الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَمْهِيدٌ:
الاتجاه إلى الآثار اتجاه أصيل عند أهل الحديث، وظاهرة مشتركة بينهم وقد قرر ابن جريج هذا الاتجاه عندما تحدى أبا حنيفة بقوله:«اجْهَدْ جَهْدَكَ، هَاتِ مَسْأَلَةً لَا أَرْوِي لَكَ فِيهَا شَيْئًا» (1)، كما يقرره ابن حنبل أيضًا في كلمته التي رفض فيها الرأي، وحصر الحجة في الآثار: «
…
وَإِنَّمَا الحُجَّةُ فِي الآثَارِ» (2).
هذا الذي قرر ابن جريج وابن حنبل يشير إلى منهج أهل الحديث في هذا الشأن، ويدل على وفرة الآثار التي اجتهد فيها المحدثون في جمعها، حتى أصبح ميسورًا لهم أنْ يجيبوا عن كثير من المسائل التي يفرعها أهل الرأي، دون أنْ يضطروا إلى القياس الذي يكرهونه. ولذلك حرص المحدثون عَلَى أَنْ يُبَيِّنُوا أهمية الآثار، فَرَوَوْا طرفًا من أقوال التابعين والعلماء في الدعوة إلى الأخذ بها، وتقديمها على الرأي والقياس. مِنْ ذَلِكَ:
قَوْلُ شُرَيْحٍ: «إنَّ السُنَّةَ سَبَقَتْ قِيَاسَكُمْ، فَاتَّبِعُوا وَلَا تَبْتَدِعُوا، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا مَا أَخَذْتُمْ بِالأَثَرِ» .
وقول الشعبي: «إِنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمْ الآثَارَ، وَأَخَذْتُمْ بِالمَقَايِيسِ» .
وقول ابن سيرين: «كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ مَا دَامَ عَلَى الأَثَرِ» .
وقول سفيان: «إِنَّمَا الدِّينُ الآثَارُ» .
(1)" الانتقاء "، لابن عبد البر: ص 148.
(2)
انظر ص 113 من هذا البحث.
وقول ابن المبارك: «لِيَكُنْ الذِي تَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الأَثَرَ وَخُذْ مِنَ الرَّأْيِ مَا يُفَسِّرُ لَكَ الْحَدِيثَ» (1).
فما هو هذا الأثر الذي يدعو إليه المحدثون، ويحرضون على التمسك به؟
إنَّ الأثر قد يراد به ما يرادف الحديث، وقد يطلق على ما هو أعم من الحديث، أي على ما يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وما يضاف إلى الصحابة والتابعين أيضًا. وفقهاء خراسان يخصون الموقوف باسم الأثر ويسمون المرفوع خبرًا (2).
وجمع هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم. أو عن الصحابة والتابعين، هو عمل أهل الحديث، الذي تخصصوا فيه وتفرغوا له، وهو صناعتهم التي أتقنوها ونافحوا عنها، فليس غريبًا أن يبينوا أهميتها، ويركزوا دعوتهم إليها، ويوجهوا همتهم إلى استخدامها، ويجعلوا الإكثار منها شرطًا لبلوغ درجة الفقه. فقد ذكر ابن القيم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ:«إذَا حَفِظَ الرَّجُلُ مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ يَكُونُ فَقِيهًا؟ قَالَ: " لَا "، قَالَ: " فَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ " قَالَ: " لَا "، قَالَ: " فَثَلَاثَ مِائَةِ أَلْفٍ؟ " قَالَ: " لَا "، قَالَ: " فَأَرْبَعَ مِائَةِ أَلْفٍ "، قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَحَرَّكَ يَدَهُ» .
ولا شك أَن في هذا العدد الضخم كثيرًا من أقوال الصحابة والتابعين، بدليل أن ابن القيم نفسه ذكر أن الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام خمسمائة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث (3).
(1) هذه النصوص من " جامع بيان العلم ": 2/ 137.
(2)
انظر " السنة قبل التدوين ": ص 21، 22.
(3)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 49. 2/ 442، ومما يدل على أنهم يقصدون بهذه =
ولأن الأثر يشتمل على سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. كما يشمل أقوال الصحابة والتابعين، سنذكر كل قسم من هذه الأقسام على حدة، مبينين موقف المحدثين منه، ونظرتهم إليه، ومسلكهم في استخدامه.
= الأعداد الضخمة ما هو أعم من الحديث وأقوال الصحابة والتابعين، تعليق للبيهقي على ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال:«صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ [حَدِيثٍ] وَكَسْرٍ، وَهَذَا الْفَتَى - يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ - قَدْ حَفِظَ سَبْعَمِائَةِ أَلْفٍ» ، فقد عَلَّقَ البيهقي على هذا بقوله:«أَرَادَ مَا صَحَّ مِنَ الحَدِيثِ، وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ» ، وقد يكون للحديث الواحد طرق مختلفة يسمون كلا منها حديثًا. (وانظر " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 223، 224).