الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِثُ: فُقَهَاءُ المُحَدِّثِينَ وَمَذْهَبُ أَهْلِ الحَدِيثِ:
أثبتنا فيما تقدم أنه لم يكن هناك فرق بين المحدث والفقيه في عصر الصحابة والتابعين، وأن البحث عن الحديث كان يعني في نفس الوقت البحث عن الأحكام الفقهية، غاية الأمر أن فريقًا من الصحابة والتابعين أكثروا من رواية الحديث، وأن آخرين منهم أكثروا من الفتوى، وقد عد ابن عبد البر في جملة المُفْتِينَ برأيهم كل المعروفين من التابعين في مختلف الأمصار (1) وكذلك فعل ابن القيم تبعًا لابن حزم (2). وكان هذا المزج بين المحدث والفقيه معروفًا حتى عصر عمر بن عبد العزيز، إذ يروي ابن سعد أن عمر بن عبد العزيز لما قدم المدينة واليًا عليها دعا عشرة نفر من فقهاء البلد وقال لهم:«إِنِّي دَعَوْتُكُمْ لأَمْرٍ تُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ [وَتَكُونُونَ فِيهِ أَعْوَانًا عَلَى الْحَقِّ]. مَا أُرِيدُ أَنْ أَقْطَعَ أَمْرًا إِلَّا بِرَأْيِكُمْ أَوْ بِرَأْيِ مَنْ حَضَرَ مِنْكُمْ، فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَحَدًا يَتَعَدَّى أَوْ بَلَغَكُمْ عَنْ عَامِلٍ لِي ظَلامَةً: فَأُحَرِّجُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ بَلَغَهُ ذَلِكَ إِلا أَبْلَغَنِي. فَجُزُّوهُ خَيْرًا وَافْتَرِقُوا» (3). هؤلاء الفقهاء العشرة يذكرون أيضًا كرواة الحديث على اختلاف بينهم قلة وكثرة من الحديث أو الإفتاء.
وقلة الفتوى أو كثرتها قد ترجع إلى عوامل نفسية، تدفع بعض العلماء إلى
(1) انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 61، 62.
(2)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 25، 30.
(3)
" الطبقات " لابن سعد: 5/ 245، 266، ومنهم عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد وغيرهم.
الإكثار من الفتوى لثقتهم بأنفسهم. واطمئنانهم إلى سلامة مسلكهم استنادًا إلى أن الشرع أشاد بالعقل ومنحه قدرًا من الحرية، ووعده بأن يثيبه على اجتهاده في حالتي الصواب والخطأ. على حين تدفع هذه العوامل آخرين منهم إلى الانقباض عن الفتوى خوفًا من الخطأ وتحرجًا من الزلل وتورعًا عن أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام.
وقد يكون مصدر القلة والكثرة في الفتوى هو العامل العقلي، الذي يتيح لبعض الناس أن يجاوزوا الألفاظ إلى ما وراءها من المعاني، وأن يصل الأسباب بالنتائج، ويربط الجزئيات المتشابهة ويدرجها تحت الكلي الذي يشملها، مستوحيًا روح التشريع في كل ذلك، على حين أن بعض الناس لم تؤهلهم مواهبهم العقلية لمثل ذلك، أو لم يستعملوا مواهبهم العقلية وَلَمْ يُوَجِّهُوهَا هذه الوجهة. إن بعض الناس قد يستطيع حفظ الكثير من النصوص، ولكنه لا يعرف كيف يستخدمها، وصدق القائل:«قَدْ يَسْتَطِيعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَكُونَ تِلْمِيذًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْدِرَ أَنْ يَكُونَ أُسْتَاذًا» (1). بل صدق رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين أشار بقوله: «نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا وَأَدَّاهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» . وَيُعَلِّقُ الشافعي على هذا الحديث بقوله: «دَلَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَحْمِلُ الفِقْهَ غَيْرُ فَقِيهٍ، يَكُونُ لَهُ حَافِظًا، وَلَا يَكُونُ فِيهِ فَقِيهًا» (2).
كما أشار عليه الصلاة والسلام إلى أصناف حملة العلم، في قوله الذي قسم فيه الناس تبعًا لاختلاف استجابتهم لدعوته: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ
(1) انظر " المدخل إلى علم أصول الفقه " للدكتور محمد معروف الدواليبي: ص 102.
(2)
" الرسالة " للشافعي: ص 401، 403.
كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، [وَأَصَابَتْ] مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (1).
وبحكم هذا الاختلاف الفطري في الإنسان - وهو الاختلاف الذي أكده ما قدمناه من نصوص - وجد من المحدثين من نظر فيما جمع، ودرى ما يحمله
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 16، 17.
(2)
" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 1/ 139، 140.
سواء من ناحية الأسانيد والحكم عليها أو من ناحية الألفاظ وضبطها أو ناحية المعاني وما يستنبط منها. فبلغوا بذلك مرتبة الفقه، كما وجد منهم من لم يحظ بهذه الرتبة.
روى ابن القيم أن مالكًا، وعبد العزيز بن أبي سلمة، ومحمد بن إبراهيم بن دينار، وغيرهم كانوا يختلفون إلى ابن هرمز: فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذووه لا يجيبهم، ولما عاتبه ابن دينار في ذلك أجابه بقوله:«إنِّي قَدْ كَبُرَتْ سِنِّي وَدَقَّ عَظْمِي، وَأَنَا أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خَالَطَنِي فِي عَقْلِي مِثْلُ الَّذِي خَالَطَنِي فِي بَدَنِي، وَمَالِكٌ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ عَالِمَانِ فَقِيهَانِ، إذَا سَمِعَا مِنِّي حَقًّا قَبِلَاهُ، وَإِنْ سَمِعَا خَطَأً تَرَكَاهُ، وَأَنْتَ وَذَوُوك مَا أَجَبْتُكُمْ بِهِ قَبِلْتُمُوهُ» (1).
وروى ابن عبد البر أن (مطر الوراق) سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ حَدِيثٍ فَحَدَّثَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ تَفْسِيرِهِ، قَالَ:«لَا أَدْرِي، إِنَّمَا أَنَا زَامِلَةٌ» (2).
وعلى قدر ما كان أمثال مطر هذا قليلين في القرن الأول، حيث كان القصد إلى الفقه من أول الأمر عند رواية الحديث - أخذ عددهم في الزيادة المطردة منذ القرن الثاني، حيث أصبحت رواية الحديث وجمع طرقه هو السمة التي تجمع بينهم، والشغل الذي يهمهم، وحيث سلم كثير منهم بالفصل بين الفقه والحديث:
(1)" إعلام الموقعين ": 2/ 299، 300.
(2)
انظر: " جامع بيان العلم وفضله ": 3/ 127. ومطر الوراق هو أبو رجاء السلمي، مولى علباء (*)، سكن البصرة وروى عن عكرمة، وعطاء وعمرو بن دينار، وغيرهم روى عنه الحمادان: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة (**)، وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم. كان يحيى بن سعيد القطان يضعف حديثه عن عطاء. توفي سنة 128 أو 129 هـ. (" تهذيب التهذيب ": 10/ 167، 169).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (مولى علي) والصواب ما أثبته (مَوْلَى عَلْبَاءَ بْنِ أَحْمَرَ اليَشْكُرِيِّ). انظر " تهذيب الكمال في أسماء الرجال "، للمزي (ت 742 هـ)، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 28/ 51، الطبعة الأولى: 1400 هـ - 1980 م، مؤسسة الرسالة. بيروت - لبنان.
وانظر " سير أعلام النبلاء " للذهبي (748 هـ)، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، 5/ 452، الطبعة الثالثة: 1405 هـ / 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة.
(**) في الكتاب المطبوع خطأ في التسمية (حماد بن أبي سلمة) والصواب ما أثبته (حماد بن سلمة).
فعلى المحدث أن يجمع المادة، وعلى الفقيه أن يستعملها، ويبين خصائصها، والنسب التي تتألف منها، وذلك هو تشبيه الأعمش في قوله لأبي حنيفة:«أَنْتُمُ الأَطِبَّاءُ وَنَحْنُ الصَّيَادِلَةُ» (1).
ويبين الثوري أنه ليس كل من حمل الحديث يمكن أن يستفاد منه العلم بالأحكام، فينصح أحد تلامذته بقوله:«خُذِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ مِنَ الْمَشْهُورِينَ فِي الْعِلْمِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمِنَ الْمَشْيَخَةِ» (2). وهكذا يضع الثوري (الشيخ) في مقابلة المشهورين في العلم.
ويبدو أن لفظ (الشيوخ أو المشيخة) صار اصطلاحًا يطلق على غير الفقهاء من المحدثين كما سبق في عبارة الثوري، وكما روى عن وكيع بصورة أوضح وأكثر تحديدًا، حيث استعمل (الشيوخ) في مقابله (الفقهاء) أو (الشيخ) في مقابله (الفقيه): فقد سأل وكيع بعض من في مجلسه مختبرًا لهم، فقال:«الأَعْمَشُ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَوْ سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ؟» . فَقُلْنَا: «الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ أَقْرَبُ» . فَقَالَ: «الأَعْمَشُ شَيْخٌ وَأَبُو وَائِلٍ شَيْخٌ، وَسُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَقِيهٌ عَنْ فَقِيهٍ عَنْ فَقِيهٍ [عَنْ فَقِيهٍ]» (3).
ومما يدل على تسليم الفقهاء بفكر التخصص في الحديث أو الفقه قول الإمام الشافعي للمحدثين فيما رواه أحمد بن حنبل: «أَمَّا أَنْتُمْ فَأَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ وَالرِّجَالِ مِنِّي، فَإِذَا كَانَ الحَدِيثُ صَحِيحًا فَأَعْلِمُونِي أَنْ يَكُونَ كُوفِيًّا أَوْ بَصْرِيًّا أَوْ شَامِيًّا أَذْهَبُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ صَحِيحًا» (4).
(1) انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 130، 131. وروي أن الأعمش قاله لأبي يوسف.
(2)
" المحدث الفاصل ": ص 244، 333.
(3)
" المحدث الفاصل ": ص 74.
(4)
" الانتقاء " لابن عبد البر: ص 75.
وكلما تميزت صناعة الحديث وتفرعت فنونها وتكامل نضجها بعدت عن الفقه، وقل الفقهاء من المحدثين تدريجيًا، واستهدفوا الحملات خصومهم حتى كان عصر ابن حنبل حيث بلغ الصراع إلى غايته، ومع ذلك فالمحدثون منصرفون عن الفقه، فقال [إسحاق بن راهويه] (*):«كُنْتُ أُجَالِسُ بِالعِرَاقِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ وَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَأَصْحَابَنَا، فَكُنَّا نَتَذَاكَرُ الحَدِيثَ مِنْ طَرِيقٍ وَطَرِيقَيْنِ وَثَلَاثَةً، فَيَقُولُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ مِنْ بَيْنِهِمْ وَطَرِيقِ كَذَا فَأَقُولُ أَلَيْسَ قَدْ صَحَّ هَذَا بِإِجْمَاعِنَا؟، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَأَقُولُ: مَا مُرَادُهُ؟ مَا تَفْسِيرُهُ؟ مَا فِقْهُهُ؟ فَيَقِفُونَ كُلُّهُمْ إِلَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ» (1).
وفي عصر أحمد بن حنبل، وبتأثير التيارات النقدية، وحدة الصراع الفكري وعنف محنة خلق القرآن وصلابة أحمد بن حنبل فيها، برز فقه المحدثين، ووجد التربة صالحة لنموه ونضجه.
ولئن كانت محنة خلق القرآن حدثًا كبيرًا في الإسلام فقد كانت نقطة تحول كبير في حياة ابن حنبل الفكرية، كما كان لها أثر بالغ في تكتل المحدثين والتفافهم، أو كانت السبب المباشر في إعلان اللون الفقهي الخاص بهم، يثبتون به وجودهم، ويحققون فيه ذاتهم، ويؤكدون استقلالهم، وإن وجد فيمن سبقهم الجذور التي أمدته بالغذاء، وهيأت له أسباب الحياة.
إن أحمد بن حنبل قبل المحنة لم يكن له منهج فقهي متميز ولعل تقسيم حياته إلى فترتين تفصيل المحنة بينهما، يوضح كثيرًا من التناقض فيما يروى عنه من الأخبار حول الرأي والأخذ به: فعلى حين يروى عنه النصح بكتابة رأي الشافعي أو مالك أو الأخذ برأيهما (2)، إذا به يروى عنه التحذير من كتابة الرأي، لا فرق بين
(1)" ابن حنبل " لأبي زهرة: ص 13.
(2)
انظر: " الانتقاء ": ص 76؛ و" تقدمة كتاب الجرح والتعديل ": ص 16؛ " إعلام الموقعين ": 1/ 36.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) هذا القول لإسحاق بن راهويه، انظر:" تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، 6/ 90، الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2002 م، نشر دار الغرب الإسلامي - بيروت.
رأي مالك والشافعي وسفيان وغيرهم، بل كان ينكر على مالك تصنيف " الموطأ "، ويقول:«ابْتَدَعَ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ الصَّحَابَةُ» (1).
ولكن تأثير ابن حنبل في المحدثين بعد المحنة كان عظيمًا، فقد صار رمزًا لهم وبطلاً يملأ قلوب الناس وأسماعهم، ونجمًا يشد إليه أبصارهم وتمتد إليه أعناقهم، فسعت إليه الإمامة والصدارة وأصبح مرجعًا لأمور الدين تحترم كلمته وتقدم فتواه ولعله لم يرد لنفس ما صار إليه، ولكن هكذا صار.
وقد سبق قول بشر الحافي في أن أحمد بعد المحنة وبذلك «صَارَ زَعِيمَ حِزْبٍ عَظِيمٍ مِنْ أَحْزَابِ الإِسْلَامِ» وقد يقال إن المقصود من إطلاق (حزب) هو زعامة الإمام ابن حنبل لأهل السنة، في مقابلة المعتزلة، ولكن هذا لا يمنع من أن يفهم من العبارة زعامة أحمد لأهل الحديث، وأنهم المعنيون بكلمة (حزب)، ويرشح لهذا الفهم أن ابن عبد البر قد أثبت فقه أهل الحديث، وصرح بإمامة أحمد لهم في هذا الفقه: فقد قال عن أحمد بن حنبل: «وَلَهُ [اخْتِيَارٌ] فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَهُوَ إِمَامُهُمْ» (2) هذا على الرغم من أن ابن عبد البر لم يذكره مع الفقهاء الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة، ولكن اقتصاره على هؤلاء لا يعني أن الفقه محصور فيهم، فقد وجد لغيرهم مذاهب امتدت حياتها حتى عاصرت ابن عبد البر، وإنما اقتصر على هؤلاء لكثرة أتباعهم، وما جرته المنافسة بينهم من طعن في هؤلاء الأئمة، ولعل ابن عبد البر قد تابع أبا داود السجستاني في قوله الذي ترحم فيه على هؤلاء الثلاثة اعترافًا منه بإمامتهم، وتنبيهًا
(1) انظر " إحياء علوم الدين ": 1/ 79؛ و" الانتقاء ": هامش ص 76، 77؛ و" جامع بيان العلم ": 2/ 149.
(2)
" الانتقاء ": ص 107.
للمتعصبين المغالين «رَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ الشَّافِعِيَّ كَانَ إِمَامًا، رَحِمَ اللَّهُ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ إِمَامًا» (1).
إن القول باستقلال فقه المحدثين في القرن الثالث، وإعلانه على يد أحمد بن حنبل يرفع كثيرًا من الاضطراب حول المجتهدين قبله في أهل الرأي أو في أهل الحديث كما يحسم الخلاف حول ابن حنبل نفسه في اعتباره من الفقهاء أو من المحدثين.
لقد أثبتنا من قبل أنه لم يكن يوجد خلال القرن الأول تنافس بين أهل الحجاز، وأهل العراق، وأن الاختلاف بينهما كان اختلافًا في البيئة والشيوخ، وقد وجد في كلا القطرين من أكثر من الرأي والفتوى، كما وجد فيهما من انقبض عن الفتوى وتحرج من الرأي، أو ذمه وحذر منه، واستمر الحال على ذلك حتى تسللت عبارة «أَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ» إلى الحياة الفقهية في النصف الثاني من القرن الثاني، مكونة جبهة موحدة من كل المذاهب الفقهية ضد المذهب الحنفي، فلما كان القرن الثالث تميز فقه المحدثين، واتخذ طابعه الخاص، وأصبح مقابلاً لغيره من المذاهب.
أما المحدثون قبل تميز هذا الفقه فقد كان الفقهاء منهم يذهبون مذهب الحجازيين أو الكوفيين: فسفيان الثوري مثلاً كوفي في منهجه ومأخذه، واختياره، قال علي بن المديني:«أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - سِتَّةٌ، الذِينَ يُقْرِئُوْنَ وَيُفْتُونَ وَمِنْ بَعْدِهِمْ أَرْبَعَةٌ، وَمِنْ بَعْدِ هَؤُلَاءِ سُفْيَانُ الثَّوْرِي كَانَ يَذْهَبُ مَذْهَبَهُمْ وَيُفْتِي بِفَتْوَاهُمْ» (2). وروى ابن عبد البر بسنده عن أبي يوسف قال: «سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَكْثَرُ مُتَابَعَةً لأَبِي حَنِيفَةَ مِنِّي» (3).
(1)" الانتقاء ": ص 33؛ و " جامع بيان العلم ": 7/ 162.
(2)
" تقدمة الجرح والتعديل ": ص 58.
(3)
" الانتقاء ": ص 128.
وكذلك كان يحيى بن سعيد القطان: قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: «وَكَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ يَذْهَبُ فِي الْفَتْوَى مَذْهَبَ الْكُوفِيِّينَ» (1). وقال يحيى بن سعيد: «كَمْ [مِنْ] شَيْءٍ حَسَنٍ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَرُبَّمَا اسْتَحْسَنَّا الشَيْءَ مِنْ رَأْيِهِ فَأَخَذْنَا بِهِ» (2)، وعن يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ:«مَا رَأَيْتُ مِثْلَ وَكِيعٍ، وَكَانَ يُفْتِي بِرَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ» (3). وقد رأينا أن أحمد بن حنبل نفسه قبل المحنة كان يفتي برأي مالك أو برأي الشافعي، ويروي البيهقي مناظرة حدثت بين علي بن المديني ويحيى بن معين، وأن ابن المديني تقلد فيها قول الكوفيين وقال به (4)، وكان موضوع المناظرة هو الوضوء من مس الذكر فذهب الكوفيون إلى عدم الوضوء منه، وذهب الحجازيون إلى الوضوء منه، وقد ذكر البيهقي أَنَّ سُفْيَانَ وَابْنُ جُرَيْجٍ اجْتَمَعَا فَتَذَاكَرَا مَسَّ الذَّكَرِ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ - وهو حجازي -:«يُتَوَضَّأُ مِنْهُ» ، وَقَالَ سُفْيَانُ:«لَا يُتَوَضَّأُ مِنْهُ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً أَمْسَكَ بِيَدِهِ مَنِيًّا، مَا كَانَ عَلَيْهِ؟» فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: «يَغْسِلُ يَدَهُ» . قَالَ: «فَأَيُّهُمَا أَكْبَرُ: المَنِيُّ أَوْ مَسُّ الذَّكَرِ؟» (5). وهذه القصة تبين مدى تأثر الثوري بمنهج الجدل الذي امتاز به الكوفيون، والذي كانوا يفحمون به خصومهم فلا يملكون إزاء هذا الإفحام إلا التشنيع عليهم، كَمَا قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ بَعْدَ أَنْ حَجَّهُ سُفْيَانُ:«مَا أَلْقَاهَا عَلَى لِسَانِكَ إِلَاّ الشَّيْطَانُ» (6).
وأما غير الفقهاء من المحدثين فقد كانوا مقلدين لمن يرتضونه من العلماء ويوضح أبو حاتم الرازي منهجهم بقوله: «العِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
(1) و (2)" الانتقاء ": ص 123.
(3)
" الانتقاء ": ص 136. ووكيع هو ابن الجراح بن مليح، من بني عامر بن صعصعة، يُكَنَّى أبا سفيان. توفي سنة 197 هـ.
(4)
" سنن البيهقي ": 1/ 135، 136.
(5)
و (6)" سنن البيهقي ": 1/ 135، 138.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الأَلِبَّاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ، فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، مِثْلِ: أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَسُفْيَانَ، وَمَالِكٍ وَالأَوْزَاعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ، وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَالْحُمَيْدِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَاّمٍ» (1).
فإذا ثبت أن المحدثين كان لهم فقه خاص من القرن الثالث، وأن هذا الفقه قد وضح لونه وتحددت معالمه بعد محنة ابن حنبل، فإنه يكون واضحًا أن المجتهدين قبل هذا الفقه لم ينقسموا إلى أهل حديث وأهل رأي، وأصبح معلومًا أن هذا التقسيم إنما كان ظهور هذا المذهب الفقهي الجديد المميز لأهل الحديث والذي أصبح يطلق في مقابلة المذاهب الأخرى التي اندرجت تحت عبارة أهل الرأي، لا فرق بين مالكية وحنفية وشافعية: يقول ابن حنبل: «رَأْيُ الأَوْزَاعِي، وَرَأْيُ مَالِكٍ، وَرَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّهُ رَأْيٌ وَهُوَ عِنْدِي سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الحُجَّةُ فِي الآثَارِ» (2). وبذلك أيضًا يتضح أن سبب خلط المؤرخين في حكمهم على الأئمة بأنهم من أهل الحديث تارة، ومن أهل الرأي تارة أخرى، يكمن في تشخيصهم فترة زمنية معينة، وملاحظتهم بعض ظواهرها ثم محاولتهم تعميم هذه الظواهر على المراحل السابقة واللاحقة.
أما الخلاف في اعتبار أحمد بن حنبل من الفقهاء فهو خلاف قديم، نتج
(1)" إعلام الموقعين ": 2/ 135، 136.
(2)
" جامع بيان العلم وفضله ": 2/ 149.
عن قياسه بمن سبقه من الفقهاء، ووزنه بمعايير فقههم من دقة الاستنباط وحسن التخريج، أو بما بلغوه من شهرة، وما نالوه من كثرة في التلاميذ والأتباع، دون ملاحظة منهجه الخاص، ودون تنبه لتكون المدرسة الجديدة التي أخذت تقتحم عالم الفقه، لتزاحم بقية المذاهب، ولتأخذ مكانها بين المدارس الفقية، تحت شعار (المحدثين) أو (أهل الحديث).
لقد أهمل ابن جرير ذكر ابن حنبل في " الخلافيات " مذهب ابن حنبل وقال: «إِنَّمَا هُوَ رَجُلُ حَدِيثٍ لَا رَجُلَ فِقْهٍ» ، وواجه المحن من الحنابلة من أجل ذلك، كذلك أهمل مذهبه كثير ممن صنفوا في الخلافيات، «كَالطَّحَاوِيِّ، وَالدَّبُّوسِيِّ، وَالنَّسَفِيِّ فِي " مَنْظُومَتِهِ "، وَالعَلَاءِ السَّمَرْقَنْدِيِّ، وَالفَرَاهِيِّ الحَنَفِيِّ أَحَدُ عُلَمَاءِ المِائَةِ السَّابِعَةِ فِي " مَنْظُومَتِهِ " ذَاتِ العِقْدَيْنِ، وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَصِيلِيُّ المَالِكِيُّ فِي كِتَابِهِ " الدَّلَائِلَ " وَالغَزَالِيُّ فِي " الوَجِيزِ " وَأَبُو البَرَكَاتِ النَّسَفِيُّ فِي " الوَافِي "» (1).
قال في " المدارك ": «إِنَّهُ دُونَ الإِمَامَةِ فِي الفِقْهِ وَجَوْدَةِ النَّظَرِ فِي مَأْخَذِهِ عَكْسَ أُسْتَاذِهِ الشَّافِعِيَّ» (2).
ولكن أصحابه والمنتسبين إليه وأهل الحديث لا يسلمون بذلك، بل يبالغ بعضهم في وصفه بالفقه فيقول [الخلال]:«كَانَ أَحْمَدُ قَدْ كَتَبَ كُتُبَ الرَّأْيِ وَحَفِظَهَا ثُمَّ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا وَكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ فِي الْفِقْه تَكَلَّمَ كَلَامَ رَجُلٍ قَدْ انْتَقَدَ العُلُومَ فَتَكَلَّمَ عَنْ مَعْرِفَةٍ» (3).
ويرد ابن عقيل الحنبلي على من لم يعتد بفقه أحمد، فيقول: «وَمِنْ عَجِيبِ مَا نَسْمَعُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الجُهَّالِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَحْمَدُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، لَكِنَّهُ مُحَدِّثٌ وَهَذَا غَايَةُ الجَهْلِ لِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْهُ اخْتِيَارَاتٌ بَنَاهَا عَلَى الأَحَادِيثِ بِنَاءً لَا يَعْرِفُهُ
(1) و (2)" الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي " للحجوي: 3/ 21، 22.
(3)
" المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل " لابن بدران: ص 38.
أَكْثَرُهُمْ وَخَرَجَ عَنْهُ مِنْ دَقِيقِ الفِقْهِ مَا لَيْسَ نرَاهُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ وَانْفَرَدَ بِمَا سَلَّمُوهُ لَهُ مِنَ الحِفْظِ» (1).
والحق أنه نهج في الفقه نهجًا مستقلاً، وأنه مهد للمحدثين من بعده طريق هذا الفقه ويسر لهم التأليف فيه، وهيأ لهم الالتفاف حوله بحفظه الكثير من الآثار، وبما أسبغت عليه المحنة من تأثير بالغ في النفوس، ونحن مع الأستاذ محمد أبي زهرة إذ يقول:«لِذَلِكَ يَحِقُّ لَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَحْمَدَ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، وَمِنْ طَرِيقِ هَذِهِ الإِمَامَةِ فِي الحَدِيثِ وَالآثَارِ كَانَتْ إِمَامَتُهُ فِي الفِقْهِ، وَأَنَّ فِقْهَهُ آثَارٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَنْطِقُهُ، وَمَقَايِيسُهُ، وَضَوَابِطُهُ، وَلَوْنُهُ، وَمَظْهَرُهُ، وَلَقَدْ أَنْكَرَ لِهَذَا ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا، وَعَدَّهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي المُحَدِّثِينَ وَلَمْ يَعُدَّهُ فِي الفُقَهَاءِ، وَكَثِيرُونَ قَالُوا مِثْلَ هَذِهِ المَقَالَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، وَلَكِنَّ النَّظْرَةَ الفَاحِصَةَ لِدِرَاسَاتِهِ وَمَا أُثِرَ عَنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ وَفَتَاوَى فِي مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةٍ تَجْعَلُنَا نَحْكُمُ بِأَنَّهُ كَانَ فَقِيهًا غَلَبَ عَلَيْهِ الأَثَرُ وَمَنَحَاهُ» (2).
ونخلص من هذا إلى ما قررناه، من أن فقه أهل الحديث وبروزه في هذا القرن هو الذي يفسر لنا موقف الإمام أحمد بن حنبل، وأنه كان - كما قال ابن عبد البر - فقيهًا على مذهب أهل الحديث، وهو إمامهم.
ولنوثق ما أثبتناه من أن كلمة (المحدثين) أو (أهل الحديث) لم تكن تطلق على أحد من التابعين، وإنما كانت تطلق على قوم بأعيانهم، هم المشتغلون برواية الحديث والتأليف فيه منذ النصف الثاني من القرن الثاني على وجه التقريب، وأن (أصحاب الحديث) هؤلاء كان لهم فقه متميز مخالف
(1)" المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": ص 38.
(2)
" ابن حنبل " للأستاذ أبي زهرة: ص 154، 155.
لبقية المذاهب وقسيم لها، فنذكر من أقوال الأقدمين وفهمهم ما يؤيد مذهبنا.
فقد روى الخطيب عن قتيبة بن سعيد قال: «إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ، يُحِبُّ أَهْلَ الْحَدِيثِ، مِثْلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ - وَذَكَرَ قَوْمًا آخَرِينَ - فَإِنَّهُ عَلَى السُّنَّةِ، وَمَنْ خَالَفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ» (1).
وذكر ابن النديم في فصل خاص (3) فقهاء المحدثين وأصحاب الحديث وساق منهم عددًا، دون أن يعنى بالفصل بين المتجردين للحديث فقط، ومن جمعوا إلى الحديث الفقه فيه، ويلاحظ على من أوردهم أن تاريخ وفياتهم تنحصر ما بين منتصف القرن الثاني، ومنتصف القرن الرابع، كما يلاحظ أنه لم يذكر
(1)" شرف أصحاب الحديث " للخطيب: رقة 9 (أ).
(2)
" المحدث الفاصل ": ص 419، 420.
(3)
انظر " الفهرست ": ص 225، 226.
في جملة من ذكرهم مالكًا والشافعي، وكذلك لم يذكرهما الرامهرمزي.
وقد أحصى الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي من أطلق عليه (أمير المؤمنين) في الحديث، ونظمهم في " منظومته " (1) قال فيها:
فَمَالِكٌ إِمَامُنَا المُقَدَّمُ
…
وَشَيْخُهُ أَبُو الزِّنَادِ المُعَلِّمُ
ثُمَّ إِمَامَ العَارِفِينَ الثَّوْرِي
…
مَنْ زَانَهُ الزُّهْدِ كَزَيْنِ النُّورِ
فَشُعْبَةُ المُحَقِّقُ الِإمَامُ
…
مَنْ ازْدَهَتْ بِعِلْمِهِ الأَيَّامُ
كَذَاكَ إِسْحَاقُ الِإمَامُ الحَنْظَلِي
…
ثُمَّ هِشَامُ الدُّسْتُوَائِيُّ العَلِي
وَابْنُ دُكَيْنٍ الفَضْلُ الأَلْمَعِي
…
كَذَا ابْنُ يَحْيَى الحَافِظُ الذُّهَلِي
ثُمَّ البُخَارِيُّ الشَّهِيرُ الفَخْمُ
…
وَالدَّارَقُطْنِيُّ الإِمَامُ الشَّهْمُ
ثُمَّ ابْنُ إِسْحَاقَ إِمَامُ السِّيرَةِ
…
مَنْ كَانَ ذَا بَصِيرَةٍ مُنِيرَةِ
قَدْ قَالَ ذَاكَ الذَّهَبِيُّ فِي التَّذْكِرَةِ
…
وَغَيْرُهُ إِذَ حَازَ تِلْكَ المَفْخَرَةِ
وَالوَاقِدِيُّ الشَّهْمُ ذُو البَصِيرَةِ
…
مِنْهُمْ وَكَانَ مَاهِرًا فِي السِّيرَةِ
كَمَا لِذَاكَ الدَّرَاوُرْدِيُّ أَقَرْ
…
كَمَا لَهُ العَيْنِيُّ تَصْرِيحًا ذَكَرْ
وَهَكَذَا حَمَّادُ نَجْلُ سَلَمَهْ
…
فَابْنُ المُبَارَكِ، وَكَمْ مَنْ عَظَّمَهْ
وَالدَّرَاوُرْدِيُّ لِذَاكَ يَصْلُحُ
…
قَدْ قَالَهُ مَعْنُ بْنُ عِيسَى المُفْلِحُ
وَنَجْلُ عَلَّانَ المُحَقِّقُ ذَكَرْ
…
مِنْ أُمَرَاءِ المُؤْمِنِينَ ابْنُ حَجَرْ
قُلْتُ: وَلَا يَبْعُدُ فِي السُّيُوطِي
…
ذَاكَ لِمَا حَازَ مِنَ الشُّرُوطِ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ عَلَى صِفَهْ
…
تُعْطِيهِ ذَا مَعَ وَرَعٍ وَمَعْرِفَهْ
وَابْنُ مَعِينٍ مِثْلُهُ فِيمَا سَلَفْ
…
وَلَمْ أَجِدْ هَذَا لَهُمْ عَنْ السَّلَفْ
(1)" هدية المغيث في أمراء المؤمنين في الحديث ": ص 7، 8 مطبعة حجازي بالقاهرة: 1358 هـ - 1993 م.
وهؤلاء المؤرخون الذين قدمناهم كانوا يراعون جانب التحديث ويغلبونه، ولهذا أدخلوا فيمن ذكروهم أمثال مالك والثوري والأوزاعي دون أن يراعوا الجانب الفقهي، وما يتميز به فقه هؤلاء، وما فارق به فقه المحدثين الذي ظهر فيما بعد.
ولكن الفقهاء الذين يعنون بذكر المذاهب الفقهية واختلاف العلماء، يسوقون أمثال مالك والثوري والأوزاعي كأصحاب مذاهب مستقلة ثم يعطفون عليها مذهب أهل الحديث: فابن قدامة في عرضه الخلاف في إباحة ترك الاغتسال من الجنابة في رمضان حتى يطلع الفجر، يثبت أن القول بالإباحة هو قول عامة أهل العلم من الصحابة، «وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، فِي أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، فِي أَهْلِ العِرَاقِ وَالأَوْزَاعِيُّ فِي أَهْلِ الشَّامِ، وَاللَّيْثُ، فِي أَهْلِ مِصْرَ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، فِي أَهْلِ الحَدِيثِ، وَدَاوُدُ، فِي أَهْلِ الظَّاهِرِ» (1).
ويقول ابن حزم في بيان أن مدة المسح على الخفين: يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر:«وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَالحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَدَاوُد بْنِ عَلِيٍّ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَجُمْلَةِ أَصْحَابِ الحَدِيثِ» (2).
وَقَالَ فِيمَنْ لَا مَاءَ مَعَهُ أَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَبِّلَ زَوْجَتَهُ وَأَنْ يَطَأَهَا «وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وَقَتَادَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ وَدَاوُد، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ» (3).
(1)" المغني " لابن قدامة: 3/ 137.
(2)
" المحلى ": 2/ 89.
(3)
" المحلى ": 2/ 141، 142.
وقال في إمامة المرأة للنساء: «وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَجُمْهُورِ أَصْحَابِ الحَدِيثِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِمْ» (1).
وفي سجود التلاوة من المفصل قال: «وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ النَّاسَ بِذَلِكَ، [وَالشَّعْبِيِّ]، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، [وَالشَّافِعِيِّ]، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِمْ، وَأَصْحَابِ الحَدِيثِ» (2).
ولئن احتمل بعض ما تقدم من نصوص ابن حزم أن تكون من قبيل عطف العام على الخاص، أو العكس، فقد وجدنا له نصًا قاطعًا بأن أصحاب الحديث جماعة مستقلة لهم فقههم الخاص بهم، وهو فقه يفارق مذاهب غيرهم من المتقدمين وذلك في معرض مناقشة ابن حزم [لمفهوم] الإجماع والمراد به، قال:«فَإِنْ قَالُوا إِنَّمَا أَرَادَ أَهْلَ السُّنَّةِ قُلْنَا أَهْلُ السُّنَّةِ فِرَقٌ: فَالحَنَفِيَّةُ جَمَاعَةٌ، وَالمَالِكِيَّةُ جَمَاعَةٌ وَالشَّافِعِيَّةُ جَمَاعَةٌ وَالحَنْبَلِيَّةُ جَمَاعَةٌ وَأَصْحَابُ الحَدِيثِ الذِينَ لَا يَتَعَدُّونَهُ جَمَاعَةٌ» (3).
ويقول في موضع آخر: «وَلَا أَكْثَرَ مِنْ غَلَبَةِ مَذْهِبِ مَالِكٍ عَلَى الأَنْدَلُسِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَقَدْ كَانَ طَوَائِفٌ [عُلَمَاءٌ] مُخَالِفُونَ لَهُ جُمْلَةٌ قَائِلُونَ بِالحَدِيثِ أَوْ بِمَذْهِبِ الظَّاهِرِ» (4).
ونلاحظ أن ابن حزم ذكر (الحنبلية جماعة) مستقلة عن (أصحاب الحديث) ونحن نؤيده فيما ذهب إليه. وهذا لا يعني أن أحمد بن حنبل ليس من
(1)" المحلى ": 3/ 28.
(2)
" المحلى ": 5/ 111.
(3)
" الإحكام " لابن حزم: 4/ 196.
(4)
المصدر السابق: 4/ 187.
أصحاب الحديث، بل يعني أن الحنبلية غير أحمد بن حنبل، وغير أصحاب الحديث، فإن أحمد كان محدثًا سلك مسلك المحدثين وأفتى على وفقه، ولكن المطلع على كتب الحنبلية مثل " المغني " لابن قدامة يجد كثيرًا من التفريعات والمسائل الافتراضية التي لم تؤثر عن ابن حنبل، بل أثر عنه كراهيته لها وتحذيره منها، ولكن فقهاء الحنبلية أخذوا مسائل أهل الرأي. ثم حاولوا أن يجيبوا عنها على وفق أصول إمامهم، كما صنع أسد وسحنون في الفقه المالكي.
وقد عثرت على نص لابن القيم يؤيدني فيما ذهبت إليه من أن أتباع أحمد بن حنبل هم المحدثون، وليسوا الحنابلة ففي بسطه وجوه الاحتجاج على أهل التقليد، ذكر أن الطبقة الأولى من أصحاب أئمة المذاهب كانوا أتبع للأئمة من المقلدين المتأخيرن «فَأَتْبَعُ النَّاسِ لِمَالِكٍ ابْنُ وَهْبٍ وَطَبَقَتُهُ مِمَّنْ يُحَكِّمُ الحُجَّةَ وَيَنْقَادُ لِلدَّلِيلِ أَيْنَ كَانَ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَتْبَعُ لأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ المُقَلِّدِينَ لَهُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِمَا لَهُ، وَكَذَلِكَ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالأَثْرَمُ وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ أَتْبَعُ لَهُ مِنْ المُقَلِّدِينَ المَحْضِ المُنْتَسِبِينَ إلَيْهِ» (1).
وقد ساعدت نظرية (بروز فقه المحدثين) على توضيح التناقض المروي عن الإمام أحمد في ذمه الرأي ومدحه له، فإنها يمكن أن تلقى مزيدًا من الضوء حول الظاهرة التي اشتهر بها الفقه الحنبلي وهي كثرة الروايات المختلفة والمتعارضة أحيانًا عن الإمام أحمد في المسألة الواحدة، والتي يتأرجح بعضها من الإثبات المطلق إلى النفي المطلق، مما لا يتأتى معه إمكان الجمع بينهما.
وقد كانت هذه الظاهرة محل دراسة للعلماء، ناقشوا أسبابها، وبينوا دوافعها (2) ولكن الذي أضيفه هنا وأود أن يؤخذ في الاعتبار عند دراسة هذه
(1)" إعلام الموقعين ". مطبوع أسفل " حادي الأرواح "، وكلاهما لابن القيم: 2/ 331.
(2)
انظر " أسباب اختلاف الفقهاء " للأستاذ الشيخ علي الخفيف: ص 282، 284 =
الظاهرة، أن بعض هذا الاختلاف المروي، يمثل المراحل التي مر بها الإمام أحمد في تكوينه الفقهي، أي ما بين اختياره لرأي من يرتضيه ممن سبقه من الفقهاء واستقراره أخيرًا على مذهب أهل الحديث ورفضه لكل رأي. ولا شك أن هذه النقطة تحتاج إلى دراسة خاصة ليس هذا مكانها، يكون من نتيجتها معرفة المتأخر من أقواله، ومقارنتها بما تقدم منها قبل المحنة.
= و" ابن حنبل " للأستاذ الشيخ أبي زهرة: ص 189، 190، ويتلخص ما ذكرا من أسباب اختلاف الروايات في:
أ - اختلاف الرواية عن الصحابة في مسألة لم يستطع ابن حنبل الترجيح فيها فيذكرها كما هي.
ب - ورعه ورجوعه عن فتواه للحديث أو للأثر.
ج - عدم تدوينه لمذهبه الفقهي، مما ينتج عنه خطأ في النقل.