الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتبه وآراؤه الفقهية:
" الذي دلت عليه الأخبار
…
أن مالكاً صنف كتباً متعددة غير الموطأ
…
قال في المدارك: له أوضاع كثيرة، وتآليف غير الموطأ رواية عنه، أكثرها بأسانيد صحيحة في غير فن من العلم. لكن لم يشتهر عنه غير الموطأ، وسائر تآليفه إنما رواها عنه من كتب بها إليه، أو سأله إياها، أو آحاد من أصحابه، ولم يروها الكافة" (1).
لكن الذي لا يختلف فيه اثنان، ولا تنتطح فيه عنزان أن الكتاب الذي خلد مالكاً هو كتابه "الموطأ"، وهو كتاب جمع بين دفتيه ما تمحص لمالك من الأحاديث المختارة في أبواب الفقه المختلفة، متبعاً ذلك أحياناً بآرائه الفقهية، واستنباطاته، وترجيحاته، فالموطأ جمع بين التخصيص اللذين اشتهر بهما مالك رحمه الله الحديث والفقه، وتلك إشارة واضحة من مالك رحمه الله بأن مذهبه الفقهي لا ينفصل عن السنة والأثر بحال، وقد كان لهذه الإشارة أثرها كمبدأ قام بدور ظاهر في تطور اتجاهات المذهب ومدارسه.
(1) السيوطي، جلال الدين، تزيين الممالك بمناقب الإمام مالك (صُدِّر به الجزء الأول من المدونة الكبرى للإمام مالك رواية سحنون بن سعيد مع مقدمات ابن رشد 1/ 40)؛ ترتيب المدارك (2/ 90) وما بعدها.
أما آراؤه الفقهية فكثيرة، وإن كان مالك لم يهتم بجمعها في مؤلف كما فعل تلميذه الشافعي في مذهبه، إلا أن الآراء كانت تتلقف من تلاميذه، فتكتب، فلم يكن يتكلم بشيء إلا وكتبه من حضر من تلاميذه، فهذا ابن وهب (1) ألف "في سماعه من مالك ثلاثين كتاباً"(2)، "لم يكن مالك يتكلم بشيء إلا كتبه ابن وهب"(3).
عاش مالك طويلاً (4)، وحفلت حلقات تدريسه بالكثير من الطلاب، كل يبغي تخصصه، فمن باحث عن الحديث، ومن راغب في في الفقه، أو فيهما معاً، ومن مستفت يهمه الحصول على ما
(1) ابن وهب: "عبد الله بن وهب يكنى أبا محمد القرشي (ت 197 هـ). ولد بمصر، روى عن مالك، والليث
…
، ونحو أربعمائة رجل من شيوخ المحدثين بمصر، والحجاز، والعراق
…
، يقولون: إن مالكاً رحمه الله لم يكتب إلى أحد كتاباً يعنونه بالفقيه إلا إلى ابن وهب". الانتقاء (ص 48 - 50)؛ وانظر: طبقات الفقهاء (ص 155)؛ ترتيب المدارك (3/ 228 - 243).
(2)
ترتيب المدارك 03/ 242) ت.
(3)
ترتيب المدارك (3/ 232)؛ وانظر: ومضات فكر (2)، ص 66).
(4)
"قدر للإمام مالك أن يعاصر أربعة عشرة ملكاً من ملوك المسلمين، تسعتهم من الدولة الأموية، وخمستهم من الدولة العباسية".
ندوة الإمام مالك (الكتاني، عبد الرحمن، الجانب السياسي في حياة الإمام مالك رضي الله عنه 2/ 57).
يشغله من أسئلة خاصة به، أو حُمِّل بها من أقصى الأرض، وزهت تلك الحلقات بأمثلة من الدارسين لم تتحقق لغير مالك، فمن مجتهد في مذهب يريد أن يسبر غور مذهب مالك، ومن تلميذ نابغة يتلقى العلم ليسطع فيما بعد إماماً له مذهبه ومنهجه، يشهد حول مالك "أربعمائة أو يزيدون"(1) من الدارسين من أنحاء المعمورة، والذين كان لاستقرار مالك في المدينة المنورة دور كبير في انجذابهم إليه، وانخراطهم في حلقاته. ومن البديهي أن يختلف ما تحمله هؤلاء التلاميذ، فمن مقل، ومن مكثر، وأن يختلف ما نقلوه عن أستاذهم في سماعاتهم بحقائق منهج مالك في تدريسه، والتي كان من سماتها عدم الإكثار في المساءلة، والبعد عن الأسئلة الفرضية، تاركاً المجال لتلاميذه؛ ليجتهدوا فيهما بعد فيما يحدث من مسائل.
أضف إلى ذلك أنه كان - كشأن الأئمة المجتهدين - يعيد النظر في فتاويه (2) كلما أعيد عرض قضية، حتى تعددت الروايات والسماعات، خاصة وأن مالكاً لم تكن صلته تنقطع بتلاميذه برحيلهم عنه، فقد كانوا يكتبون إليه سائلين، ويكتب إليهم مجيباً موضحاً (3).
(1) كشف المغطى (ص 36).
(2)
انظر: المعيار (11/ 268).
(3)
قال سحنون: "كنت عند ابن القاسم وجوابات مالك ترد عليه". ترتيب المدارك (4/ 46)، (3/ 230).
وقد بلغ ما أملاه "في مذهبه نحواً من مائة وخمسين مجلداً في الأحكام الشرعية، فلا يكاد يقع فرع إلا ويوجد له فتيا"(1).
"كان لتعدد هذه الأصناف (من التلاميذ) أثر في الإكثار من صور المسائل التي تكلم فيها إمام دار الهجرة، وأثر في الحمل على البسط والتفصيل فيها، وأثر في قيام الفتاوى المخالفة لفتوى الإمام مالك أمام نظره؛ حتى يضطر لمناقشتها، والاستدلال على ترجيح ما يرى هو عليها"(2).
اعتنى تلاميذ الإمام مالك - رحمه الله تعالى - بهذه الآراء والسماعات، فجمعوها، وهذا الجمع وإن اتسم في بدئه بانفراد "فرع" باعتماد ما وصل إليه من أساتيذه، إلا أن هذه الظاهرة ما لبثت أن توارت نتيجة حتمية لاتصال هذه الفروع المالكية ببعضها بوسائل الاتصال العلمية المتوافرة في ذلك الوقت، والتأثير المزدوج لهذه الاتصالات، كما سيظهر في ثنايا البحث إن شاء الله تعالى.
(1) القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس، الذخيرة (1/ 33).
(2)
ومضات فكر (2)، (ص 61).