الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد حرص المحدثون على الفقه بهذا المعنى السلفي النابض بالحياة والذي تسري فيه حرارة الإيمان، وتطل منه عين الضمير اليقظة التي تجعل من الإنسان على نفسه رقيبًا، وهذا الفقه الصادر عن حس إلهي، ووجدان ديني، واستمساك بالأخلاق والقيم - لم يكن يتمثل في فقه أي مذهب من المذاهب، في أوضح صورة وأبهاها، كما كان يتمثل في فقه المحدثين.
وقد انعكس هذا التصور للفقه على:
[أ] سلوكهم عند الاستنباط.
[ب] على علاجهم للموضوعات.
[ج] على نظرتهم للأعمال سواء من حيث الباعث عليها، أو من حيث مآلها وصيرورتها، والموافقة بينها وبين المقاصد الدينية والخلقية.
[أ] تَأْثِيرُ هَذَا الاِتِّجَاهِ عَلَى سُلُوكِ المُحَدِّثِينَ عِنْدَ الاِسْتِنْبَاطِ:
أما سلوك أهل الحديث عند الاستنباط، فيتمثل في انقباضهم عن الإفتاء، وفي وجلهم وترددهم إذا أفتوا، لا يجزمون بالحكم في معظم أحوالهم، وإنما يعبرون عنه بما يشعر به، وبما يشير إلى موقفهم منه، دون أن يصرحوا بتحليل أو بتحريم، حذرًا من أن يتناولهم الذم في قوله تعالى:{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (1). وهذا السلوك بما يميزهم عن أهل الظاهر، كما سبق، ومما يميزهم أيضًا عن أهل الرأي الذين كانوا متأثرين بابن مسعود (2).
(1)[النحل: 116].
(2)
روى النسائي عن ابن مسعود، أنه قال، وقد أكثروا عليه ذات يوم: «إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي، وَلَسْنَا هُنَالِكَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدَّرَ عَلَيْنَا أَنْ بَلَغْنَا مَا تَرَوْنَ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْكُمْ قَضَاءٌ بَعْدَ اليَوْمِ، فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَإِنْ جَاءَ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، =
وقد ذكرنا من قبل كيف أن المحدثين كانوا يتجنبون في تراجمهم القطع بالتحليل والتحريم، وكانوا يستبدلون به العبارات المحتملة التي لا تدل على الجزم بالحكم بقدر دلالتها على الانطباع النفسي والرأي الشخصي، من مثل قولهم:
(بَابُ مَا جَاءَ فِي كَذَا)، أو (بَابُ تَرْكِ كَذَا)، أو (بَابُ الرُّخْصَةِ فِي كَذَا)، أو (بَابُ التَّشْدِيدِ فِي كَذَا)
…
الخ هذه العبارات.
كما كانوا ورعين في تعليقاتهم الفقهية على الأحاديث، فالدارمي مثلاً يروي حديث:«أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» ، ثم يقول:«أَنَا أَتَّقِي الحِجَامَةَ فِي الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ» (1).
ويروي حديث: «لَا تَكْتَحِلْ بِالنَّهَارِ وَأَنْتَ صَائِمٌ، اكْتَحِلْ لَيْلاً بِالإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو البَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ» ، ثم يعلق الدارمي قائلاً:«لَا أَرَى بِالكُحْلِ بَأْسًا» (2).
وفي حديث «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ» يقول: «فِي فَرْضِ الوَاجِبِ أَقُولُ بِهِ» (3).
وَلَا قَضَى بِهِ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم، وَلَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ، فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ، وَلَا يَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ، وَإِنِّي أَخَافُ، فَإِنَّ الحَلَالَ بَيِّنٌ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» قال النسائي:«هَذَا الْحَدِيثُ جَيِّدٌ جَيِّدٌ» . (انظر " النسائي ": 8/ 230، 231).
(1)
" سنن الدرامي ": 2/ 14، 15. وقد أشار البخاري إلى هذا الحديث في (بَابُ الحِجَامَةِ وَالقَيْءِ لِلصَّائِمِ) لأنه لم يصح عنده، واكتفى بأن روى حديث ابن عباس المبيح للحجامة، وهو: «احْتَجَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ». انظر " البخاري بشرح السندي ": 1/ 218. ولم يرو الدارمي ما يبيح الحجامة.
(2)
و (3)" الدارمي ": 2/ 15 و 17 على التوالي.
وقد روى الدارمي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ، فَقَالَ:«هُوَ صَيْدٌ وَفِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ» ، فَقِيلَ لأَبِي مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيَّ:«مَا تَقُولُ فِي الضَّبُعِ تَأْكُلُهُ؟» قَالَ: «أَنَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ» (1).
وقد تجلت هذه الظاهرة في [أوضح] صورة فيما أثر عن الإمام أحمد من فتاوى بسبب مكانته العلمية والأدبية التي سبق الكلام عنها، والتي جعلته مقصدًا للمفسدين ثم أعانت على حفظ فتاويه.
لقد كان رضي الله عنه يحجم عن الإفتاء في كثير من الحالات، وقد ذكرنا أنه استعفى من الإفتاء في الذهب والفضة، إذا كان كل منهما على الانفراد لا يبلغ نصاب الزكاة، ولكن مجموعها مقدرًا بقيمة أحدهما يبلغ النصاب، فمن يملك عشرة دنانير ومائة درهم، هل يزكى عنها؟ قد توقف أحمد عن الإجابة في هذه المسألة، وغضب عندما ألح السائل عليه وقال:«أَيُّ شَيْءٍ بُدٌ، إِذَا هَابَ الرَّجُلُ شَيْئًا [يُحْمَلُ] عَلَى أَنْ يَقُولَ فِيهِ» (2).
ومن أمثلة توقفه أيضًا ما روي عنه فيمن لا يجد الماء إلا بثمن، فإن كان هذا الثمن ثمن المثل لزمه الشراء، وإن كانت الزيادة كثيرة تجحف بماله لم يلزمه شراؤه، وإن كانت يسيرة لا تجحف بماله فقد توقف أحمد في هذه المسألة (3).
وكذلك توقف أحمد فيمن نسي في رحله أو في موضع يمكنه استعماله ثم صلى بالتيمم (4).
(1)" سنن الدارمي ": 2/ 74، 75. وقد ذهب أحمد وإسحاق إلى أن الضبع صيد، ولا بأس بأكله. (انظر " مسائل أحمد وإسحاق ": 2/ 21، 22. 2835).
(2)
انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 21.
(3)
و (4)" المغني "، لابن قدامة: 1/ 240، 242.
وفي المسح على الخفين، «قِيلَ لأَحْمَدَ: يَمْسَحُ بِالرَّاحَتَيْنِ أَوْ بِالأَصَابِعِ؟ قَالَ: بِالأَصَابِعِ. قِيلَ لَهُ: أَيُجْزِئُهُ بِإِصْبَعَيْنِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْ»، وَكَذَلِكَ تَوَقَّفَ عِنْدَمَا سُئِلَ: هَلْ يُجْزِئُ غَسْلُ الخُفِّ بَدَلَ المَسْحِ (1).
ومن أمثلة توقفه أيضًا في ما جاء في صلاة المسافر، فإن المشهور عنه أن المسافر إن شاء صلى ركعتين وإن شاء أتم. وقد روي عنه أنه توقف، وقال:«أَنَا أُحِبُّ الْعَافِيَةَ مِنْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ» (2).
وإذا جامع الصائم ناسيًا فظاهر المذهب الحنبلي أنه كالعامد، نص عليه أحمد، وروى أبو داود عن أحمد أنه توقف عن الجواب، وقال:«أَجْبُنُ أَنْ أَقُولَ فِيهِ شَيْئًا، وَأَنْ أَقُولَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ» . قَالَ: «سَمِعْته غَيْرَ مَرَّةٍ لَا يَنْفُذُ لَهُ فِيهِ قَوْلٌ» (3).
هكذا كان يتوقف الإمام أحمد في كثير من المسائل، أما المسائل التي كان يجيب فيه فإن إجابته كانت في كثير من الأحيان تتجنب التصريح بالتحليل والتحريم، كما كانت في أحيان أخرى تحمل طابع التردد والحذر والخوف من الخطأ، فلا تدل بوضوح على الحكم، ولذلك قد يقع الاختلاف في تفسير ما يروى عنه.
فعن أحمد روايتان في دم البق والبراغيث وما لا نفس له سائلة، إذا أصاب هذا الدم الثوب أو الجسد. فإحدى الروايتين تقول: إن هذا الدم طاهر، وقد نقل عنه في رواية ثانية أنه قال:«إذَا كَثُرَ، إنِّي لَأَفْزَعُ مِنْهُ» .
(1)" المغني ": 1/ 299.
(2)
" المغني ": 2/ 267.
(3)
" المغني ": 3/ 121. ونقل البخاري عن الحسن ومجاهد أن للجامع في رمضان ناسيًا لا شيء عليه (" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 217).
فهل تعني هذه العبارة وجوب غسل هذا الدم وإزالته؟ إن العبارة ليست نصًا في هذا المعنى، ولذلك يقول ابن قدامة:«وَالأَوَّلُ أَظْهَرُ - أَيْ كَوْنِهِ طَاهِرٌ -، وَقَوْلُ أَحْمَدَ: " إنِّي لأَفْزَعُ مِنْهُ " لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي نَجَاسَتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَوَقُّفِهِ فِيهِ» (1).
والحذر من الجزم بالتحليل والتحريم، الذي أخذ المحدثون أنفسهم به كان شائعًا عند معظم السلف والأئمة السابقين. يصرح بذلك الإمام مالك فيقول:«لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْتُ أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، مَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ هَذَا وَنَرَى هَذَا حَسَنًا، وَنَتَّقِي هَذَا وَلَا نَرَى هَذَا، [وَزَادَ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ]، وَلَا يَقُولُونَ: حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا أَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنَ العِلْمِ رَأْيًا وَاسْتِحْسَانًا لَمْ [يُقَلْ] فِيهِ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ» (2).
وهنا امتنع بعض العلماء عن الإفتاء في بعض المسائل المشكلة، مثل سفيان بن عيينة الذي كان لا يفتي في الطلاق، ويقول:«مَنْ يُحْسِنُ هَذَا؟» (3).
وقد سرد ابن القيم بعض مسائل مأثورة عن الإمام أحمد، تجنب فيها التصريح بالتحليل والتحريم: فمن ذلك، «أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ قَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ
(1)" المغني ": 2/ 103.
(2)
" جامع بيان العلم وفضله ": 2/ 146، والآية هي 59 من سورة يونس.
(3)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 36.
الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ: " أَكْرَهُهُ وَلَا أَقُولُ هُوَ حَرَامٌ ". وَمَذْهَبُهُ تَحْرِيمُهُ، وَإِنَّمَا تَوَرَّعَ عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ لِأَجْلِ قَوْلِ عُثْمَانَ» (1).
وفي بعض المسائل يتبين أن الإمام أحمد كان يتورع عن إطلاق لفظ التحليل والتحريم، حتى في المسائل المنصوص على حكمها نَصًّا صريحًا، فقد قال:«لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُ مَا ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ وَلَا الكَوَاكِبِ وَلَا الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3]» .
قال ابن القيم بعد ذكره الأمثلة على هذا الاتجاه عند أحمد: «وَهَذَا فِي أَجْوِبَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُسْتَقْصَى» (2).
هذا هو سلوك المحدثين عند الاستنباط، وهو كما رأينا، سلوك تحكمه الخشية لله عز وجل، ويسيطر عليه الورع، ويخضع لرقابة الضمير اليقظ. ولا شك أن هذا السلوك متأثر بتصورهم للفقه، هذا التصور الشامل الذي يجمع بين العلم والعمل في مفهوم الفقه، ولا يقصره على معرفة الأحكام العملية المجردة.
(1) في " المغني ": 6/ 584 أن الجمع بين الأختين بملك اليمين كرهه عمر وعثمان وعلي وابن عمر وابن مسعود، وروي عن ابن عباس قال:«أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ، [وَلَمْ أَكُنْ لِأَفْعَلْهُ]» ، ويروى ذلك عن علي، والآيتان هما:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَاّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] و {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
(2)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 44 وما بعدها والنص المذكور في ص 46.