الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المدارس المالكية في هذا الدور:
شهد الدور الثاني بداية امتزاج آراء مدارس المذهب المالكي وصهرها في بوتقة أنتجت كتباً فقهية تمثل المذهب بغض النظر عن الانتماء المدرسي للآراء.
تطور هذا الامتزاج، فغدا وحدة متكاملة الاجتهادات، هي سمة دور الاستقرار، و
ساعد على وجود هذه الوحدة المذهبية عوامل علمية، وسياسية، أهمها:
1 - غياب مدرسة العراق، ومدرسة المدينة عن ساحة النشاط المذهبي
، ولا يعني غيابهما انعدامهما، بل هـ وغياب تأثيرهما العلمي آراءً، وكتباً، اللهم إلا ما كان من ظهور ابن فرحون في المدينة الذي "أظهر مذهب مالك بها بعد خموله"(1)، فأنعش بمؤلفاته الحركة العلمية المالكية بالمدينة المنورة بخاصة بعد أن كاد المذهب المالكي يغيب غياباً كلياً، شأنه في ذلك شأن المذاهب السنية الأخرى التي كانت لا تدرس أو تدرس في تلك الفترة إلا خفية وذلك خلال حكم الشيعة للمدينة النبوية (2) على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
2 - ضعف الدولة الإسلامية في الأندلس
، وتمزقها إلى
(1) نيل الابتهاج (ص 31).
(2)
انظر: رسائل في تاريخ المدينة (ص 141 - 143).
دويلات وما أعقبه من غزو أسباني اكتسح الدولة الإسلامية اكتساحاً كاملاًن خرج إثره المسلمون من الأندلس (1)، فغابت المدرسة الأندلسية المالكية تدريجياً، ولكن تأثيرها العلمي ظل ماثلاً قوياً في المذهب من خلال انصهارها مع المدرسة الإفريقية بعامة، بعد أن هاجر علماء الأندلس إلى شمال إفريقيا بأقطاره المختلفة، وإن كانت إقامتهم تركزت غالباً في المغرب (فاس) وتونس (القيروان).
ومن ثم لم يبق في ميدان النشاط المذهبي إلا المدرستان: المصرية، والإفريقية المغربية بالمعنى الواسع.
وكان بين هاتين المدرستين - المصرية والمغربية - تواصل مطرد منعكس، "فالمذهب المالكي بعد أن انقطع علماؤه من الديار المصرية في أواخر القرن الرابع تحت حكم الفاطميين، بدأ يعاود منزلته في أواخر القرن السادس بمن رحل إلى مصر من الأفارقة، والأندلسيين، والصقليين، الذين رفعوا لاء المذهب المالكي فيها من جديد
…
، فشاعت بذلك الكتب المغربية، ومناهج الدراسة الإفريقية، والأندلسية
…
، وكذلك استمر هذا التواصل المطرد المنعكس بين القاهرة وتونس يزيد ثباتاً وتوثقاً بابن الحاجب، والقرافي (2)
…
، إذ
(1) انظر: شجرة النور الزكية، القسم الثاني (ص 150 - 151).
(2)
شهاب الدين أبو العباس، أحمد بن أبي العلاء، إدريس بن عبد الرحمن القرافي، الصنهاجي، المصري، وحيد دهره، وفريد عصره، أحد الأعلام المشهورين، شيخ الشيوخ، وعمدة أهل التحقيق، انتهت إليه رئاسة الفقه على مذهب مالك (توفي سنة 684 هـ). انظر: الديباج المذهب (1/ 236 - 239)، حسن المحاضرة (1/ 316)، شجرة النور الزكية (ص 188 - 189)، الفكر السامي (2/ 233).
كان من الآخذين عليهم ابن راشد (1) أخذ عن القرافي
…
، وناصر الدين الزواوي (2) أخذ عن ابن الحاجب الذي نشر مختصره الفرعي في إفريقية والمغرب.
"
…
وقابل ظهور هؤلاء بمصر أن ظهر بتونس أمثال ابن هارون الكناني (3)،
(1) محمد بن عبد الله بن راشد القفصي، أبو عبد الله، كان ققيهاً، فاضلاً، محصلاً، إماماً، متقدماً في العلوم، كان مجيداً في العربية، وعلوم اللغة، وكان يعرف بابن راشد شارح ابن الحاجب (توفي سنة 736 هـ). انظر: الديباج المذهب (2/ 328 - 329)، نيل الابتهاج (ص 235 - 236)، شجرة النور الزكية (ص 207 - 208)، تراجم المؤلفين التونسيين (2/ 329 - 334).
(2)
ناصر الدين الزواوي، أبو علي، منصور بن أحمد الزواوي المشذالي، الإمام الأوحد، المتقن، من أهل الشورى والفتوى (توفي سنة 731 هـ). انظر: شجرة النور الزكية (ص 218).
(3)
محمد بن هارون الكناني، التونسي، الإمام، العلامة، الحافظ، أحد مجتهدي المذهب، وصفه ابن عرفة ببلوغ رتبة الاجتهاد المذهبي، إمام في الفقه وأصوله، وعلم الكلام وفصوله، (توفي سنة 750 هـ). انظر: نيل الابتهاج (ص 242 - 243)، الحلل السندية (1/ 581، 582، 805 - 806)، شجرة النور الزكية، (ص 211)، الفكر السامي (2/ 245).
وابن عبد السلام (1)، فاعتمدوا كتب المصريين ورووا عن المتخرجين بهم
…
"
…
وفي القرن الثامن بلغ هذا التواصل العلمي بين مصر وتونس أوجه، فتأكد اشتراك المشيخات، وتبادل الإفادة، والاستفادة، وتناقل التآلف والروايات، واستمر ذلك ممتداً متسعاً، مغرقاً في القرون الموالية، فكان ظهور الشيخ خليل بن إسحاق - الفقيه المالكي - في القرن الثامن وبروز شرحه على (مختصر ابن الحاجب)، الذي سماه (التوضيح) ثم بروز مختصره الفقهي الجامع الذي نال إعجاب أهل المغرب، ممكناً لمصر منزلتها عند فقهاء المالكية بتونس، كما كان في كتاب (التوضيح) أثر ظاهر للمشيخة التونسية في اعتماده على شراح ابن الحاجب الزيتونيين: ابن عبد السلام، وابن هارون
…
، وفي المختصر أثر واضح لمتقدمي الفقهاء الأفارقة
(1) ابن عبد السلام، أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن يوسف الهواري، ممن برع في المعقولات، وقام على حفظ المنقولات، وعلم، وفهم، وأدب، وهذب، كان إماماً، حافظاً، متفنناً في علمي الأصول والعربية، صحيح النظر، قوي الحجة، عالماً بالحديث، له أهمية الترجيح بين الأقوال، لم يكن في بلده مثله، (توفي سنة 749 هـ). انظر: تاريخ قضاة الأندلس (ص 161 - 163)، الديباج المذهب (2/ 329 - 330)، نيل الابتهاج (ص 242)، الحلل السندسية (1/ 577 - 581)، شجرة النور الزكية (ص 210)، الفكر السامي (2/ 241)، تراجم المؤلفين التونسيين (3/ 325 - 328).
مثل: اللخمي، وابن يونس، والمازري، وهم ثلاثة من الأربعة الذين بني على اختيارهم مختصر خليل كما هـ مبين في خطبته.
وما ظهر مختصر خليل حتى أقبل الناس عليه بالحفظ، والدراسة، وتعليق الشروح، ورسخت مكانته في دراسات جامع الزيتونة رسوخاً لم ينقطع بعد
…
، ودرس المختصر بتونس، وجميع البلاد المغربية
…
، وتتابع عليه الشراح، والدارسون، والمعلقون من بعد، فكان من أصول كتب الدراسة بجامع الزيتونة قروناً متتالية، ومرجع القضاء والفتوى الذي لا محيد عنه، وكان حفظه متناً عن ظهر قلب شائعاً بين الطلبة، وسارت شروحه [التونسية والمغربية] التي صنفت من بعد بمصر.
وقابل ظهور خليل بمصر ظهور شيح الزيتونة وإمامها ابن عرفة (1) بتونس، واشتهاره بتحقيق الفقه المالكي نظراً ونقلاً
…
، فكانت
(1) ابن عرفة، محمد بن عرفة الورغمي، التونسي، شيخ الشيوخ، بقية أهل الرسوخ، له التصانيف العزيزة، والفضائل العديدة، انتشر علمه شرقاً وغرباً، فإليه الرحلة في الفتاوى، والاشتغال بالعمل والرواية، حافظ المذهب، ضابط قواعده (توفي سنة 803 هـ). انظر: الديباج المذهب (2/ 331 - 333)؛ السخاوي، محمد بن عبد الرحمن، الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (3/ 240 - 242)، نيل الابتهاج (ص 274 - 279)، شذرات الذهب (7/ 38)، الحلل السندسية (1/ 561 - 577)، شجرة النور الزكية (ص 227)، الفكر السامي (2/ 249 - 250)، أعلام الفكر الإسلامي (ص 63 - 69)، تراجم المؤلفين التونسيين (3/ 363 - 370).
سمعة ابن عرفة وشهرة كتبه بالغة إلى مصر، ثم كانت رحلته بنفسه وأخذ الكثيرين بمصر عنه
…
، ورحلة طلبته من بعده، وأخذهم عن المصريين وأخذ المصريين عنهم، ذات أثر في وصل ما بين الطريقتين - طريقة ابن عرفة وطريقة خليل - وصلاً ظهر بصورة جلية في شرح ابن مرزوق (1) على المختصر؛ إذ كثيراً ما اعتمد في شرح كلام خليل على استظهارات ابن عرفة، كما ظهر الاتصال بين الطريقتين أيضاً في كتاب (الشامل) للشيخ بهرام (2) الذي كثيراً ما أشار إلى تحقيقها ابن
(1) ابن مرزوق، محمد بن أحمد بن مرزوق، أبو عبد الله، العجيسي، ويعرف بحفيد ابن مرزوق، وقد يختصر بابن مرزوق، الإمام المشهور، الحجة، الفقيه، الأصولي، المفسر، المحدث، أجمع الناس على فضله من المغرب إلى الديار المصرية، اشتهر فضله في البلاد. (توفي سنة 842 هـ). انظر: الضوء اللامع (7/ 50 - 51)، توشيح الديباج (ص 171 - 172)، نيل الابتهاج (ص 293 - 299)، ابن مريم، محمد بن محمد، البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان (ص 201 - 214)، نفح الطيب (7/ 339 - 352). شجرة النور الزكية (ص 252 - 253)، الفكر السامي (2/ 256 - 257).
(2)
بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، تاج الدين، الدميري، حامل لواء المذهب المالكي بمصر، غليه المرجع هناك، قاضي القضاة بمصر، هو أجل من تكلم عن مختصر خليل علماً، وديناً، وتفنناً، مستحضراً المدونة وشراحها، معتمداً على ابن عبد السلام، وخليل، سهل العبارة، حسن التعبير والإشارات، تخرج بخليل، وتفقه عليه (توفي سنة 815 هـ). انظر الضوء اللامع (3/ 19 - 20)، حسن المحاضرة (1/ 461 - 462)، توشيح الديباج (ص 83 - 85)، نيل الابتهاج (ص 101 - 102)، شجرة النور الزكية (ص 239 - 240)، الفكر السامي (2/ 250)، الزركلي، خير الدين، الأعلام (2/ 76).
عرفة كما نبه على ذلك شراحه، ومن يومئذ أصبح لا يرى شرح لمختصر خليل، ولا حاشية على شرح له إلا ومدار التحقيق على كلام ابن عرفة" (1).
إن النتيجة الحتمية لهذا التواصل المطرد بني المدرستين المالكيتين (المصرية والمغربية ممثلة بتونس) - كما صوره بإسهاب فضيلة الشيخ ابن عاشور في النص السابق - هو تلاشي النزعة الانفرادية بين المدرستين، وانصهارهما في بوتقة الوحدة المذهبية المالكية، ومما لا شك فيه أن الرحلات العلمية بين علماء هذين القطرين وغيرهما من الأقطار الإسلامية كان لها أثر كبير في خلق المناخ العلمي لهذه الوحدة المالكية.
فـ "منذ نشوء الحركة العلمية في أقطار المغرب لم تنقطع رحلة علمائه إلى المشرق إلا في عصور الفتن والاضطرابات، وهذه الرحلات لها أثرها في انتقال مؤلفات المغاربة إلى الشرق، ومؤلفات المشارقة إلى الغرب، وما يتبع ذلك من تلقيح لمناهج التدريس، وأساليب التأليف، ومن توفر المادة، وتعدد المصادر أمام الباحثين والدارسين"(2)، فاندمجت الآثار العلمية في بعضها، وتلاشت الاختلافات الجذرية إلا ما كان من طبيعة الاجتهادات الفردية التي تظهر بين علماء المدرسة الواحدة.
(1) ومضات الفكر (2)(ص 405 - 412).
(2)
تراجم المؤلفين التونسيين (2/ 329 - 330).