الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أثر المدارس المالكية
في تطور المذهب في مرحل التأسيس
شاركت كل مدرسة من هذه المدارس بدورها المؤثر في تأسيس المذهب، وصياغة الرأي الراجح المعتمد، والكتب التي تمثل المذهب في آرائه المعتمدة، وغن كان أثر كل مدرسة يختلف قوة وضعفاً، وظهوراً واختفاءً، من مرحلة إلى أخرى، حسب الظروف العلمية والسياسية والاجتماعية.
ظل ينبوع المدرسة المدنية يتدفق بعد وفاة الإمام مالك، وقام تلاميذه من المدنيين بواجبهم في تدريس علوم إمامهم، وتصدر حلقة مالك تلميذه عثمان بن عيسى بن كنانة، وعاضده الآخرون وعلى رأسهم القرينان: ابن الماجشون ومطرف في نشر فقه مالك، وسماعاتهم عنه، مضافة إلى آرائهم الخاصة التي بنوها على منهج الأخذ بالحديث، وإن خالفه العمل.
وقد تتلمذ على هذه المدرسة الكثيرون ممن قدم من العراق، ومن الأندلس، والمغرب، إلا أن تأثير منهجها بدا واضحاً في اتجاه زعيم مقدم من زعماء المدرسة المالكية في الأندلس: عبد الملك بن حبيب.
ولعل أبرز المدارس المالكية تأثيراً في هذه المرحلة من تطور المذهب هما مدرسة مصر وتونس - أو إفريقيا بتعبير أعم - مجتمعتان، ومنفردتان، فقد تداخلت فيهما عوامل التاثير والتأثر
تداخلاً امتزاجياً لا يسمح بأي تصور ادعاء انفراد أحدهما بدور أقوى تأثيراً.
استقر في مصر بعض كبار تلاميذ مالك: ابن القاسم، وابن وهب، وأشهب، وابن عبد الحكم، ولكل سماعاته عن مالك، وآراؤه، وترجيحاته.
وفي تونس ترأس مدرسة المالكية - ومالك لا يزال حياً - ابن زياد تلميذ مالك، تلقى عن مالك كما تلقى عن العراقيين: فقهاء، ومحدثين، فكان مالكي المذهب على "نهج العراقيين في الفقه الفرضي"(1)، وتتلمذ عليه نابغتان: أسد بن الفرات، وسحنون عبد السلام، ظهر تأثير ابن زياد عليهما بمظهرين مختلفين.
نزح أسد بن الفرات بتوجيه من ابن زياد إلى المدينة ليستزيد من علم مالك، وليدرس عليه شخصياً، وهنا يلمس مالك تأثير منهج ابن زياد في أسد، حيث تبين له من نمط أسئلته ميله إلى الفقه الفرضي، وما كان مالك ميالاً إلى هذا المنهج، ولذا فقد نصح أسداً:"هذه سلسلة بنت سليسلة، إن أردت ذلك فعليك بالعراق"(2)، واستجاب أسد لنصيحة مالك، لا رغبة عن مذهبه، بل رغبة في التعمق في منهج أهل العراق؛ وهو مع كل ذلك متعلق بمالك ومذهبه.
(1) أعلام الفكر الإسلامي (ص 25 - 26).
(2)
المرجع السابق.
درس أسد في العراق على أبي يوسف (1) واختص بمحمد بن الحسن ملازماً له ليله ونهاره، حتى إذا أدرك من مذهب الحنفية بغيته عاد إلى مصر بعد وفاة مالك، وقد نضجت في ذهنه فكرة سعي إلى تحقيقها منذ بدأ الطلب على مالك. أما وقد أضحى متمكناً من تنفيذها بعد تعمقه في دراسة المذهب الحنفي، فقد عرض تلك الفكرة على أكابر تلاميذ مالك في مصر واحداً بعد الآخر:"هذه كتب أبي حنيفة، وسأله أن يجيب فيها على مذهب مالك"، حتى استطاع أن ينقع أبرز تلاميذ مالك المصريين عبد الرحمن بن القاسم بالتجاوب معه في صياغة أول مشروع فقهي يجمع آراء مالك وترجيحاته في القضايا التي دونها أسد عن محمد بن الحسن على مذهب أبي حنيفة (2)، فجعل أسد يسأل مسألة، ويجيب عليها ابن القاسم، "فما كان عنده فيها سماع من مالك قال: سمعت مالكاً يقول كذا وكذا، وما لم يكن عنده من مالك إلا بلاغ قال: لم أسمع من مالك في ذلك شيئاً. وبلغني عنه أنه قال كذا وكذا، وما لم يكن
(1) أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، تلميذ أبي حنيفة، وأحد الصاحبين، من أشهر علماء الحنفية (ت سنة 182 هـ).
انظر: طبقات الفقهاء (1/ 141)، الكوثري، محمد زاهد، حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي، وهي ترجمة واسعة للقاضي أبي يوسف.
(2)
ترتيب المدارك (3/ 296 - 301)؛ وانظر: رياض النفوس (1/ 261)؛ أعلام الفكر الإسلامي (ص 27).
عنده سماع ولا بلاغ، قال: لم أسع من مالك في ذلك شيئاً، ولا بلغني، والذي أراه كذا وكذا حتى أكملها" (1) "ستين كتاباً، وسماها الأسدية" (2)(3).
وبهذا ظهر كتاب "الأسدية أول كتاب يؤلف في الفقه المالكي بعد الموطأ، أخذ فيه المنهج العراقي في تفصيل المسائل، وتأصيلها، وطبق عليها المذهب المالكي في مسائل الأحكام"(4).
"فقد وضعها اسد في تخطيطها وتصنيفها على منهج كتب الإمام محمد بن الحسن، وجعل مادتها وحشوها فقه مالك بن أنس الذي رواه عبد الرحمن بن القاسم، فكان عملاً مؤسساً على المهج العراقي، والمادة الحجازية"(5).
(1) ابن رشد، محمد بن أحمد، المقدمات الممهدات (تحقيق محمد حجي 1/ 45).
(2)
رياض النفوس (1/ 261).
(3)
(*) توجد "نسخة مكتوبة على الرق [من الأسدية] في دار الكتب الوطنية بتونس سمعها منه الإمام سحنون. (راجع: مجلة الوطن العربي 5 [باريس: 1 - 7 كانون الثاني 1982]، ع 255، (ص 65) " كوركيس عواد، أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم (ص 84).
(4)
المجذوب، عبد العزيز، الصراع المذهبي بإفريقية (ص 51)؛ انظر: أعلام الفكر الإسلامي (ص 27).
(5)
ومضات فكر (2)، (ص 303)؛ وانظر: أعلام الفكر الإسلامي (ص 27 - 28).
عاد أسد بمدونته إلى تونس، ناشراً لما فيها من الفقه الحنفي المنهج، المالكي الأحكام، "ولاحظ عليه قرينه وقريعه سحنون أن فروعاً تختلف عما هو معروف من فتوى مالك بن أنس، وأن أسلوباً مؤسساً على الفقه مجرداً عن إسناد الفقه بالحديث أصبح هو المتحكم في هذا التصنيف الجديد"(1).
فمدونة أسد، وإن كانت فقهاً مالكياً إلا أن منهجها الحنفي يختلف عن منهج مالك الأثري، ومالك لم يكن راغباً في منهج فقهاء العراق، وسبق أن أبدى إعراضه عن ذلك المنهج صريحاً لأسد، ولذا لم تلق مدونة أسد الكثير من القبول، و"عزف الناس عن كتابه وقالوا: جئتنا بأخال، واحسب، وتركت الآثار، وما عليه السلف" (2).
تصدى سحنون لهذه الثغرة فعاد بالمدونة إلى ابن القاسم، مقترحاً عليه إعادة النظر فيها، تصحيحاً، وترجيحاً:"وما وقفت عليه من قول مالك كتبته، وما لم تقف عليه تركته، وتكلمت فيه بما يظهر لك من ذلك"(3)، ورجع سحنون إلى تونس يحمل بين يديه
(1) ومضات فكر (2)، (ص 303)؛ وانظر: أعلام الفكر الإسلامي (ص 27 - 28).
(2)
ترتيب المدارك (3/ 298)؛ الصراع المذهبي (ص 52).
(3)
رياض النفوس (1/ 263).
مدونة: مالكية الفقه والمنهج، "فكان سحنون بهذا الصنيع هو الذي رد الفقه المالكي إلى طريقته المدنية الأولى، مع الحفاظ على ما أفاده أسد من لقاح جديد بطريقة العراق"(1).
أسفر التعاون العلمي بين الثلاثي المالكي: ابن القاسم، وأسد، وسحنون، عن ولادة أكثر الكتب الفقهية اعتماداً عند المالكية منذ تأليفها إلى زماننا، وأصبح الثنائي: ابن القاسم، وسحنون حجري الزاوية في مدرسة مالك الكبرى قديماً وحديثاً، حتى إن القول بأنهما مهندسا المذهب ومرسخا أصوله بعد مؤسسه، لا يعدو الحقيقة بحال.
من ناحية أخرى: شَرَّق تأثير المدرسة المصرية فأثرت تاثيراً لا يدحض في المدرسة البغدادية العراقية من خلال مؤلفات ابن عبد الحكم خاصة، "فقد روى الأبهري وهو عراقي، سماع ابن عبد الحكم وهو مصري"(2)، ويقول الأبهري - وهو أحد أئمة المدرسة المالكية العراقية -:"قرأت مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة، والأسدية خمساً وسبعين مرة"(3).
أما مدرسة الأندلس فقد تميزت بأنها من أوائل المدارس المالكية ظهوراً خارج المدينة، لا ينافسها في ذلك إلا مدرسة القيروان وتونس،
(1) أعلام الفكر الإسلامي (ص 28).
(2)
ومضات فكر (2)، (ص 66 - 67).
(3)
ترتيب المدارك (6/ 186).
وضع بذورها تلاميذ مالك وعلى رأسهم زياد شبطون، ودعمها يحيى بن يحيى الليثي، الذي حضر وفاة مالك (1)، ومن ثم فهو يمثل آخر التطورات في السماعات عن مالك، بل تعتبر روايته للموطأ أشهر الروايات، وأكثرها تداولاً بين العلماء (2). ولكن ذلك لم يحجب مدرسة مصر من أن يكون لها الحفظ الأوفر من التأثير في الفكر الفقهي الأندلسي، فقد أضحى قول ابن القاسم هو الذي يحكم به في محاكم قرطبة (3) - حاضرة بلاد الأندلس في وقتها -، بل لم تتجاوز المسائل التي خالف الأندلسيون فيها رأي ابن القاسم ثماني عشرة مسألة فقط، مخالفين رأي مالك في أربع مسائل فقط (4).
استطاع المنهج المصري أن يصمد، وأن يسود، وأن يستمر تأثيره، حتى بعد محاولة عبد الملك بن حبيب - زعيم مدرسة الأندلس بعد يحيى بن يحيى - العودة بمدرسة الأندلس إلى منهج مدرسة المدينة المالكية، وهي محاولة لم يكتب لها النجاح (5).
(1) ترتيب المدارك (3/ 381).
(2)
كشف المغطى (ص 39)، الكاندهلوي، محمد زكريا، أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك (1/ 42).
(3)
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (4/ 202).
(4)
الأزدي، هشام بن عبد الله، المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام (مصورة من مخطوطة الأسكوريال، لوحة 139).
(5)
عن تأثير المدارس المالكية المختلفة على بعضها بانتقال المؤلفات، وتبادل السماعات، انظر: وضمات فكر (2)، (ص 66 - 67).