الروايات والأقوال التي في المدونة، وتقديمها على تلك التي وردت في غير المدونة، أياً كان الراوي أو القائل؛ ولذا فرواية غير ابن القاسم في المدونة، مقدمة على رواية ابن القاسم وقوله في غير المدونة، وهو خلاف ما كان مطبقاً في الدور السابق؛ حيث كان قول ابن القاسم في غير المدونة يعطي الأفضلية على قول غيره في المدونة.
هذا التقدير المتميز لما تضمنته المدونة يصور مدى الاحترام الذي
نالته، ودرجة الوثوق بصحة ما ورد فيها؛ إذ أن المدونة هي خلاصة نظر واجتهاد، وتمحيص قمة علماء المالكية منذ الصدر الأول؛ "ذلك أنه تداولها أفكار أربعة من المجتهدين: مالك، وابن القاسم، وأسد، وسحنون" (1)، ومن ثم أصبحت المدونة هي الكتاب "تجزئ من غيرها، ولا يجزئ غيرها منها" (2).
2 -
عدم النص في القاعدة المتأخرة على تقديم قول الإمام في الموطأ على غيره من الروايات والأقوال، كما نُصَّ عليه في القاعدة المتقدمة، فقد احتلت المدونة هنا الدرجة الأولى مكان الموطأ، لا كما نُصَّ عليه في القاعدة المتقدمة.
لا يعني هذا بأي حال من الأحوال الانتقاص من درجة الموطأ ومنزلته العلمية المعتمدة، فهو يضم أدلة المذهب واقوال إمامه وآرائه كما أملاها بنفسه.
لعل التعليل المنطقي لإفراد المدونة بالتقديم والاكتفاء بالنص عليها، أن المدونة جاءت متأخرة عن الموطأ، تضم آراء الإمام التي رواها ابن القاسم أوثق تلاميذ الإمام وأطولهم صحبة، إذ "صحب مالكاً أزيد من عشيرين سنة، ولم يفارقه حتى مات"(3).
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (1/ 34).
(2)
المقدمات الممهدات (1/ 45).
(3)
كشف النقاب الحاجب (ص 68).