الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 - الاصطلاح القروي:
" أما الاصطلاح القوي: فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاف المقالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع، وافق ذلك عوامل الإعراب أو خالفها"(1)، فهو منهج أثري يركز على "النص"، والتخريج عليه، ومدارسته، ومناقشته.
نتج من الاتصالات العلمية تقارب هاتين الطريقتين تقارباً أدى إلى توحيدهما وامتزاجهما، وهو امتزاج ظهر جلياً واضحاً في أواخر مرحلة التطور بصفة خاصة، وإن كانت معالمه ظهرت في وقت مبكر.
يصور لنا فضيلة الشيخ ابن عاشور في أسلوب دقيق مركز مدى تأثير الصلاة الفكرية بين مدارس المذهب في التكوين العلمي والمنهجي لابن أبي زيد فيقول: "
…
وكان اتجاهه [ابن أبي زيد] إلى تفريع الفقه، وتحقيقه،
…
، فعقد صلاته الفكرية منذ نشأته الأولى بمراكز الثقافة الفقهية، وارتوى من منافعها، فكانت صلات أخذه
(1) أزهار الرياض (3/ 22).
وتخرجه على شيوخ إفريقية، وأخصهم به أبو بكر ابن اللباد، وشيوخ الأندلس، أخصهم الأصيلي (1)، وشيوخ فاس، وأخصهم دراس بن إسماعيل، وشيوخ مصر، وأخصهم ابن شعبان (2) صاحب الزاهي، وشيوخ العراق، وأخصهم أبو بكر الأبهري، صاحب الزاهي، وشيوخ العراق، وأخصهم أبو بكر الأبهري، والقاضي أحمد بن إبراهيم من آل حماد (3)، فاجتمعت لديه نفائس
(1) "عبد الله بن إبراهيم بن محمد الأصيلي، ممن انتهى إليه هذا الأمر من المالكية بالأندلس، كان من جلة العلماء، نسيج وحده
…
، جمع كتاباً في اختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة سماه (الدلائل)، كان أبو محمد في حفظ الحديث، ومعرفة الرجال والإتقان للنقل، والبصر بالنقد،
…
، والحذق برأي أهل المدينة، والقيام بمذهب المالكية، والجدل فيه على أصول البغداديين فرداً لا نظير له في زمانه (توفي سنة 392 هـ). ترتيب المدارك (7/ 135 - 146)، وانظر: تاريخ علماء الأندلس رقم (760)، طبقات الفقهاء (ص 166)، جذوه المقتبس (ص 257 - 258).
(2)
ابن شعبان: "ابن القرطي
…
هو أبو إسحاق محمد بن القاسم بن شعبان،
…
، كان رأس الفقهاء المالكية بمصر في وقته، وأحفظهم لمذهب مالك، مع التفنن في سائر العلوم
…
، وإليه انتهت رئاسة المالكية بمصر
…
، ألف كتابه الزاهي الشعباني المشهور في الفقه (توفي سنة 355 هـ) ". ترتيب المدارك (5/ 274 - 275)، وانظر: طبقات الفقهاء (ص 159)، الديباج المذهب (2/ 194 - 195)، سير أعلام النبلاء (16/ 78).
(3)
أحمد بن إبراهيم بن حماد، كنيته أبو عثمان، تولى قضاء مصر، وحدث عنه أبو محمد بن أبي زيد، كان مشهوراً بالحياء (توفي بمسر سنة 329 هـ).
انظر: تاريخ بغداد (4/ 15)، ترتيب المدارك (5/ 264 - 265).
الآثار، وتلاقى في كنفه متباعد الأفكار" (1).
وبتعبير آخر، امتزجت في ابن أبي زيد خلاصة أفكار المدراس المالكية باختلاف فروعها واتجاهاتها.
والإمام الباجي رحمه الله مثال لأثر الرحلات العلمية في تكوين المنهج الفقهي للعالم، فقد درس الباجي - أول ما درس - على علماء الأندلس، ومدرسة الأندلس آنذاك مدرسة أثرية المنهج "التزمت
…
علم الحديث، وفقه الأثر
…
على طريقة الموطأ، مخالفة في ذلك طرائق العراقيين، والمصريين، والقرويين من أتباع المذهب المالكي في ما اقتبست طرائقهم من أساليب الجدل الكلامي، وما بنيت عليه من قواعد النظر، وأصول الفقه التي أصلها في العراق القاضي إسماعيل، ثم فتقها أبو بكر الأبهري والقاضي عبد الوهاب" (2).
رحل الباجي إلى المشرق في رحلة طويلة امتدت ثلاثة عشر عاماً (3)، تتلمذ فيها على علماء مصر، والحجاز، والشام، والعراق حيث تعمق في درس مناهج الفرع المالكي العراقي، جامعاً في دراسته بين الفقه والحديث (4)، حتى إذا عاد إلى الأندلس أضحى
(1) أعلام الفكر الإسلامي (ص 47).
(2)
المرجع السابق (ص 51).
(3)
ترتيب المدارك (8/ 117، 118، 119).
(4)
المرجع السابق.
مدرسة قائمة بذاتها "أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه على طريقة النظار العراقيين من البغداديين، وحذاق القرويين"(1)، "فانتصب بيرز للناس علماً تقنناً، على مناهج عجيبة، وفي صور بديعة، وأول ما لفت أنظار الناس إليه جمعة الغريب بين طريقتي العقل والنقل"(2)، وقد كان لتلاحم هاتين الطريقتين وامتزاجها في التكوين العلمي للباجي أثره الواضح في منهجه: مناقشة، ومناظرة، وبحثاً، وتأليفاً.
أما المناقشة والمناظرة، فقد كان ميدان المناظرة في الفقه الإسلامي في الأندلس لا فارس فيه إلا ابن حزم الظاهري، وتصدى له الباجي بعد عودته مبدياً براعته في الجدل والمناظرة التي تمرس فيها على يد علماء العراق، وكانت النتيجة "فضيحة ابن حزم وخروجه عن ميورقة وقد كان رأس أهلها"(3)، وبذلك "
…
انقطع مذهب الظاهرية بتاتاً، ووضعت بعد ذلك الحرب المذهبية في الأندلس أوزارها" (4).
شرح الباجي الموطأ في كتابه المنتقى، وهذا الشرح دليل حي على براعة الباجي في الدمج بين الطريقتين. "طريقة النظار من
(1) ترتيب المدارك (8/ 119).
(2)
أعلام الفكر الإسلامي (ص 53).
(3)
ترتيب المدارك (8/ 122).
(4)
أعلام الفكر الإسلامي (ص 55).
البغداديين، وحذاق القرويين، والقيام بالمعنى، والتأويل" (1)، "وعلى هذا المنهج ألف مختصر المدونة الذي سماه (المهذب) على طريقة تنظير المسائل وترتيبها على أصولها" (2)، وجاء بعده الإمام ابن رشد فطبق الطريقة الجامعة نفسها في كتابه الشهير (المقدمات الممهدات)(3).
يستمر التقارب، والاندماج بين الطريقتين حتى يظهر عياض القاضي فيقدم لنا أنموذجاً آخر للمج بين الطريقتين في شرحه للمدونة شرحاً "جمع فيه بين الطريقة العراقية التي تعتمد على القياس، والتأصيل، وتحقيق المسائل، وتقرير الدلائل، والطريقة القروية التي تعتمد على الضبط، والتصحيح، وتحليل المسائل، والمباحث، واختلاف التخاريج، والمحامل، زيادة على ما أضفى عياض على هذا الجمع من متانة التقرير، وضوح العبارة، وإحكامها، واشتهر هذا الشرح باسم: "التنبيهات" (4).
(1) ترتيب المدارك (8/ 119).
(2)
أعلام الفكر الإسلامي (ص 54).
(3)
المرجع السابق (ص 57).
(4)
المرجع السابق (ص 61)، وانظر أزهار الرياض (3/ 22).