الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خاتمة البحث
ظلت الكتب المعتمدة، وفي مقدمتها الأمهات، والدواوين، وتظل، أساس المذهب، وجوهر تطور آرائه، واجتهاداته، فـ"المصادر الكبرى لكبار شيوخ المذهب في المشرق والمغرب هي التي تعتمد في الدرس والفتوى إلى أوائل هذا القرن، ينسب إلى الإمام أبي عبد الله محمد القصار (1) في الحث على التمسك بالكتب المعتبرة في وقته قوله: توضأ بالرسالة، وصلِّ بالجلاب، وصم بالتلقين، وزكِّ بابن الحاجب، وحج بخليل، واقض بالمدونة"(2).
فـ "الفقه المالكي من لدن الإمام إلى ما بعد عصره بقرون، حتى القرن الثامن، الذي ألف فيه خليل مختصره، إذ توفى خليل (سنة 776 هـ)، لم يخرج عن مبادئه، وهي مبادئ فقه مالك، وإن كان مما جاء به خليل خلافاً لما يذهب إليه البعض من أن وجهه قد تغير،
(1) أبو عبد الله محمد بن قاسم القيسي، الشهير بالقصار، العلامة الفقيه، المحقق المحدث، النظار، المتفنن في العلوم، شيخ الفتيا بفاس، وخاتمة أعلامها، كان إماماً في الحديث مبرزاً فيه، وحيد أهل زمانه في سائر العلوم (ت 1012 هـ). انظر: نشر المثاني (1/ 86 - 89)؛ شجرة النور الزكية (ص 295)؛ الفكر السامي (2/ 273 - 274)؛ الأعلام (7/ 6).
(2)
ندوة الإمام مالك (العدوي، أحمد، نظرات في الفتيا وبعض أعلامها في المغرب على مذهب الإمام مالك 1/ 172).
وكما لم يتغير في القرن الثامن، فكذلك ما بعده إلى القرن الثاني عشر حيث ضعفت العناية بالفقه
…
، وإنما قصارى ما وقع هو إثراؤه وجمعه بصورة تلم ما وزع في الأمهات ببسط
…
، فكان عمل المتأخرين هو لمّ المتفرق، والتنسيق بين مسائله" (1).
توسع علماء المالكية المتأخرين في الأخذ بمبدأ ما جرى به العمل، بل إن "العمل أصبح مصدراً رسمياً للتشريع، لذلك نرى المغاربة أكثروا منه، وأقبلوا، وتنافسوا في الأخذ به، حتى كان ذلك بسبب انتشاره وتنوعه"(2).
كان لتطبيق قاعدة ما يجري به العمل دور إيجابي في تطور آراء المذهب وترجيحاته مراعاة لمصلحة عامة أو خاصة، ومعايشة لحاجة المجتمعات المختلفة وأعرافها والفروقات الاجتماعية بينها.
على أن التوسع في تطبيق هذه القاعدة، وبخاصة العمل المحلي، كان له تأثير سلبي على وحدة تطبيق المذهب، واستقرار آرائه، وأوجد تبايناً ملحوظاً في ترجيحاته التي كانت تختلف باختلاف المدن أحياناً، ناهيك عن الأقاليم. هذا الجانب السلبي - وغيره - حدا ببعض العلماء إلى الوقوف موقف الناقد من
(1) موطأ مالك، قطعة منه برواية ابن زياد (مقدمة المحقق، ص 11 - 12).
(2)
الجيدي، عمر بن عبد الكريم، العرف والعمل في المذهب المالكي (ص 371).
تطبيق هذا المبدأ، ويرى أنه "كان ن موجبات هرم الفقه"(1).
إلا أنه "بالرغم من بعض السقطات التي بدت من هذا اللون من التشريع، وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت إليه، والمعارضة التي لقيها الفقهاء المسترسلون مع العمل، من لدن البعض الآخر، فإن هذا اللون من التشريع الذي اهتدى إليه الفقهاء، هو عمل جليل ومجهود في ميدان التشريع كبير؛ إذ برهن الفقهاء بذلك على أنهم قادرون على مجابهة المستجدات والمشكلات الواقعة أو المتوقعة، وأعطوا بذلك الحلول للنوازل والقضايا التي لم يرد فيها نص صريح أو ضمني، وأثبتوا بذلك أنهم قادرون على ملاحقة التطور البشري، والتغير الزماني، كما دللوا أن الفقه المالكي فقه قابل دائماً للتطور؛ لمرونته، وقوة قابليته للاستمرار والبقاء، واستيعابه لكل ما يجد على ساحة المعاملات"(2).
يكاد أكثر ما ألف بعد مختصر خليل - إن لم يكن شرحاً له، أو حاشية عليه، أو اختصاراً - لا يخرج عنه إلا في القليل مما تتطلبه قواعد المذهب الترجيحية، ويمليه المنهج الذي اتبعه خليل في
(1) الفكر السامي (2/ 406).
(2)
العرف والعمل (ص 419).
يذكر المؤلف: "أن العمل في الغرب قد توحد في السنين الأخيرة؛ حيث لم يعد هناك عمل يطبق في منطقة بعينها، بل عم مجموع أنحاء المغرب، وأصبحت المسطرة تجري موحدة". (ص 398).
مختصره، وهو منهج دقيق في تحرير المعتمد للفتوى دقة تتسم بالتواضع والورع، والحرص على التأكد من ما يرجحه؛ ولذا ترك الباب مفتوحاً لمن يأتي بعده من العلماء ليدلوا بدلوهم، ويضربوا بسهمهم في تحقيق الراجح المعتمد في الأقوال في مذهب مالك في ضوء القواعد والضوابط التي حررها علماء المالكية، وحرصوا على متابعة تطبيقها وعلى رأسها قاعدة: ما يجري به العمل.
استهل القرن الثالث عشر "وسمعة أعلام الأزهريين قد ضربت ما بين المشرق والمغرب بكتبهم التي شاعت في عصرهم، وعم الإقبال عليها"(1). ونالت كتب العدوي، والدردير، والأمير، والدسوقي اعتماد علماء المالكية بعامة، والمصريين بخاصة، وصارت كتبهم مدار اعتماد الدارسين والمفتين. وقابل ظهور هؤلاء الأعلام المصريين ظهور أعلام من العلماء المغاربة، اشتهرت مؤلفاتهم في المغرب بخاصة وأقطار الشمال الأفريقي بعامة.
وظهر تأير مؤلفات العلماء المصريين بترجيحات وآراء علماء المغرب واضحاً في كتاب الشرح الكبير للدسوقي، حيث اعتمد فيه على آراء العلماء المصريين وتحريراتهم، كالعدوي، والأمير، جنباً إلى جنب مع آراء وتحريرات الشيخ البناني على حاشية الزرقاني، مازجاً بذلك بين المنهجين: المصري، والمغربي اللذين سلكهما
(1) ومضات فكر (2)، (ص 423).
علماء المالكية في تحريرهم لكتب الأجاهرة، وسار على منهجه الصاوي في كتابه: بلغة السالك (1).
في حين ظهر تأثر علماء المغرب بالاتجاهات المصرية الترجيحية باعتماد كتب الدردير، والدسوقي.
يقول الشيخ ابن عاشور: "وعم الإقبال عليها [مؤلفات علماء المالكية المصرية] مثل الشيخ محمد الدسوقي، الذي عظمت شهرة دروسه، وأسانيده، وكتبه، واعتمدت حواشيه، ولا سيما حاشيته على شرح الدردير على المختصر الخليلي التي اعتمدها فقهاء الزيتونة في الدروس، والفتاوى، والأحكام، وعلقوا عليها، وجاذبوا مؤلفها حوثه، ونقوله، وتحقيقاته"(2).
في عرض شامل لأهم الكتب المعتمدة والمتداولة عند علماء المغرب في هذا العصر، يقول الشيخ الثعالبي (ت 1376 هـ): "إن غالب الفتوى من الكتب المتداولة
…
، وقد اشترط العلماء اشتهار الكتاب الذي يفتى منه على القول بجواز ذلك دون رواية، كمختصر خليل، على أن هذا حصل درجة التواتر؛ لكثرة من يحفظه في زماننا
…
، ومن جملة شروحه المتداولة: حطاب،
(1) انظر: مقدمة كل من الشرح الكبير للدسوقي، وبلغة السالك لأحمد الصاوي.
(2)
ومضات فكر (2)، (ص 423 - 424).
والمواق، وهما كتابان معتمدان إلا قليلاً، وشرح الدردير، ثم الرسالة وشروحها لابن ناجي، وزروق، وأبي الحسن، وجسوس وغيرهم.
ومن الكتب المعتمدة: الموطأ لمالك، وشرحها للباجي، وشرح محمد الزرقاني، وهي أم المذهب، وكذا المدونة
…
ومن كتب الفتوى: التحفة لابن عاصم الغرناطي، وشروحها لسيدي عمر الفارسي، والتاودي بن سودة، والدسولي [التسولي]، وميارة، وحاشية أبي علي بن رحال عليه، شروح لامية الزقاق، والعمل الفاسي، وشروحه، والعمل المطلق، والمرشد المعين، وشرحاه لميارة، وتبصرة ابن فرحون" (1).
زبدة الكلام: أن "غاية ما يشترط الآن فيمن ينتصب للفتوى أو للقضاء في إحدى العواصم الكبار أن يكون
…
بحيث يعرف أن يطالع الكتب، ولا سيما مختصر خليل بشرحيه: الخرشي، والزرقاني وحواشيه" (2).
توَّج هذا الرأي فضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهري - رئيس مجلس الإفتاء في المجلس العلمي الإقليمي بفاس - حيث أفاد بما نصه: "علماؤنا ومشايخنا ومشايخهم، كانوا يفيدون بالاعتماد على
(1) الفكر السامي (2/ 432 - 433).
(2)
المرجع السابق (2/ 431).
الزرياني على خليل بشرط استشارة من خدموه، ونعني به: حاشية التاودي، وحاشية البناني، وقد جاء الرهوني فحرر الزرقاني، وأصبح هو المعتمد، وزاد في تحريره الشيخ كنون وإن لم يجد عليه إلا القليل" (1).
إن اعتماد الحواشي - التي أشاد بها فضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهري - في تحرير آراء الزرقاني على كتاب مواهب الجليل لمحمد بن محمد بن عبد الرحمن الحطاب المكي، كما نبه عليه فضيلة الشيخ الثعالبي بقوله:"وعليه [حطاب] اعتمد البناني وابن سودة، والرهوني في كثير من تعقيباتهم على الزرقاني"، هذا الاعتماد يشير بوضح إلى حقيقة علمية تاريخية هي: أن المذهب المالكي بدأ حجازياً مدنياً وانتهى حجازياً مكياً.
(1) كانت هذه الإفادة من فضيلته جوابا عن سؤالي له عن الكتب المعتمدة عند المالكية.
وقد شرفني أخي وزميلي سعادة الدكتور الأستاذ عبد الوهاب أبو سليمان، أستاذ الفقه المقارن وأصول الفقه، بالدراسات العليا بجامعة أم القرى، وعضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، بمصاحبته لزيادة فضيلة الشيخ العلامة محمد الطاهري في داره بفاس، وذلك مساء يوم الأحد 13/ محرم / 1408 هـ، الموافق 5/ 9/1987 م. فجزى الله الجميع خيراً.