الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والذي نخلص إليه في عرضنا للقرن الأول الهجري أن فقهاء الحجاز وفقهاء العراق لم تكن الفجوة بينهما واسعة أو عميقة، وأنهما لذلك لم ينقسما - ولا كل منهما - إلى أهل حديث وأهل رأي، لكن الخلافات السياسية التي اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك هي التي تظاهرت مع الفرق الدينية والمذاهب المتطرفة، على وصم العراق بالبدعة، ووصفه باتباع الرأي والهوى في مجال العقيدة، وألقى ذلك ظلالاً قائمة على فقه العراق، فسرت كراهية الرأي في العقيدة إلى الرأي في الفقه، ووقف منه كثير من العلماء موقف الحذر والاتهام.
فِي القَرْنِ الثَّانِي:
فإذا تركنا القرن الأول - هذا القرن الحيوي البناء، الذي شيدت فيه دولة الإسلام، وفقه الإسلام، وتكونت فيه المدارس الفقهية في كثير من الأمصار - إذا جاوزنا هذا القرن وعبرنا التاريخ إلى القرن الثاني، فسوف نشهد نهضة فقهية عظيمة، وحركة علمية نشيطة، أكل فيها البناء، وتميزت المدارس الفقهية، واتسعت قاعدتها من طلاب العلم، وأقبل الناس على الفقه يعرضون عليه عاداتهم ومعاملاتهم، ويستنبئونه عن الحكم في كل جديد يعرض لهم.
فماذا كان من أمر المدرستين في هذا القرن؟ وهل تميز فيه أهل الحديث من أهل الرأي؟
قد يمكن تلخيص معالم المدرستين في القرن الثاني فيما يلي:
أ - زادت حِدَّةُ التنافس الإقليمي، وأصبح الشعور بالانتماء للمشيخة والتعصب لها أكثر عُمْقًا وأشد اعتزازًا. وإذا كانت الطبقة القريبة الصلة بالصحابة من أعيان التابعين متسعة الإدراك في تفهم خلافات الصحابة، مرهفة الذوق في مسايرة روح التشريع، وهي مع ذلك معتزة بمشيختها
مفضلة علمها على علم غيرها، كما سبق، إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للتابعين، فليس مستغربًا ممن يجيء بعدهم من طبقات أن يكون أكثر اعتزازًا، وأشد استمساكًاً وَتَشَبُّثًا بشيوخهم، وبخاصة أنهم قد بعدوا عن مسرح الأحداث الإسلامية الأولى، وتلقوها من طريق معين، وتفهموها من وجهة نظر خاصة، هي طريق الشيخ ونظر الشيخ، والثقة والاعتزاز بالشيوخ تحمل على ترجيح رأيهم في موطن الخلاف، كما تحمل على تجسيم هذا الخلاف وإعطائه أهمية لم تكن له عند من سبقهم، وقد ينتج عن ذلك تنقص أقدار أو آراء المخالفين.
فَالزُّهْرِيُّ، مَثَلاً، كَانَ يُضَعِّفُ عِلْمَ أَهْلِ العِرَاقِ إِذَا ذُكِرُوا عِنْدَهُ، فلما قيل له إن بالكوفة من يروي أربعة آلاف حديث - يقصدون الأعمش - وجاءوه ببعض حديثه، قال بعد أن اطلع عليه:«وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ، وَمَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ بِالعِرَاقِ [وَاحِدًا] يَعْلَمُ هَذَا» (1).
وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ عَنْ أَهْلِ العِرَاقِ فَقَالَ: «أَنْزِلُوهُمْ [عِنْدَكُمْ] بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الكِتَابِ لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا {آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} [العنكبوت: 46]» ، وقد حدث أن دخل عليه محمد بن الحسن وهو يقول هذه العبارة، فاستحيا مالك منه، واعتذر له بقوله:«كَذَلِكَ أَدْرَكْتُ أَصْحَابَنَا يَقُولُونَ» (2).
أَمَّا حَمَّادُ بنُ أَبِي سُلَيْمَانَ العِرَاقِيُّ، فَقَدْ قَالَ عَنْ عَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الحِجَازِ فَقَالَ:«قَدْ سَأَلْتُهُمْ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَاللَّهِ لَصِبْيَانُكُمْ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بَلْ صِبْيَانُ صِبْيَانِكُمْ» ، قَالَ مُغِيرَةُ رَاوِي هَذِهِ العِبَارَةِ بِقَوْلِهِ:«هَذَا بَغْيٌ [مِنْهُ]» . ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: «صَدَقَ مُغِيرَةُ، وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - وَهُوَ أَقْعُدُ النَّاسِ بِحَمَّادٍ - يُفَضِّلُ عَطَاءً عَلَيْهِ» (3).
(1)" جامع بيان العلم ": 3/ 34.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 157.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 152.
وقصة أبي حنيفة مع الأوزاعي تعطينا صورة واضحة من هذا العمق في الانتماء وتوضح مدى الاعتزاز بالشيوخ والعصبية لهم.
فَقَدْ اجْتَمَعَ الأَوْزَاعِيُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ فِي مَكَّةَ، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«مَا بَالُكُمْ لَا تَرْفَعُونَ أَيْدِيكُمْ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ؟» ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:«لَمْ يَصِحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ شَيْءٌ» ، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«كَيْفَ وَقَدْ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَعِنْدَ الرُّكُوعِ وَعِنْدَ الرَّفْعِ مِنْهُ» ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:«حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَاّ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَلَاةِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ» . فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «أُحَدِّثُكَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، وَتَقُولُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ؟» . فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: «كَانَ حَمَّادٌ أَفْقَهَ مِنَ الزُّهْرِيِّ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَفْقَهَ مِنْ سَالِمٍ، وَعَلْقَمَةُ لَيْسَ بِدُونِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَ لابْنِ عُمَرَ صُحْبَةٌ أَوْ لَهُ فَضْلُ صُحَبَةٍ، فَالأَسْوَدُ لَهُ فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَعَبْدُ اللهِ هُوَ عَبْدُ اللهِ، فَسَكَتَ الأَوْزَاعِيُّ» (1).
وهذه القصة - فوق دلالتها على اعتزاز كل من الإمامين بالمدرسة التي نشأ فيها وتلقى عنها - تُوضِّحُ لنا كيف أن الخلافات البسيطة المروية عن مدارس التابعين أصبحت أكثر عُمْقًا وأشد اتساعًا، فالمناظرة قد حدثت في جزئيات لم تكن تثير شيئًا من الاهتمام وفي الطبقات التي قبلها، والتي كانت أكثر تسامحًا وأوسع صدرًا في تقبل الخلاف وهذه الجزئيات، ولعلهم كانوايفهمون أن كِلَا العملين جائز، وللمصلي أن يفعل أيهما بدون نكير.
ب - وكنتيجة لهذا الانتماء والتعصب الذي زاد من حدته طول السلسلة
(1)" الفكر السامي ": 2/ 99، 100؛ و " مناقب أبي حنيفة " للموفق: 1/ 131؛ و " المناقب "[للكردري](*): 1/ 174.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) ورد كذلك في صفحتي 71، 660 من هذا الكتاب (الكردي) والصواب (الكردري) وهو الشيخ الإمام حافظ الدين بن محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز الكردري الحنفي (ت 827 هـ) صاحب " فتاوى البزازية " و" مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة " طبع على هامش " مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة " للموفق المكي، حيدر آباد الدكن سنة 1321 هـ.
وبعد الطريق من الصحابي، بدأت تتكون المذاهب الفقهية حتى تميز من بينها في نهاية هذا القرن المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، ثم المذهب الشافعي. وكل من المذهبين الحنفي والمالكي يعتبر امتدادًا للمرحلة السابقة في بيئته، وعملها لا يعدو أن يكون جمعًا للفتاوى والآراء والآثار التي ورثها كل منهما عن مشيخته، والذين ورثوها بالتالي عمن سبقهم، ثم الإفتاء في الوقائع التِي تّجِدُّ، إما بالتخريج على الأقوال السابقة وإما بمراعاة الأصول في التشريع.
وإذا كان " الدهلوي " يعتبر أبا حنيفة مُقَلِّدًا فِي الفِقْهِ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ - الوارث فقه أصحاب ابن مسعود -، ويكاد ينحصر إنتاجه فيه في التخريج على أقوال إبراهيم، ودقة النظر في هذا التخريج (1) فإن مالكًا في كثير من مسائله يبدو مُقَلِّدًا لمن سبقه من فقهاء المدينة من صحابة وتابعين، بدليل أن مالكًا قال في " موطئه ":«إِنْ كَانَ فِي كِتَابِي حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَأْيًا هُوَ إِجْمَاعُ أَهْلِ المَدِينَةِ لَمْ أَخْرُجْ عَنْهُمْ» (2).
وَالمُطَّلِعُ عَلَى " المُوَطَّأِ " يُلَاحِظُ ذَلِكَ بِوُضُوحٍ، حَتَّى إِنَّ الإِمَامَ مَالِكًا لَيُسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةٍ تَقْدِيرِيَّةٍ، فَيُجِيبُ عَنْهَا، حَتَّى يُخَيَّلُ لِلْقَارِئِ أَنَّ الإِجَابَةَ مِنْ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، لَوْلَا أَنَّهُ يُعَقِّبُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ:«وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ» (3).
وقد لاحظ ذلك الأستاذ أمين الخولي رحمه الله، «فقرَّرَ أنَّ مَالِكًا مُتَّبِعٌ
(1) انظر: " الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ": ص 26، 27 وعبارته: «وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه أَلْزَمَهُمْ بِمَذْهَبِ إِبْرَاهِيمَ وَأَقْوَالِهْ، لَا يُجَاوِزُهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَكَانَ عَظِيمَ الشَّأْنِ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى مَذْهَبِهِ دَقِيقَ النَّظَرِ فِي وُجُوهِ التَّخْرِيجَاتِ
…
».
(2)
" مالك "، لأمين الخولي: 3/ 546.
(3)
انظر: " الموطأ ": 3/ [52]، 533، 552، 553، 557.
مُسْرِفٌ فِي الاتِّبَاعِ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِلْبَعْضِ أَنَّهُ مُقَلِّدٌ» (1).
وليس معنى نشوء هذين المذهبين في القرن الثاني أنهما قد استوعبا كل المجتهدين، بل وجد معهما كثير من المجتهدين الذين كانت لهم آراؤهم الخاصة، وقد نجح بعضهم في أن يكون له تلاميذ قاموا بمذهبه فترة من الزمن، ويستوي في ذلك العراق والحجاز وغيرهما من الأمصار (2).
ج - مازالت المدرستان تستخدمان الرأي في استنباطهما الفقهي. ومن الخطأ أن نتصور أن الإمام مالكًا لم يستعن بالرأي عند الحاجة إليه. وإذا لم يكن الرأي غريبًا على مدرسة المدينة منذ نشأتها - كما سبق عن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب، وربيعة، فإنه ليس بمستغرب أن يرث مالك هذا المنهج الاجتهادي، الذي لا يستنكف من إعمال العقل، وإبداء الرأي ومراعاة المصلحة ومسايرة روح التشريع، وَقَدْ سُئِلَ أَبُو الأَسْوَدِ (*):«مَنْ لِلْرَّأْيِ بَعْدَ رَبِيعَةَ بِالمَدِينَةِ؟» ، فَيُجِيبُ بِقَوْلِهِ:«الغُلَامُ الأَصْبَحِيُّ - يَعْنِي مَالِكًا - ثُمَّ يعده ابن رشد أمير المؤمنين في الرأي والقياس» (3).
ولقد وجدنا ابن قتيبة في كتابه " المعارف " يعد مالكًا من أصحاب الرأي. ولعله نظر إلى إكثار مالك من الرأي، وإن كان العالم في الحديث الذي عد في الرعيل الأول من رجاله. وبذلك تنهار النظرية التي تقرر أن سبب الإكثار من الرأي هو قلة العلم بالحديث، فما كان علم مالك بالحديث قليلاً، بل كان كثيرًا ولكن الحوادث التي وقعت، والمسائل التِي سُئِلَ فيها كانت أكثر بقدر كبير جدًا. فكان لا بد من الرأي، ولا بد من الإكثار
(1) انظر: " مالك "، للخولي: 2/ 692 وما بعدها.
(2)
كالثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والليث بمصر.
(3)
" مالك "، للخولي: 3/ 641.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قَالَ أَبُو عُمَرَ: هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيُّ الأَسَدِيُّ، ابْنُ عَمِّ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عُرْوَةُ قَدْ حَضَنَهُ وَرَبَّاهُ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ: يَتِيمُ عُرْوَةَ، وَهُوَ مِنْ جِلَّةِ شُيُوخِ مَالِكٍ الَّذِينَ أَخَذَ عَنْهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِصْرَ.
انظر " الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء مالك والشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهم "، لابن عبد البر (ت 463 هـ)، اعتنى به الشيخ عبد الفتاح أبو غدة - بَابُ قَوْلِ أَبِي الأَسْوَدِ شَيْخِ مَالِكٍ فِيهِ، ص 59، الطبعة الأولى: 1417 هـ - 1997 م، مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب - سوريا. وانظر أيضًا:" شيوخ مالك بن أنس "، لابن خلفون (ت 636 هـ)، تحقيق أبي عبد الباري رضا أبو شامة الجزائري: ص 225، ترجمة رقم 26، الطبعة الأولى: 1425 هـ - 2004 م، مكتبة أضواء السلف. الرياض - المملكة العربية السعودية.
منه ما دام يُفتي ويستفتى (1).
ونقل عن مالك أنه قال: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أُخْطِئُ وَأُصِيبُ. فَانْظُرُوا فِي رَأْيِي: فَكُلَّ مَا وَافَقَ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَخُذُوا بِهِ ، وَكُلَّ مَا لَمْ يُوَافِقِ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، فَاتْرُكُوهُ» (2).
وَيُبيِّنُ الإمام مالك أهل الرأي من شيوخه، فَيَقُولُ:«قَالَ لِي ابْنُ هُرْمُزَ: " لَا تُمْسِكْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا سَمِعْتَ مِنِّي مِنْ هَذَا الرَّأْيِ؛ فَإِنَّمَا افْتَجَرْتُهُ أَنَا وَرَبِيعَةُ فَلَا تُمْسِكْ بِهِ» (3).
وبهذا يتضح أن الرأي لم يكن مقصورًا على المذهب الحنفي. والحق أنه ما وجد فقه فالرأي لازم له، اعترف بهذا أهل الحديث أنفسهم، مما يدل على أن الرأي في هذا القرن كان يستعمل من غير نكير.
ويقول ابن المبارك أيضًا: «إِنْ كَانَ الأَثَرُ قَدْ عُرِفَ وَاحْتِيجَ إِلَى الرَّأْيِ، فَرَأْيُ مَالِكٍ، وَسُفْيَانَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ أَحْسَنُهُمْ، وَأَدَقُّهُمْ فِطْنَةً، وَأَغْوَصُهُمْ عَلَى الفِقْهِ وَهُوَ أَفْقَهُ الثَّلَاثَةِ» (5).
وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ: «إِنَّا لَا نَنْقِمُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَأَى، كُلُّنَا يَرَى، وَلَكِنَّنَا نَنْقِمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِيئُهُ الحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
(1)" مالك "، للشيخ أبو زهرة: 22، 23؛ وانظر " المعارف ": ص 170.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 33.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 33. وقد زدنا في آخر كلمة ابن هرمز «به» لأن المعنى يقتضيها.
(4)
" الاحتجاج بالسنة "، للسيوطي: ورقة 3، ب؛ و " إعلام الموقعين ": 1/ 53 حيث روى ابن القيم هذه العبارة عن ابن المبارك ويحيى بن أكثم؛ ثم عقَّب بقوله: «يُرِيدَانِ بِالرَّأْيِ: القِيَاسَ الصَّحِيحَ، وَالمَعَانِيَ وَالعِلَلَ الصَّحِيحَةَ
…
».
(5)
" تاريخ بغداد: 3/ 343.
فَيُخَالِفُهُ إِلَى غَيْرِهِ» (1).
ويسأل الإمام أحمد بن حنبل عمن يريد أن ينظر في الرأي، ورأي من ينظر؟ فيقول:«رَأْيُ مَالِكٍ» (2).
كلا المذهبين يستعين بالرأي في اجتهاده إذن، غاية الأمر أن منهجهما في هذا الرأي مختلف: فالمذهب الحنفي يلجأ إلى القياس لاستخراج الحكم فيما لا نص فيه، على حين يتجه المذهب المالكي إلى تعرف المصلحة فيما يرد عليه من مسائل ليس فيهما قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ.
ولعل البيئة والثقافة لهما تأثير ظاهر في اتجاه المذهبين في استنباط حكم ما وجد من الأحداث، مما لا تتناوله النصوص بطريق مباشر: فالعراقيون بعامة حيث تعددت وتنوعت منابع الثقافة عندهم، من الكتب المترجمة والفلسفات المتنوعة، وحيث كثرت عندهم المناظرات العقلية .. وأبو حنيفة بخاصة، حيث اشتغل بعلم الكلام حتى غلبت عليه الثقافة الكلامية (3)، كان لا بد أن ينطبع فقههم بطابع استخراج العلل، وتعميم الأحكام وربط الفروع بعضها ببعض.
وقد أعانت أبا حنيفة كثرة الفروع في زمنه على تطبيق منهجه العقلي، فكل جيل كان يحفظ المسائل التي كانت قبله، ويضيف إليها مَا جَدَّ مِنْ فُرُوعٍ ثم يسلم هذه الحصيلة إلى الجيل التالي له، ليصنع فيها مثل هذا الصنيع،
(1)" تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة: ص 62.
(2)
" مالك " للخولي: ص 641.
(3)
انظر " ضحى الإسلام ": 2/ 179 وفيها عن أبي حنيفة: «كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الكَلَامِ حَتَّى بَلَغْتُ فِيهِ مَبْلَغًا يُشَارُ إِلَيْهِ فِيهِ بِالأَصَابِعِ» . ويروى عنه أنه قال: «كُنْتُ رَجُلاً أُعْطِيتُ جَدَلاً فِي الكَلَامِ فَمَضَى دَهْرٌ فِيهِ أَتَرَدَّدُ وَبِهِ أُخَاصِمُ، وَعَنْهُ أُفَاضِلُ» . وانظر " مناقب أبي حنيفة " للموفق بن أحمد المكي: 1/ 55، 56.
فيثري الفقه وبذلك وتكثر فروعه فإذا صادفت هذه الحصيلة المثرية من الفروع عقلية قياسية كعقلية أبي حنيفة، اتجهت فورًا إلى تجميع هذه الفروع وربطها ما أمكن بقواعد عامة.
أما المدنيون حيث لم تتعقد الحياة عندهم، وحيث العرف الإسلامي هو الشائع الغالب على مجتمعهم وحيث كانوا بعيدين عن الثقافات الأجنبية المستوردة، فقد بعدوا عن استعمال المقاييس الضابطة، واتجهوا إلى مراعاة المصلحة والعرف، في الغالب الأعم.
هذا الاختلاف في تناول الرأي كان أحد مظهرين مَيَّزَا بَيْنَ المَذْهَبَيْنِ وفارقا بين الاتجاهين.
أما المظهر الآخر فهو الفقه التقديري، أو فرض المسائل وتقدير الوقائع وهو نتيجة لاستعمال القياس والإكثار منه، حيث يصبح الفقه التقديري ميدانًا لتطبيق الأقيسة، ومجالاً لاختبار العلل.
وقد أصبحت ظاهرة فرض الفروض وتفريع المسائل من أهم خصائص الفقه العراقي في القرن الثاني وَعَمَّتْ شهرته بذلك الآفاق، حتى إن الإمام مالكًا يرشد من قد يكون عنده هذا الاتجاه من تلاميذه إلى أن يذهب إلى العراق، فيُرْوَى أَنَّ أسد بن الفرات عندما ذهب إلى مالك أخذ يلقي عليه المسائل يَتَعَرَّفُ أَحْكَامَهَا، حتى عرف مالك فيه رغبته في التفريع، فأوصاه بأن يذهب إلى العراق، فقد سأل مالكًا يومًا عن مسألة فأجابه، ثم أخرى فأجابه، ثم أخرى فأجابه، وقال له:«حَسْبُكَ يَا مَغْرِبِيُّ إِنْ أَحْبَبْتَ الرَّأْيَ فَعَلَيْكَ بِالعِرَاقِ» ، فارتحل إلى محمد بن الحسن، ولا شك أن هذه الرواية تدل على إخلاص أولئك العلماء في طلب الحقيقة وحسن إرشادهم لتلاميذهم، فإنه لما رأى مالك فيه نزعة الفرض والتفريع وأن ذلك يحسن عند العراقيين أرشده إليه مخلصًا (1).
(1) انظر " مالك "، لأبي زهرة: ص 236، 249.
ويستنبط من إجابة مالك لسائله مرة بعد أخرى، أنه لَمْ يَكُنْ يَتَجَنَّبُ فَرْضَ المَسَائِلِ وإن كان لا يكثر منها بل كان يرى أن تفريغ المسائل مما يمدح به وأن الفقه فيه مقصور على أهل المدينة والكوفة، فَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ يُخَالِفُونَكَ فِيهَا
…
فَقَالَ: «وَمَتَى كَانَ هَذَا الشَّأْنُ بِالشَّامِ؟ إِنَّمَا هَذَا الشَّأْنُ وَقْفٌ عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ وَالكُوفَةِ» ويُعلِّقُ ابن عبد البر بقوله: «لِأَنَّ شَأْنَ المَسَائِلِ بِالكُوفَةِ مَدَارُهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَالثَّوْرِيِّ» (1).
ولا شك أنَّ أبا حنيفة لم يبتدع فرض المسائل، بل كانت موجودة قبل ذلك بدلالة أقوال الصحابة والتابعين في كراهتها مما سنتناوله بعد قليل ولكن أبا حنيفة هو الذي أكثر منها. يقول الحجوي:«أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَهُوَ الذِي تَجَرَّدَ لِفَرْضِ المَسَائِلِ وَتَقْدِيرِ وُقُوعِهَا وَفَضِّ أَحْكَامِهَا، إِمَّا بِالقِيَاسِ عَلَى مَا وَقَعَ، وَإِمَّا بِانْدِرَاجِهَا فِي العُمُومِ مَثَلاً، فَازْدَادَ الفِقْهُ نُمُوًّا وَعَظَمَةً، وَصَارَ أَعْظَمَ مِنْ ذِي قَبْلٍ بِكَثِيرٍ. قَالُوا: إِنَّهُ وَضَعَ سِتِّينَ أَلْفَ مَسْأَلَةٍ، وَقِيلَ ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفِ مَسْأَلَةٍ» (2). ولذلك قال خصومه مُشنِّعِينَ عَلَيْهِ: «[هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا لَمْ يَكُنْ وَأَجْهَلُهُمْ بِمَا قَدْ كَانَ]» (3)(*).
وذكر ابن عبد البر عن ابن جرير الطبري «أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ تَحَامَوْا حَدِيثَ أَبِي يُوسُفَ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَجْلِ غَلَبَةِ الرَّأْيِ وَتَفْرِيعِهِ الفُرُوعَ وَالمَسَائِلَ فِي الأَحْكَامِ» (4).
والفقه التقديري كان منار خلاف بين العلماء، والكارهون له هم امتداد لمن كرهه من الصحابة والتابعين.
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 158.
(2)
" الفكر السامي ": 2/ 127.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 145.
(4)
انظر " الانتقاء ": ص 173.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع، ورد «إِنَّهُ أَجْهَلَ النَّاسِ بِمَا كَانَ وَأَعْلَمَهُمْ، بِمَا لَمْ يَكُنْ» ، والصواب ما أثبته.
انظر " جامع بيان العلم وفضله "، لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري: 2/ 1073، حديث رقم 2087، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية. وخصم أبي حنيفة كما ذكره ابن عبد البر: رَقَبَةُ بْنُ مَصْقَلَةَ.
وقد استند الكارهون له إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1) كما استدلوا بما رواه " مسلم " عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ وَوَأْدَ الْبَنَاتِ وَمَنْعًا وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ» . قال كثير من العلماء: المراد بقوله: «وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» التَّكْثِيرُ مِنَ السُّؤَالِ فِي المَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ تَنَطُّعًا وَتَكَلُّفًا فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ (2). كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الله فَرَضَ أَشْيَاءَ فَلَا تُضَيِعُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» . رواه أحمد وغيره (3).
وقوى من كراهية فرض المسائل في نفوس هؤلاء العلماء عبارات لبعض السلف رويت عنهم في كراهة السؤال عما لم يكن؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابْنُ عُمَرَ مَسْأَلَةً، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:«لَا تَسْأَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ - يَلْعَنُ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ» (4).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: «بَلَغَنَا أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ -، «كَانَ يَقُولُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ: أَكَانَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ كَانَ، حَدَّثَ فِيهِ بِالذِي يَعْلَمُ
(1)[المائدة: 101]. وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا رَوَاهُ " البُخَارِيُّ " وَ " مُسْلِمُ " عَنْ أَنَسٍ مِنْ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: «أَبُوكَ فُلَانٌ» ، أَوْ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ السُّؤَالِ عَنِ الَحجِّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ هُوَ؟ فَقَالَ الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ» . أَوْ سَأَلُوا عَنْ أُمُورِ الجَاهِلِيَّةِ التِي عَفَا اللَّهُ عَنْهَا، أَوْ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا عَنْ البَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ. وَعَقَّبَ القُرْطُبِيُّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ بِقَوْلِهِ:«وَفِي الصَّحِيحِ وَالمُسْنَدِ كِفَايَةٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْجَمِيعِ» ، انظر " تفسير القرطبي ": 6/ 330.
(2)
" تفسير القرطبي ": 6/ 332.
(3)
" الفكر السامي ": 2/ 128.
(4)
" سنن الدارمي ": 1/ 51.
وَالذِي يَرَى، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَكُنْ، قَالَ:" فَذَرُوهُ حَتَّى يَكُونَ "» (1)، وَسُئِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه، عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ:«هَلْ كَانَ هَذَا بَعْدُ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: دَعُونَا حَتَّى يَكُونَ، فَإِذَا كَانَ، تَجَشَّمْنَاهَا لَكُمْ» (2).
«وَسُئِلَ طَاوُوسُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: " كَانَ هَذَا؟ "، قُلْتُ: " نَعَمْ "، قَالَ: " آللَّهِ ". قُلْتُ: " آللَّهِ "» . ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَنَا أَخْبَرُونَا عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَعْجَلُوا بِالبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، فَيُذْهَبُ بِكُمْ هَاهُنَا وَهَاهُنَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تَعْجَلُوا بِالبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، لَمْ يَنْفَكَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ، سُدِّدَ، وَإِذَا قَالَ، وُفِّقَ "» (3).
أما من يرون جواز تقدير المسائل، والبحث عن أحكامها فقد استدلوا بحديث الصحيح عن المقداد بن الأسود: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلًا مِنْ الْكُفَّارِ فَقَاتَلَنِي فَضَرَبَ إِحْدَى يَدَيَّ بِالسَّيْفِ فَقَطَعَهَا، ثُمَّ لَاذَ مِنِّي بِشَجَرَةٍ فَقَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ. أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْتُلْهُ» قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا أَفَأَقْتُلُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقْتُلْهُ فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ وَإِنَّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ التِي قَالَ» . ففي الحديث لم ينهه عن فرض مسألة، بل أجابه وبَيَّنَ لَهُ الحُكْمَ، فدل على الجواز (4).
وأجابوا عن آية {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]: بأنَّ هناك شرطًا {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} فمفهومه: إن لم تكن مساءة في إبدائها فلا نهي، يقول ابن العربي: «اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنَ الغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الآيَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُصَرِّحَةٌ
(1)" سنن الدارمي ": 1/ 51.
(2)
" سنن الدارمي ": 1/ 51.
(3)
" سنن الدارمي ": 1/ 49.
(4)
" الفكر السامي ": 2/ 129.
بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ [الْمَسَاءَةُ] فِي جَوَابِهِ، وَلَا [مَسَاءَةَ] فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ فَافْتَرَقَا» (1).
ويلحظ ابن عبد البر أن النهي عن السؤال في الآية كان خوفًا من أن ينزل بسببه تحريم أو تشديد أو عقوبة، لكن السؤال اليوم لا يخشى أن ينزل بسببه تحريم أو تحليل (2). وأما حديث المغيرة بن شعبة الذي فيه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، فالمراد منه النهي عن سؤال الناس أموالهم وحاجاتهم إلحاحًا واستكثارًا.
وقد خص هؤلاء كراهية السؤال بما لا ينتج عِلْمًا وَلَا فِقْهًا، ولكنه على وجه التعنت والتكلف والإحراج، وقد ذكر ابن القيم أن المسألة إذا لم يكن فيها نص «فَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةَ الوُقُوعِ أَوْ مُقَدَّرَةً لَا تَقَعُ، لَمْ يُسْتَحَبَّ لَهُ الكَلَامُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ وُقُوعُهَا غَيْرَ نَادِرٍ وَلَا مُسْتَبْعَدٍ، وَغَرَضُ [السَّائِلِ] الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِهَا لِيَكُونَ مِنْهَا عَلَى بَصِيرَةٍ إذَا وَقَعَتْ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْجَوَابُ بِمَا يَعْلَمُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ السَّائِلُ يَتَفَقَّهُ بِذَلِكَ وَيَعْتَبِرُ بِهَا نَظَائِرَهَا، وَيَقْرَعُ عَلَيْهَا، فَحَيْثُ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الجَوَابِ رَاجِحَةً كَانَ هُوَ الْأَوْلَى» (3).
وقد بين ابن رجب الحنبلي أن العلماء حيال المسائل المفروضة ينقسمون ثلاثة أقسام، ثم ذكر أن الطريقة المثلى في ذلك هي طريقة أحمد بن حنبل، يقول ابن رجب: «وَقَدْ انْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا أَقْسَامًا فَمِنْ أَتْبَاعِ أَهْلِ الحَدِيثِ مَنْ سَدَّ بَابَ المَسَائِلِ حَتَّى قَلَّ فِقْهُهُ وَعِلْمُهُ بِحُدُودِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَصَارَ حَامِلَ فِقْهٍ غَيْرَ فَقِيهٍ وَمِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ الرَّأْيِ مَنْ تَوَسَّعَ فِي تَوْلِيدِ المَسَائِلِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، [مَا] يَقَعُ فِي العَادَةِ مِنْهَا وَمَا لَا يَقَعُ وَاشْتَغلُوا
(1)" الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي: 6/ 332.
(2)
المصدر السابق: 6/ 333.
(3)
" إعلام الموقعين ": 3/ 449.
[بِتَكْلِيفِ] الجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ وَكَثْرَةِ الخُصُومَاتِ فِيهِ وَالجَدَلِ عَلَيْهِ، حَتَّى يَتَوَلَّدَ مِنْ ذَلِكَ افْتِرَاقُ القُلُوبِ، وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا بِسَبَبِهِ الأَهْوَاءُ وَالشَّحْنَاءِ، وَالعَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ، وَيَقْتَرِنُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِنِيَّةِ المُغَالَبَةِ، وَطَلَبِ العُلُوِّ وَالمُبَاهَاةِ، وَهَذَا مِمَّا ذَمَّهُ العُلَمَاءُ الرَّبَّانِيُّونَ، وَدَلَّتْ السُنَّةُ عَلَى قُبْحِهِ وَتَحْرِيمِهِ: وَأَمَّا فُقَهَاءُ أَهْلِ الحَدِيثِ العَامِلُونَ بِهِ، فَإِنَّ مُعْظَمَ هَمِّهِمْ البَحْثُ عَنْ مَعَانِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنَ السُّنَنِ الصَّحِيحَةِ، وَكَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِإِحْسَانٍ، وَعَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحِيحِهَا وَسَقِيمِهَا، ثُمَّ الفِقْهَ فِيهَا وَتَفْهِيمِهَا وَالوُقُوفَ عَلَى مَعَانِيهَا، ثُمَّ مَعْرِفَةَ كَلَامِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي أَنْوَاعِ العُلُومِ مِنَ التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ، وَمَسَائِلِ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، وَأُصُولِ السُنَّةِ، وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ من أَهْلِ الحَدِيثِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَفِي مَعْرِفَةِ هَذَا شُغْلُ شَاغِلٍ عَنْ التَّشَاغُلِ بِمَا أُحْدِثَ مِنَ الرَّأْيِ مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يَقَعُ، وَإِنَّمَا يُورِثُ التَّجَادُلَ فِيهِ الخُصُومَاتِ وَالجِدَالِ وَكَثْرَةِ القِيلِ وَالقَالِ» (1).
ولا أدري ما الفرق بين النوع الأول الذي ذمَّهُ والنوع الثالث الذي ارتضاه، فكلاهما لا يتجه إلى فرض المسائل، وهو موضوع الكلام، إذ ليس الكلام في حفظ المسائل، وهو موضوع الكلام، إذ ليس الكلام في حفظ المسائل وتفهُّمها، وإنما في فرضها والقدرة على استنباط أحكامها.
وعلى الرغم من أن الفقه التقديري كان هدفًا لحملات كثير من العلماء، وكان من أسباب الهجوم على أبي حنيفة ومدرسته، نراه قد اجتذب إليه بعد ذلك كثيرًا من العلماء، وَ «تَابَعَ أَبَا حَنِيفَةَ جُلُّ الفُقَهَاءِ بَعْدَهُ، فَفَرَضُوا المَسَائِلَ وَقَدَّرُوا وُقُوعَهَا، ثُمَّ بَيَّنُوا أَحْكَامَهَا» (2). والتقى الفقه المدني بالفقه
(1)" المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": 44، 45.
(2)
" الفكر السامي ": 2/ 127.
العراقي في فرض المسائل بعد ذلك على يد أسد بن [الفرات](*)، الذي أذهلته كثرة المسائل في العراق، فأراد أن يستخرج فتاوى مالك في مثل مسائلها، وذاكر أصحابه في ذلك، فما وجدوه منصوصًا عليه في المروي عن مالك ذكروه، وما لم يجدوا له فتوى رواها أصحاب مالك عنه اجتهدوا فيها بالقياس على ما أثر عن مالك (1).
وفي هذا القرن خُصَّ أبو حنيفة ومدرسته بأنهم أهل الرأي (2)، بحيث إذا أطلقت هذه العبارة على فرد أو جماعة فهم منها أن هذا الفرد أو هذه الجماعة ممن يتجه اتجاه أبي حنيفة في الفقه، وبسبب هذا الرأي تعرض أبو حنيفة لحملات كثيرة ووجهت إليه وإلى مدرسته انتقاداتٍ مُرَّةٍ، سواء من المدنيين، بدافع من العصبية للمشيخة والوطن، أَمْ مِنَ المُحَدِّثِينَ بدافع من اختلاف المنهج وطريقة التفكير، ثم كثرت المهاترات والاتهامات، وسجل الشعر جانبًا من هذه المعركة فقال شاعر كوفي يُفَضِّلُ أهل الكوفة على أهل المدينة في الفقه:
وَلَيْسَ يَعْرِفُ هَذَا الدِّينَ نَعْلَمُهُ
…
إِلَاّ حَنِيفَةُ كُوفِيَّةَ الدُّرَرِ
لَا تَسْأَلَنَّ مَدِينِيًّا فَتُحْرِجُهُ
…
إِلَّا عَنْ البَمِّ وَالمَثْنَاةِ وَالزِّيرِ
فأجابه رجل من أهل المدينة:
لَقَدْ عَجِبْتُ لِغَاوٍ سَاقَهُ قَدَرُ
…
وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا حُمَّ مَقْدُورُ
(1) انظر " مالك " لأبي زهرة: 236، 249، ص 20.
(2)
على الرغم من أن المُؤرخين يلاحظون أحيانًا أن الفقه لا بد له من اجتهاد وإعمال عقل، فيصفون كل مجتهد بأنه من أهل الرأي، كما فعل ابن قتيبة، إذ عَدَّ مالكًا والثوري والشافعي في جملة أهل الرأي (انظر " المعارف ": ص 169، 171) نجد أنهم عندما يطلقون الرأي ويهاجمونه يعنون بذلك أبا حنيفة ومدرسته كما فعل ابن قتيبة نفسه في هجومه على أهل الرأي بعد هجومه على أهل الكلام (انظر " تأويل مختلف الحديث ": ص 62، 69).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (أسد بن موسى المرواني الأموي) الذي يلقب بـ (أسد السنة) والصواب ما أثبته، فالذي يقصده المؤلف هو أسد بن الفرات، صاحب " الأسدية " وفاتح صقلية.
انظر " مالك " للشيخ أبي زهرة، ص 253، 254 طبع دار الفكر العربي، يوليو سنة 1952 م.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة متحدثا عن أسد بن الفرات: «
…
وَقَدْ جَمَعَ إِذَنْ أَسَدٌ بَيْنَ فِقْهِ العِرَاقِ، وَفِقْهِ المَدِينَةِ، وَقَرَأَ مَا جَمَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ، كَمَا قَرَأَ " مُوَطَّأَ مَالِكٍ "، وَجَمَعَ مَسَائِلَهُ مِنْهُ
…
لَقَدْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ لِكُتُبِ الإِمَامِ مُحَمَّدٍ، وَمَا فِيهَا مِنَ الفُرُوضِ وَالمَسَائِلِ وَحُلُولِهَا، حَافِزًا لِأَنْ يَبْحَثَ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الحُلُولِ عَلَى وِفْقِ مَذْهَبِ الإِمَامِ مَالِكٍ لِيَجْتَمِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ حُكْمُ المَذْهَبِ فِي تِلْكَ المَسَائِلِ
…
».
وانظر " المتفق والمفترق " للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) تحقيق الدكتور محمد صادق آيدن الحامدي، ترجمة رقم 232، 1/ 500، الطبعة الأولى: 1417 هـ - 1997 م، دار القادري للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت - دمشق.
قَالَ المَدِينَةُ أَرْضٌ لَا يَكُونُ بِهَا
…
إلَاّ الغناء وَإِلَّا البَمُّ وَالزِّيرُ
لَقَدْ كَذَبْتَ، لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ بِهَا
…
قَبْرُ الرَّسُولِ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَقْبُورُ (1)
ومدح شاعر أهل الرأي، مُبرِزًا أهم خصائصهم فقال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَوْمًا قَايَسُونَا
…
بِآبِدَةٍ مِنَ [الفُتْيَا] طَرِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِمِقْيَاسِ صَحِيحٍ
…
تِلَادٍ مِنْ طِرَازِ أَبِي حَنِيفَهْ
فأجابه مجيب من أصحاب الحديث:
إِذَا ذُو الرَّأْيِ خَاصَمَ عَنْ قِيَاسٍ
…
وَجَاءَ بِبِدْعَةٍ هَنَةٍ سَخِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا
…
وَآثَارِ مُبَرَّزَةٍ شَرِيفَهْ
فَكَمْ مِنْ فَرْجِ مُحْصَنَةٍ عَفِيفٍ
…
أُحِلَّ حَرَامُهَا بِأَبِي حَنِيفَهْ (2)
وكان من أبرز ما اتهم به أبو حنيفة هو أَنَّ القِيَاسَ عِنْدَهُ أَجَلُّ مِنَ الحَدِيثِ وَأَعْلَى مِنْهُ مَنْزِلَةً، حتى إنه لُيُقدِّمُ القياس على الحديث في موطن التعارض، إما لعدم علمه بالحديث وقلة محفوظه منه - كما يقول المعتذرون عنه - وإما إعراضًا عن السُنَّةِ، كما يقول الناقمون عليه.
ولسنا الآن بصدد تفصيل هذا الاتهام أو تفنيده، فسوف يأتي هذا في موضعه، ولكنا نجمل القول هنا بأن المذهب الحنفي كغيره من المذاهب السُنية في اعتبار الحديث والأخذ به، وإذا وجدت بعض أحاديث رفضها العراقيون، فإنما ذلك لمأخذ قوي في نظرهم، من تضعيف الحديث أو تأويله، أو ادعاء نَسْخِهِ، أو غير ذلك. وَهُمْ لَيْسُوا بِدَعًا في ذلك، فعمر بن الخطاب
(1)" ضحى الإسلام ": 3/ 117. والبم: الوتر الغليظ من أوتار المزهر أي للعود، والزير: الدقيق من الأوتار، والمثناة: أي الحبل، فالألفاظ الثلاثة خاصة بالألفاظ الموسيقية، (" الصحاح ": 2/ 641، 5/ 1875) تحقيق أحمد عبد الغفور.
(2)
" المعارف " لابن قتيبة: ص 169، 170.
رفض رواية فاطمة بنت قيس في عدم وجوب النفقة والسُكنى للمطلقة البائن، كما رفض حديثها هذا أسامة بن زيد وعائشة (1) رضي الله عنهم.
والإمام مالك يصنع مثل ذلك إذا عارض الخبر إجماع أهل المدينة أو عملهم، وأورد ابن القيم أمثلة كثيرة لذلك (2).
وإذا كان أبو حنيفة يتساوى مع مالك وغيره من المجتهدين في الاعتماد على السُنَّةِ، وفي رد ما لا يوثق به منهما، وفي استعمال الرأي، فَلِمَ خُصَّ المَذْهَبُ الحَنَفِيُّ بِالهُجُومِ؟ لم أتهم بنبذ السُنَّةِ وتقديم الرأي عليها، مع أن غيره يصنع أيضًا مثل هذا الصنيع؟.
إنَّ السبب في رأيي يرجع إلى ظاهرتين عاصرهما الفقه الحنفي، وشهد نشأتهما.
الظاهرة الأولى: تَكَوُّنُ طَائِفَةِ المُحَدِّثِينَ وتجمعهم وبروزهم إلى المجتمع كمدرسة لها تخصصاتها واهتماماتها، مما أضفى عليها ملامح خاصة تميزهم عن غيرهم.
ففي بداية هذا القرن بدأ تدوين الحديث وجمعه من الأقطار المختلفة يأخذ صبغة رسمية، وينال عناية الدولة، منذ أن أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر بن حزم عامله على المدينة بأن يجمع ما عنده من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى الآفاق:«انْظُرُوا حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاجْمَعُوهُ» (3)، فنشط العلماء لذلك وأكثروا من الرحلات ولم يقتصروا على
(1)" محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء ": ص 34، 35.
(2)
انظر نهاية الجزء الثاني وبداية الجزء الثالث من " إعلام الموقعين ". ط. الكردي بالأزهر سنة 1925 م.
(3)
انظر " علوم الحديث ومصطلحه ": ص 37؛ و" السنة قبل التدوين " للدكتور محمد عجاج الخطيب: ص 329.
جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أضافوا إليه أقوال الصحابة والتابعين، والمأثور من أعمالهم، يقول أبو الزناد:«كُنَّا نَكْتُبُ الحَلَالَ وَالحَرامَ، وَكَانَ ابنُ شِهَابٍ يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَيْهِ عَلِمْتُ أَنَّهُ أَعْلَم النَاسِ» (1). واستغرق هذا المنهج في تأليف الحديث وجمع أقوال الصحابة والتابعين وأحكام مسائل الفقه - جل القرن الثاني.
والذي يهمنا هنا أن جمع الحديث قد اتسعت دائرته فلم يعد مقصورًا على أحاديث بلد معين أو باب معين، وأن البحث عن الحديث والأثر لم يكن لما يحمله من فقه فقط - كما كانت الحال قبل ذلك - بل كان يجمع أيضًا لذاته، وتجردت لهذا الجمع طائفة تفرغت له، وجابت الأقطار في سبيله، وأطلق عليها (المُحَدِّثُونَ)، وكان من هؤلاء مَنْ لَمْ يُعْنَ بِالإِفْتَاءِ فلم يهتم بالفقه الذي يتضمنه الحديث أو الأثر الذي يحفظه، كما كان منهم من قصد إليه للاستفتاء فكان يُفتي بما يحفظ، سواء أكان ما حفظه مما يفتي به حديثًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أم كان قولاً لصحابي أو تابعي أم رأيًا لشيوخه.
هؤلاء المُحَدِّثُونَ مِمَّنْ لا قدرة لهم على النظر العقلي لم يكن في استطاعتهم الثبات أمام المدرسة العقلية الافتراضية الحنفية إذا حدثت مناظرة أو نقاش في المسائل الخلافية، بل كانوا يصمدون بما يرونه من اعتزاز هذه العقلية بنفسها، وجُرأتها في النقد والموازنة، فيسرع إلى نفوسهم الظن بمخالفة هؤلاء للحديث والسنة، وتضيق بذلك صدورهم، فيطلقون فيها ألسنتهم بالاتهام والتشنيع، وتنتشر التهمة، وتتناقلها المجالس العلمية دون تحقيق، ودون احتكاك عملي بالمتهم. فالأوزاعي يَتَّهِمُ أَبَا حَنِيفَةَ بِالبِدْعَةِ، وسنده في ذلك ما نقل إليه عنه، لكنه يعدل عن ذلك عندما يُطْلِعُهُ عبد الله بن المبارك على
(1)" جامع بيان العلم وفضله ": 1/ 73.
مسائل أبي حنيفة، فيعجب بها، ثم يلتقي بأبي حنيفة في مكة ويناظره، ثم يقول:«غُبِطْتُ الرَّجُلُ بِكَثْرَةِ عِلْمِهِ وَوُفُورِ عَقْلِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى، لَقَدْ كُنْتُ فِيْ غَلَطٍ ظَاهِرٍ، اِلْزَمْ [الرَّجُلَ]، فَإِنَّهُ بِخِلَافِ مَا بَلَغَنِيَ عَنْهُ» (1).
وعندما ظهر الشافعي - الذي درس مذهب الفريقين وَتَمَرَّسَ بمَنْهَجَيْهِمَا وأخذ يناقش العراقيين مستعملاً طريقتهم متمكنًا من منهجهم العقلي - لاقى ارتياحًا وإعجابًا من المُحَدِّثِينَ، الذِينَ لَقَّبُوهُ بِ " نَاصِرِ السُنَّةِ "، على الرغم من أنه كَانَ يُقَدِّرُ أبا حنيفة وأصحابه، ويذكر فضلهم وأياديهم على الفقه.
وقد يخطئ أبو حنيفة في بعض المسائل وكذلك أصحابه - وَهُوَ وَهُمْ ليسوا معصومين - وقد يخالفون حديثًا ما بهذا الاجتهاد، ومثل هذا يقع لعامة المُجتهدين، إلا أن الفكرة السيئة عن مدرسة أبي حنيفة، والخصومة الناشبة بين هذه المدرسة وغيرها سرعان ما تحمل الخصوم على نشر هذا الخطأ والتشنيع به، وإذا كان الشعبي يخشى تشنيع المُحَدِّثِينَ عليه إذا أخطأ، مع أنه من أئمتهم وموضع إجلالهم - فما بالك بهم إذا أخطأ أبو حنيفة؟ يقول الشعبي:«وَاللَّهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ مَرَّةً أَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الوَاحِدَةَ» (2).
أما الظاهرة الثانية: التي عاصرت نشأة المذهب الحنفي وساعدت على الإساءة إليه فكانت ظهور فرقة المعتزلة، وَقَدْ بَيَّنَ الذهبي أن المعتزلة وبعض الفرق الأخرى قد نشأت في هذا القرن الثاني، فذكر أنه في زمان الطبقة الرابعة من الحفاظ - وهي الثالثة من التابعين - تحولت الدولة من الأموية إلى العباسية كما ظهر في ذلك الزمان «عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ العَابِدُ، وَوَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ
(1)" مناقب الإمام الأعظم "[للكردري]: ص 39 ط. الهند سنة 1321 هـ.
(2)
" تذكرة الحفاظ " للذهبي: 1/ 150، 151.
الغَزَّالُ، وَدَعُوا إِلَى الاعْتِزَالِ بِالقَدَرِ، وَظَهَرَ بِخُرَاسَانَ الجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَدَعَا إِلَى تَعْطِيلِ الرَّبِّ عز وجل وَخَلْقِ القُرْآنِ، وَظَهَرَ بِخُرَاسَانِ فِي قُبَالَتِهِ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ المُفَسِّرُ، وَبَالَغَ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَتَّى جَسَّمَ، وَأَقَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ وَأَئِمَّةُ السَّلَفِ وَحَذَّرُوا مِنْ بِدَعِهِمْ» (1).
وللمعتزلة دون شك دور هام في الدفاع عن الإسلام والتصدي لخصومه، بيد أنهم أحيانًا يشتطون في آرائهم، ويجري على ألسنتهم بعض مما سرى إليهم من ألفاظ خصومهم أو عقائدهم، فيسيء إليهم،، نقل ابن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل قال:«وَقَدْ أَفْضَى الكَلَامُ بِأَهْلِهِ إِلَى الشُّكُوكِ، وَبِكَثِيرٍ مِنْهُمْ إِلَى الإِلْحَادِ، تَشِعُّ رَوَائِحُ الإِلْحَادِ مِنْ فَلَتَاتِ كَلَامِ المُتَكَلِّمِينَ. وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مَا قَنَعُوا بِمَا قَنَعَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ وَطَلَبُوا الحَقَائِقَ، وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ العَقْلِ إِدْرَاكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الحِكْمَةِ التِي انْفَرَدَ بِهَا» (2).
وقد ذكر ابن الجوزي جملة مما خرج به المعتزلة من آراء غريبة على الإسلام (3) وسوف نفصل في الفصل القادم أسباب الخصومة بَيْنَ المُعْتَزِلَةِ وَالمُحَدِّثِينَ إلا أن الذي يهمنا هنا أن بعض هؤلاء المعتزلة انتسب إلى المذهب الحنفي، كَبِشْرِ المَرِيسِي (4) فضاعف ذلك من الحملة عليه والتشهير به.
يضاف إلى ذلك أن أبا حنيفة نفسه لم يعتزل معركة الكلام التي كانت محتدمة بين المعتزلة والخوراج وغيرهم، بل أدلى فيها، وعرض في حلقاته
(1)" تذكرة الحفاظ " للذهبي: 1/ 77.
(2)
" نقد العلم، أو تلبيس إبليس " لابن الجوزي: ص 82.
(3)
" تلبيس إبليس ": ص 80، 81.
(4)
هو بشر بن غياث، تفقه على أبي يوسف القاضي، وأتقن علم الكلام وقال بخلق القرآن، وَرَأْيُ أهل الحديث فيه سيء جدًا، توفي سنة 218 أو 219 هـ (" لسان الميزان ": 2/ 29، 31).
المتعددة آراء العقيدة وترك في ذلك كتب " الفقه الأكبر " المنسوب إليه، وهو إن لم يكن كله له فهو يعبر عن أكثر آرائه، كما ترك " رسالة " في الإرجاء عرفت برسالة أبي حنيفة إلى إمام أهل البصرة عثمان بن مسلم البتي في الإرجاء، بل كانت مدرسة أبي حنيفة في العقيدة «هِيَ المَدْرَسَةُ الكَلَامِيَّةُ السُّنِّيَّةُ الأُولَى التِي وَقَعَتْ فِي العِرَاقِ مَوْطِنَ الفِرَقِ المُخْتَلِفَةِ وَحَارَبَتْهَا أَشَدَّ الحَرْبِ» (1).
ومما يدل على أن أبا حنيفة كانت له آراء في العقيدة يدرسها جنبًا إلى جنبٍ مع مسائل الفقه، أن أبا جعفر الطحاوي عندما ألف رسالته المشهورة في العقيدة صَدَّرَهَا بقوله:«هَذَا بَيَانُ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ المِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانَ بْنَ ثَابِتٍ الكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ» (2)، فكيف يتأتى للطحاوي أن يزعم أن هذا «مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ العَالَمِينَ» إلا إذا كانت آراؤهم الكلامية تصل إلى الخلف عن نفس الطريق الذي تسلكه آراؤهم الفقهية؟.
وقد قرر أبو حنيفة في بعض المسائل الاعتقادية آراء لم يوافق عليها أهل الحديث، منها قوله:«إِنَّ الإِيمَانَ اعْتِقَادٌ لَا دَخْلَ لِلْعَمَلِ فِيهِ» ، فكان هذا من أسباب الحملة عليه.
ويحمل ابن عبد البر أَسْبَابَ حَمْلَةِ المُحَدِّثِينَ على أبي حنيفة فيقول: «كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ [الآحَادِ] العُدُولِ لأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَمَعَانِي القُرْآنِ، فَمَا شَذَّ عَنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا يَقُولُ:" الطَّاعَاتُ مِنَ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا لَا تُسَمَّى إِيمَانًا " وَكُلُّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ
(1) انظر " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ": 1/ 230، 232.
(2)
انظر " الطحاوي وأثره في الحديث ": من ص 132، 133.
الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ وَيُبَدِّعُونَهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَحْسُودًا لِفَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ» (1).
وقد يفسر هذا تحالف بعض المعتزلة مع أهل الحديث - مع ما بينهما من عِدَاءٍ - على حرب أبي حنيفة.
إِنِّي أُرَجِّحُ أن النصف الثاني من هذا القرن كان مولد هذه العبارة (أَهْلُ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ) بعد أن أصبح المُحَدِّثُونَ فئة متميزة متناصرة تهاجم غيرها، ولها سلطة التجريح والتعديل، هذه السلطة التي كانت من أقسى الأسلحة التي حاربوا بها خصومهم، ومنهم المدرسة العقلية الحنفية.
وينبغي أن نشير إلى أن المحدثين لم يكونوا مجمعين على الرأي السيء في أبي حنيفة، فقد وجد من بينهم أفراد قَدَّرُوهُ وأشادوا بفضله، ونقل ابن النديم أبياتًا قالها أحد المحدثين، وهو عبد الله بن المبارك في مدح أبي حنيفة وهي:
لَقَدْ زَانَ البِلَادَ وَمَنْ عَلَيْهَا
…
إِمُامُ المُسْلِمِينَ أَبُو حَنِيفَهْ
بِآثَارِ وَفِقْهٍ فِي حَدِيثٍ
…
كَآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى الصَّحِيفَهْ
فَمَا بِالمَشرِقَيْنِ لَهُ نَظيرٌ
…
وَلَا بِالمَغْرِبَينِ وَلَا بِكُوفَهْ
رَأَيْتُ العَايِبِينَ لَهُ سُفَّاهًا
…
خِلَافَ الحَقِّ مَعَ حُجَجٍ ضَعِيفَهْ (2)
كما ينبغي أن نتنبه إلى أنّ اللقاءات التي كانت موجودة في القرن الأول لم تنقطع في هذا القرن، بل كانت دائرتها متصلة، وكثيرًا ما أنتجت هذه اللقاءات مناقشات ومناظرات كانت ذات أثر لا ينكر في تقارب الأفكار،
(1)" الانتقاء " لابن عبد البر: ص 149؛ و " جامع بيان العلم ": 2/ 148، 149 وهامش " تاريخ بغداد ": 13/ 269.
(2)
" الفهرست ": ص 202، كما أثنى عليه يحيى بن معين وغيره، انظر:" تاريخ بغداد ": 13/ 345 وما بعدها.