الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأليف منهجاً وموضوعاً
من الظواهر العلمية التي تميزت بها هذه المرحلة من مراحل تطور المذهب: ظهور نزعة التجديد في التاليف الفقهي: منهجاً، وموضوعاً:
أ- المنهج:
إن أمهات المذهب ودواوينه كثرت "فيها التخاريج، والآراء، وتعددت الاصطلاحات، وتداخلت بين المدون من كلام مالك، واللاحق به من تفسير، وبيان أو اجتهاد مخالف لاجتهاده"(1)، ومن ثم كان لابد أن يقوم علماء المذهب بمهمة "الضبط، وتجديد التلخيص، التهذيب؛ كحتى تتحد الصور، وينسجم التعبير، ويأتلف ما تفرق من الأسمعة، ويجتمع ما تشتت من الأقوال"(2)، وبذلك دخل التأليف المذهبي مرحلة (الغربلة) والتمحيص بعد أن انتهت مرحلة الجمع، وكان نتاج هذا العمل مؤلفات منسقة، منظمة، محررة الأقوال مركزة، وربما أطلق على نتاج هذا العمل العلمي "اختصاراً"، والكتاب مختصراً، وهو استعمال لهذا الاصطلاح بمدلوله اللغوي الأوسع شمولاً من استعمال المتأخرين الضيق له.
"فالاختصار في هذه المرحلة له طابع خاص يختلف شكلاً،
(1) ومضات فكر (2)(ص 68 - 69).
(2)
المرجع السابق.
ومضموناً عما آل إليه الوضع في العصور المتأخرة" (1)، ومن ثم ينبغي أن لا ينطلق بنا العنان فنتخيل تلك المؤلفات المختصرة - اسماً لا مسمى - كراسات صغيرة، تجمع نقاطاً رئيسة مركزة، أو بتعبير آخر "تذكرة لرؤوس المسائل، ينتفع بها المنتهي للاستحضار، وربما أفادت بعض المبتدئين الأذكياء؛ لسرعة هجومهم على المعاني من العبارات الدقيقة" (2)؛ إذ المختصرات في هذه المرحلة تهذيب، وتنقيح، وتنظيم، وترتيب للمادة الفقهية، فكتاب التفريغ مثلاً؛ عرف بالمختصر، وهو في الحقيقة من "المختصرات الجامعة التي تتناول عدداً ضخماً من المسائل المندرجة تحت أبواب الفقه كلها بصورة شاملة، وبصيغة موجزة" (3). ولعل تسمية مثل هذا التهذيب مع شموله واتساعه اختصاراً إنما هو بالنسبة للدواوين التي سبقته، والتي كانت تضم الكثير والكثير من السماعات، والروايات، والأقوال المترادفة والمتعارضة أحياناً (4).
في ضوء ما تقدم يمكن أن يقال: إن منهج التأليف في هذه الفترة
(1) محاضرات في تاريخ المذهب المالكي (ص 131).
(2)
حاجي خليفة، مصطفى بن عبد الله، كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون (المقدمة 1/ 35). وانظر: التفريع (مقدمة المحقق د. حسين بن سالم الدهماني 1/ 111).
(3)
التفريع (مقدمة المحقق 1/ 107).
(4)
انظر: الرسالة الفقهية مع غرر المقالة (مقدمة المحقق ص 41).
كان على نسقين.
(1)
التهذيب، والترتيب، والاختصار، والتنقيح لأمهات ودواوين المذهب، مع زيادة ما استجد وترجح من آراء، وقد نالت المدونة أعظم قسط من هذا الاتجاه؛ إذ كانت موضوعاً لكثير من مولفات التهذيب، والاختصار، والترتيب، ظهر واضحاً في جهود المدرسة المصرية، والقيروانية، في حين كانت الواضحة، والعتبية محل اهتمام المدرسة الأندلسية تهذيباً، وترتيباً، واختصاراً، وشرحاً، وفي ذلك يقول ابن خلدون (1): "ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح، والإيضاح، والجمع، فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا، مثل أن يونس (2)،
(1) "عبد الرحمن بن محمد
…
ابن خلدون الحضرمي الإشبيلي
…
، قاضي القضاة العلامة الحافظ المؤرخ
…
، كان سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور
…
، تولى قضاء المالكية، وتصدر للإقراء في الجامع الأزهر
…
، صنف تاريخه الكبير في سبع مجلدات، سماه (العبر في تاريخ الملوك والأمم والبربر)
…
توفي سنة 808 هـ). نيل الابتهاج بتطريز الديباج (ص 169 - 170).
(2)
ابن يونس، محمد بن عبد الله بن يونس الصقلي، التميمي، أبو بكر، ويقال أبو عبد الله، كان فقيهاً، فرضياً، حاسباً، إماماً ملازماً للجهاد، موصوفاً بالنجدة، وله كتاب في الفرائض، ويعبر عنه ابن عرفة بالصقلي (ت 451 هـ). انظر: ترتيب المدارك (8/ 114)، الديباج المذهب (2/ 240 - 241)، شجرة النور الزكية (ص 111)، مواهب الجليل (1/ 35).
واللخمي، وابن محرز، والتونسي (1)، وابن بشير، وأمثالهم، وكتب أهل الأندلس على العتبية ما شاء الله أن يكتبوا مثل ابن رشد وأمثاله، وجمع ابن أبي زيد جميع ما في الأمهات من المسائل، والخلاف، والأقوال في كتاب النوادر، فاشتمل على جميع أقوال المذهب وفروع الأمهات كلها في هذا الكتاب، ونقل ابن يونس معظمه في كتابه على المدونة" (2).
(2)
صياغة جديدة منظمة مركز للآراء الفقهية في المذهب بعامة، وللترجيحات والتخريجات الممثلة لمدرسة ما بخاصة، فيكون الكتاب جديداً في منهجه التأليفي وصياغته الفقهية، وغن لم يخرج عن ارتباط واعتماده على أمهات المذهب ودواوينه المشهورة، ومن أشهر الكتب الممثلة لهذا الاتجاه كتاب التلقين للقاضي عبد الوهاب، وكتاب التفريع لابن الجلاب، والرسالة لابن أبي زيد القيرواني (3). وكل واحد من هذه الثلاثة أطلق عليه اسم المختصر.
(1) "أبو إسحاق التونسي، إبراهيم بن حسن
…
، كان جليلاً، فاضلاً، عالماً
…
، به تفقه جماعة من الإفريقيين
…
، آخر علماء المغرب" (ت 443 هـ).
ترتيب المدارك (8/ 58 - 63)، وانظر: الديباج المذهب (1/ 269)، شجرة النور الزكية (ص 108)، تراجم المؤلفين التونسيين (1/ 263 - 264).
(2)
مقدمة ابن خلدون (ص 245).
(3)
انظر: التفريع (مقدمة المحقق 1/ 111).