الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منهج المالكية في تمحيص الكتب المذهبية:
نبغ العلماء في مذهب مالك، وكثرت مؤلفاتهم، واختلفت ترجيحاتهم، وتفريعاتهم، وتخريجاتهم، وانطبعت بطابع البيئة العلمية التي نشأوا بين أحضانها، والمجتمع الذي عاشوا فيه، فألف علماء العراق، ومصر، والمغرب، والأندلس، وفرَّعوا، ورجحوا، فكان أن زخر المذهب بكثير من المؤلفات المستوعبة للترجيحات، والتفريعات، منها الصحيح المقبول، والضعيف المتروك.
"كان الأصل يقتضي أن لا تجوز الفتيا إلا بما يروه العدل عن العدل عن المجتهد الذي يقلده المفتي؛ حتى يصح ذلك عند المفتي، كما تصح الأحاديث عند المجتهد؛ لأنه نقل لدين الله في الوصفين، وغير هذا كان ينبغي أن يحرم، غير أن الناس توسعوا في هذا العصر فصاروا يفتون من كتب يطالعونها من غير رواية، وهو خطر عظيم في الدين، وخروج عن القواعد"(1).
وقف علماء المالكية موقفاً صارماً من هذا التساهل في اعتماد الآراء والكتب التي يؤخذ منها "مذهب" وصرحوا بأنه "ينبغي أن
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص 261 - 262)؛ ابن فرحون، إبراهيم بن علي، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (1/ 55)، المعيار (10/ 42)؛ انظر: عليش، محمد أحمد، فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/ 58، 59، 86، 87).
يحذر بما وقع في زماننا من تشاغل بعض الفقهاء بالفتوى من الكتب الغريبة التي ليست فيها رواية المفتي عن المجتهد بالسند الصحيح، ولا قام مقام ذلك شهرة عظيمة تمنع من التصحيف، والتحريف، وبلغ بعضهم في التساهل حتى صار إذا وجد حاشية في كتاب أفتى بها، وهذا عدم دين، وبعد شديد عن القواعد" (1).
هذا هو المنهج المالكي في تمحيص الكتب واعتمادها، أما الكتب التي بعدت عن هذا المنهج فيصرح المالكية فيها بأنه:"تحرم الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تشتهر، حتى تتظافر عليها الخواطر، ويعلم صحة ما فيها، وكذلك الكتب الحديثة التصنيف إذا لم يشتهر عزو ما فيها من النقول إلى الكتب المشهورة، أو يعلم أن مصنفها كان يعتمد هذا النوع من الصحة، وهو موثوق بعدالته"(2).
وباختيار: لا تنهل الآراء الفقهية إلا من الكتب المعتمدة عند علماء المذهب صحة ووثوقاً بمؤلفيها، وبنسبتها إلى ذلك المؤلف.
بلغ من حرص علماء المالكية على الاعتماد على الكتب الصحيحة الموثوق بها أن الإمام الشاطبي (3) "كان لا يأخذ الفقه إلا
(1) المشاط، الشيخ حسن محمد، الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة (ص 286).
(2)
الإحكام في تمييز الفتاوى (ص 262).
(3)
الشاطبي: "أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي
…
، الإمام العلامة .. ، المجتهد، كان أصولياً، مفسراً، فقيهاً، محدثاً، لغوياً، بيانياً، إماماً مطلقاً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين، وأكابر الأئمة المفتين، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، له كتاب الموافقات، كتاب جليل القدر جداً، لا نظير له، يدل على إمامته (ت سنة 790 هـ).
التنبكتي، أحمد بابا، نيل الابتهاج بتطريز الديباج (ص 46 - 49)؛ وانظر: المجاري، أبو عبد الله محمد، برنامج المجاري (ص 116 - 122)؛ الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الفتاوى، جمع وتحقيق محمد أبو الأجفان، أورد في مقدمة التحقيق بحثاً مستوفياً عن الشاطبي ومصادر ترجمته.
من كتب الأقدمين، ولا يرى لأحد أن ينظر في الكتب المتأخرة.
وقد قرر هذا في مقدمة كتابه الموافقات" (1)، بل لقد صرح في إجابته حينما سئل عن ذلك قائلاً: "ما ذكرت لكم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فلم يكن ذلك مني بحمد الله محض رأيي، ولكني اعتمدت بسبب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع كتب المتأخرين، وأعني بالمتأخرين كابن بشير، وابن شاس (2)،
(1) المعيار (11/ 141 - 142)؛ انظر: الشاطبي، إبراهيم بن موسى، الموافقات (1/ 97).
(2)
ابن شاس: عبد الله بن نجم، كنيته أبو محمد، كان فقيهاً فاضلاً في مذهبه، عارفاً بقواعده
…
صنف في مذهب مالك كتاباً نفيساً سماه (الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة)؛
…
والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه، وكثرة فوائده
…
(ت سنة 610 هـ)، وقيل سنة (616 هـ). الديباج المذهب (1/ 443)؛ وانظر: السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة (1/ 454)؛ ابن العماد الحنبلي، عبد الحي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب (5/ 69)؛ الفكر السامي (2/ 220).
وابن الحاجب (1)، ومن بعدهم؛ ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين" (2).
في ضوء هذا المنهج وهذه الضوابط تتأكد الحاجة للإجابة على السؤال:
ما هي الكتب التي يمكن الاعتماد عليها لمعرفة المذهب؟
سيحاول الكتاب في هذا البحث الإجابة على السؤال متتبعاً في ذلك التسلسل التاريخي لتطور المدرسة المالكية منذ تأسيسها وحتى العصر الحاضر.
ولا يسع الباحث هنا إلا أن يردد مع الباجي (3) ما قاله في مقدمة
(1) ابن الحاجب: "أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر
…
المعروف بابن الحاجب
…
كان ركناً من أركان الدين في العلم والعمل، بارعاً في العلوم الأصولية، وتحقيق العربية، متقناً لمذهب مالك بن أنس
…
، من أذكى الأمة قريحة، ثقة، حجة، متواضعاً
…
، علامة زمانه،
…
، ورئيس أقرانه
…
، ألف كتاب الجامع في الفقه (ت سنة 646 هـ) ".
أبو شامة، عبد الرحمن بن إسماعيل، الذيل على الروضتين (ص 182)؛ وانظر: الديباج المذهب (2/ 86 - 89)؛ الفكر السامي (2/ 231).
(2)
المعيار (11/ 142).
(3)
الباجي: أبو الوليد، سليمان بن خلف بن سعد، كان أبو الوليد فقيهاً، نظاراً، محققاً، راوية، محدثاً، أصولياً، حسن التأليف، له في هذه الأنواع تصانيف مشهورة جليلة، ولكن أبلغ ما كان فيها في الفقه وإتقانه على طريقة النظار من البغداديين وحذاق القريين، أقام في المشرق نحو ثلاثة عشر عاماً، وحاز الرئاسة في الأندلس .. ، لو لم يكن لأصحاب المذهب المالكي بعد عبد الوهاب إلا مثل أبي الوليد الباجي لكفاهم (ت 474 هـ).
انظر: ترتيب المدارك (8/ 117 - 127)؛ المقرئ، أحمد بن محمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (2/ 272، 273، 275 - 276، 282، 283، 289)؛ وانظر: ابن بشكوال، خلف بن عبد الملك، الصلة (1/ 200 - 202)؛ بغية الملتمس (ص 202 - 203).
منتقاه: " .... فلا يعتقد الناظر في كتابي أن ما أوردته من الشرح وتأويل، والقياس والتنظير، طريقه القطع عندي حتى أعيب من خالفها، وأذم من رأى غيره، وإنما هو مبلغ اجتهادي، وما أدى إليه نظري"(1).
* * *
(1) الباجي، أبو الوليد، المنتقى شرح الموطأ (1/ 3).