الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان لهذه السمات الشخصية العلمية أثرها الملموس في المدرسة المالكية في النشوء بخاصة، وفي الأدوار التالية بعامة.
شخصية مالك العلمية:
شخصية مزدوجة التخصص، انعقد له لواء علم الحديث، كما انعقد له لواء علم الفقه، ومن ثم فمالك مؤسس لمدرستين: مدرسة حديث، ومدرسة فقه، هاتان المدرستان منفصلتان ومرتبطتان علمياً في آن واحد. منفصلتان في التخصص الدقيق، ومرتبطتان في اعتماد الثانية على الأولى استنباطاً، واستدلالاً.
"واعلم أن هناك فرقاً بين المحدث والفقه:
أولاً: فوظيفة المحدث هي رواية الحديث، وتمييز التحريف من غيره، وشرح الغريب، وبيان معنى العبارة حسب ما تقتضيه اللغة العربية، ومعرفة أسماء الرجال جرحاً وتعديلاً، وضبطاً لمشكله، والحكم بصحة الحديث أو ضعفه، والاعتبار بالشواهد والمتابعات، والحكم عليه بالاستفاضة والغرابة، وتسمية المبهم وما يشابه ذلك، وإذا بلغ المحدِّث هذه المرتبة فقد ارتقى إلى ذروة الحفظ، والضبط، والاتقان.
ثانياً: ووظيفة المجتهد [الفقيه] تحديد الألفاظ الواردة التي يقع فيها الاشتباه، وتعيين الأركان، والشروط، والآداب من كل شيء، وتعيين الندب أو الوجوب من الصيغ الدالة على الأمر، وتعيين
الكراهة أو الحرمة من الصيغ الدالة على المنع، ومعرفة علل الأحكام مع أدلتها، وإطلاق الحكم وتقييده حسب العلل، ومعرفة القيود الاحترازية والاتفاقية منها، واستخراج قاعدة جامعة مانعة بالنظر إلى ذلك الإطلاق والتقييد، والاحتراز والاتفاق، واستخراج الأقوال المخرجة، ونقلها من باب إلى باب، وتفريع المسائل الحادثة على الأحكام المذكورة بدرج في العموم بالاقتضاء، والإيماء، والقياس، والالتزام، وأمثاله، وإذا تخالفت الأدلة فيفصل بينها بالتطبيق، والجمع، أو بنسخ أحدهما وترجيح أحدهما" (1).
هاتان الشخصيتان العلميتان - شخصية المحدث، وشخصية الفقيه - اجتمعتا في مالك اجتماعاً شهد له علماء عصره ومن جاء بعدهم بالنبوغ فيهما، وتظل مؤلفاته الحديثية، وفتاواه، والسماعات عنه آثاراً خالدة، وأدلة حية.
وكان لشخصيته العلمية المزدوجة آثارها في دروسه وتلاميذه، فقد كانت مجالسه تلتزم التخصص بمعناه المحرر: فمجلس للفقه والفتاوى، ومجلس للحديث، ولكل مجلس حديثه، ورجاله، ومنهجه، ولذا فقد كان القادمون لمجالسه يُسألون عن العلم الذي
(1) الدهلوي، عبد الوهاب، تسهيل دراية الموطأ بتعريب مقدمة المصفى لولي الله الدهلوي (مقدمة المسوى من أحاديث الموطأ لولي الله الدهلوي ص 44 - 45).
يطلبونه: علم الحديث أو علم الفقه. وأثر هذين التخصصين ظاهر في القاصدين له: فمنهم من جاء يطلب الفقه، ومنهم من تخصص للحديث، وآخرون جمعوا بين التخصصين، وقلة يحضرون للاستفتاء فقط (1)، ومن ثم كان أغلب تلاميذه محدثين وفقهاء؛ وإن غلب على بعضهم جانب أحد التخصصين فاشتهر به ولم يشتهر بالتخصص الآخر.
فمحمد بن الحسن الإمام الحنفي (2) يروي الموطأ عن مالك، و"رأس المال لفقه الإمام محمد في المبسوط وغيره هو الموطأ، وإلا فالآثار التي يرويها عن الإمام أبي حنيفة لا تكفي جميع مسائل الفقه، وكثيراً ما يقول محمد في موطئه: وبه أقول، وبه كان يقول أب وحنيفة"(3)(4).
(1) انظر: ترتيب المدارك (2/ 13، 14، 15)؛ ابن عاشور، محمد الفاضل، ومضات فكر (2)، (ص 60).
(2)
محمد بن الحسن الشيباني: "صاحب أبي حنيفة، كان فقيهاً، عالماً، كتب عن مالك حديثه، وله رواية للموطأ مشهورة باسمه، لازم أبا حنيفة، ثم أبا يوسف بعده، وهو راوية أبي حنيفة وابي يوسف القائم بمذهبهما، كتبه المشتملة على ظاهر الرواية أساس المذهب وعمدته (ت 189 هـ) ". الانتقاء (ص 174 - 175)؛ وانظر: الكوثري، محمد زاهد، بلوغ الأماني في سيرة الإمام محمد بن الحسن الشيباني.
(3)
تسهيل دراية الموطأ (ص 23 - 24) ت.
(4)
(*) أبو حنيفة: النعمان بن ثابت، مؤسس المذهب الحنفي، رأى الإمام مالك وباحثه في أمور من الفقه، اشتهرت مدرسته بمدرسة أهل الرأي، ومدرسة العراقيين (ت 150 هـ).
انظر: الانتقاء (ص 122 - 172)؛ الصيمري، حسين بن علي، أخبار أبي حنيفة وأصحابه.