الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَمَّى المُحَدِّثُونَ خُصُومَهُمْ (أَهْلَ البَاطِلِ وَالكُفْرِ وَالفُرْقَةِ) كما سبق في كتاب المأمون، وَرَمَوْهُمْ بالبدعة والهوى والضلالة والغُرُورِ، كما سبق في مقدمة الخطيب لكتابه " شرف أصحاب الحديث "(1).
وينبغي أن نشير إلى أن الخصومة للمتكلمين لم تكن مقصورة على أهل الحديث، بل إن الفقهاء أيضًا لم تكن علاقتهم بالمتكلّمين علاقة مَوَدَّةٍ، ولم يكن رأيهم فيهم حسنًا. ولكن البحث يدور هنا على العلاقة التي يكون أهل الحديث طرفًا فيها (2).
الخُصُومَةُ بَيْنَ المُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ:
وكما نشبت الخصومة بَيْنَ المُحَدِّثِينَ وَأَهْلِ الكَلَامِ نشبت أيضًا خصومة بَيْنَ المُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ، ولكنها كانت مقصورة على فقهاء الرأي في البداية ثم أصحبت بينهم وبين عامة الفقهاء في عصور التقليد.
اتهم المحدثون فقهاء أهل الرأي بجهل السنة والرغبة عنها، والاغترار بالعقل وإعطائه من التقدير فوق ما يستحق. ولذلك يضعهم ابن قتيبة في صف المتكلّمين فيوجه هجومه إلى هؤلاء وهؤلاء، يقول: «ثُمَّ نَصِيرُ إِلَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ، فَنَجِدُهُمْ أَيْضًا يَخْتَلِفُونَ وَيَقِيسُونَ، ثُمَّ يَدَّعُونَ القِيَاسَ وَيَسْتَحْسِنُونَ، وَيَقُولُونَ بِالشَّيْءِ وَيَحْكُمُونَ بِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ
…
» (3).
ويقول: «وَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَلْهَجَ بِذِكْرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وتنقصهم والبعث عَلَى قَبِيحِ أَقَاوِيلِهِمْ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ
(1) انظر ما سبق في ص 95، 96.
(2)
انظر " الانتقاء " لابن عبد البر: ص 78، 83 حيث روى ذم الشافعي لأهل الكلام.
(3)
" تأويل مختلف الحديث ": ص 62.
الْحَنْظَلِيِّ المَعْرُوفِ بِابْنِ رَاهَوَيْهِ». «وَكَانَ يَقُولُ: نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَسُنَنَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَزِمُوا القِيَاسَ
…
» (1).
والواقع أَنَّ حَمْلَةَ المُحَدِّثِينَ على أصحاب الرأي - أو بعبارة مساوية، على أصحاب أبي حنيفة - كانت عنيفة ملتهبة، يشوبها شيء من الجور، ويقودها كثير من التزمت وعدم التسامح، حتى إن بعضهم ما كانوا يسمحون لأصحاب الرأي بالجلوس إليهم والاستماع منهم، وقد نلتمس لهم العذر إذا تذكرنا ما سبق أن أشرنا إليه، من سلوك أهل الرأي طريق الجدل والمناقشة التي قد تدفع المحدثين إلى مضايق الكلام أو مجاهله، فيحصرون أو يفحمون (2). ولكن هذا لا يعني أَنَّنَا نُؤَيِّدُ هَذَا السُّلُوكَ مِنْ بَعْضِ المُحَدِّثِينَ، فإن العلم الذي يحملونه مأمورون بتبليغه، وليس لهم الحق في منعهم من شاءوا منه.
وقد ذكر لنا الخطيب بَعْضَ هَؤُلَاءِ المُتَزَمِّتِينَ، فَرَوَى عَنْ أَبِي مُسْهِرٍ، قَالَ:«" قَدِمَ عَلَيْنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الفَزَارِيُّ [قَالَ]: فَاجْتَمَعَ النَّاسُ يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ قَالَ: فَقَالَ لِي: " اخْرُجْ إِلَى النَّاسِ فَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يَرَى رَأْيَ القَدَرِ فَلَا يَحْضُرْ مَجْلِسَنَا، وَمَنْ كَانَ يَرَى رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَحْضُرْ مَجْلِسَنَا، وَمَنْ كَانَ يَأْتِي السُّلْطَانَ فَلَا يَحْضُرْ مَجْلِسَنَا "، قَالَ: " فَخَرَجْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّاسَ "» .
(1)" تأويل مختلف الحديث ": ص 65.
(2)
روى ابن عبد البر في " الانتقاء " ص 76 أنَّ أحمد بن حنبل قال: «مَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ [حَمَلَ مَحْبَرَةً] إِلَّا وَلِلْشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ مِنَّةٌ» ، ورُوِيَ مثل ذلك عن الربيع بن سليمان وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ:«إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ كَانُوا يَهْزَأُونَ بِأَصْحَابِ الحَدِيثِ حَتَّى عَلَّمَهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَقَامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ» .
كما يروى أنَّ شريكًا قال في مجلس تحديثه: «مَنْ كَانَ هَهُنَا مِنْ أَصْحَابِ يَعْقُوبَ فَأَخْرِجُوهُ» ، قَالَ:«يَعْنِي أَبَا يُوسُفَ» (1).
ويحكي أبو زُرعة الرازي صورة من الصراع بين المحدثين والفقهاء، فينقل عن بعض أصحاب الحديث (*) أنه قال:«كُنْتُ بِمِصْرَ، فَرَأَيْتُ قَاضِيًا لَهُمْ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ، وَأَنَا مِمْرَاضٌ. فَسَمِعْتُ القَاضِيَ يَقُولُ: " مَسَاكِينُ أَصْحَابِ الحَدِيثِ لَا يُحْسِنُونَ الفِقْهَ ". فَحَبَوْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: " اخْتَلَفَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي جِرَاحَاتِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَيُّ شَيْءٍ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ؟ " فَأُفْحِمَ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - بْنِ الحَسَنِ [الهِسِنْجَانِيُّ] (*) الذي يروي عنه أبو زرعة -: " فَقُلْتُ لَهُ: زَعَمْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الحَدِيثِ لَا يُحْسِنُونَ الفِقْهَ، وَأَنَا مِنْ أَخَسِّ أَصْحَابِ الحَدِيثِ، سَأَلْتُكَ عَنْ هَذِهِ فَلَمْ تُحْسِنْهَا، فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَى قَوْمٍ أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ شَيْئًا وَأَنْتَ لَا تُحْسِنُهُ؟» (2).
فهذه صورة فيها انتصار لأهل الحديث تبين لون نشاطهم ومجال براعتهم إذ لم يفخر المناظر بدقة استنباط أو براعة تطبيق، بل بحفظ آثار ومعرفة اختلاف.
ولكن هلال الرأي في الطرف الآخر ينقل صورة تبرز مكانة الفقهاء وفضلهم على أهل الحديث باستنباطهم للمعاني الدقيقة، يَقُولُ هِلَالُ الرَّأْيِ: «كُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى غُنْدَرٍ أَكْتُبُ عَنْهُ، وَكَانَ يَسْتَثْقِلُنِي لِلْمَذْهَبِ فَأَتَيْتُهُ يَوْمًا، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ، فَلَمَّا رَآنِي أَظْهَرَ اسْتِثْقَالًا، وَأَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِ الحَدِيثِ يُحَدِّثُهُمْ لِكَرَاهَتِهِ لِي، فَسَلَّمْتُ وَجَلَسْتُ فَقُلْتُ:" أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِيثَ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ المُرَادِيِّ: أَنْ يَهُودِيَّيْنِ نَظَرَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ
(1) انظر هذه الأخبار في " الجامع " للخطيب، لوحة 75، 76.
(2)
" شرف أصحاب الحديث " ورقة 93 أ.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (هُوَ أَبُو الحَسَنُ الهِجَانِيُّ) والصواب ما أثبته (الهِسِنْجَانِيُّ).
انظر " الجرح والتعديل "، لابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ)، تحقيق الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي اليماني، 5/ 34، ترجمة رقم 152، طبعة سنة 1371 هـ - 1952 م، دائرة المعارف العثمانية، تصوير دار الكتب العلمية - بيروت. وانظر أيضًا:" شرف أصحاب الحديث "، للخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، تحقيق الدكتور محمد سعيد خطي اوغلي، ص 77، نشر دار إحياء السنة النبوية. أنقرة - تركيا.
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَالَا إِلَيْهِ، فَقَالَا:" نَسْأَلُكَ عَنِ التِّسْعِ الْآيَاتِ التِي جَاءَ بِهَا مُوسَى " قَالَ: " فَأَخْبَرَهُمَا بِهَا "، فَقَالَا لَهُ:" نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ " قَالَ: " فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ ". قَالَا: " نَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ ". فَقَالَ: " نَعَمْ حَدَّثَنِي شُعْبَةُ، عَنِ الحَكَمِ، فَأَيُّ شَيْءٍ لِصَاحِبِكَ فِي هَذَا؟ ". قُلْتُ: " إِنَّهُمَا قَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى اليَهُودِيَّةِ، فَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ رِدَّةً مِنْهُمَا " فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِ الحَدِيثِ، فَقَالَ:" أَتُحْسِنُونَ أَنْتُمْ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ " ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ، فَقَالَ:" أُحِبُّ أَنْ تَلْزَمَنِي وَتَبَسَّطَ إِلَيَّ "، ثُمَّ قُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَتَرَكْتُهُ» (1).
وإذا كانت المرحلة في طلب الحديث من مفاخر المحدثين ومآثرهم حيث ينتقلون في البلدان، ويتحملون مشاق السفر وعناء الغربة من أجل العلم بالآثار وجمعها، فإن الفقهاء نازعوهم في هذه المأثرة، وادعوا أنها في كثير من الأحيان جهد ضائع ونصب لا طائل منه، وندع الرامهرمزي ينقل لنا صورة هذا النزاع في موضوع الرحلة بين المُحَدِّثِينَ وَالفُقَهَاءِ: «وَقَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الفُقَهَاءِ يَذُمُّ أَهْلَ الرِّحْلَةِ فِي فَصْلٍ مِنْ كَلامٍ لَهُ: نَبَغُوا فَعَابُوا النَّاظِرِينَ المُمَيِّزِينَ وَبَدَّعُوهُمْ، وإِلَى الرَّأْيِ وَالكَلامِ فَنَسَبُوهُمْ، وَجَعَلُوا العِلْمَ الوَاجِبَ طَلَبَهُ، الدَّوَرَانَ وَالجَوَلَانَ فِي البُلْدَانِ، لالْتِمَاسِ خَبَرٍ لا يُفِيدُ طَائِلاً، وَأَثَرٍ لَا يُوَرِّثُ نَفْعًا فَأَسْهَرُوا لَيْلَهُمْ، وَأَظْمَأُوا نَهَارَهُمْ، وَأَتْعَبُوا مَطِيَّهُمْ، وَاغْتَرَبُوا عَنْ بِلَادِهِمْ، وَضَيَّعُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ خُلَفَائِهِمْ، وَعَقُّوا الآبَاءَ وَالأُمَّهَاتِ
…
، فَهُمْ حَيَارَى كَالأَنْعَامِ، إِنْ سُئِلُوا عَنْ مَسْأَلَةٍ، قَالُوا: هَلْ حَدَثَتْ هَذِهِ المَسْأَلَةُ حَتَّى تَقُولَ فِيهَا؟ فَإِنْ قِيلَ لَهُمْ: هِيَ نَازِلَةٌ قَالُوا: مَا نَحْفَظُ فِيهَا شَيْئًا، فَإِنْ سُئِلُوا عَنِ السُّنَنِ، يَقُولُ خَطِيبُهُمْ: مَا تَحْفَظُونَ فِي " مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا "، وَ" مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا "، وَفِي " أَسْلَمَ سَالَمَهَا اللَّهُ " وَفِي قَوْلِهِ أَمَّا بَعْدُ.
وَقَالَ المُعَارِضُ لِصَاحِبِ هَذَا الكَلامِ: تَهَيَّبُوا كَدَّ الطَّلَبِ، وَمُعَالَجَةِ السَّفَرِ، وَبُعِلُوا - أي بهتوا ودهشوا - بِحِفْظِ الآثَارِ، وَمَعْرِفَةِ الرِّجَالِ، وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِمْ
(1)" المحدث الفاصل ": ص 83، 84.
طَرَائِقُ الأَسَانِيدِ، وَوُجُوهُ الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، فَآثَرُوا الدِّعَةَ، وَاسْتَلَذُّوا الرَّاحَةَ، وَعَادُوا مَا جَهِلُوا، وَعَلَى المَطَامِعِ تَأَلَّفُوا، وَفِي المَآثِمِ وَالحُطَامِ تَنَافَسُوا، وَتَبَاهُوا فِي الطَّيَالِسِ وَالقَلانِسِ، وَلازَمُوا أَفْنِيَةَ المُلُوكِ، وَأَبْوَابَ السَّلاطِينِ، وَنَصَبُوا المَصَايِدَ لأَمْوَالِ الأَيْتَامِ، وَالإِغَارَةِ عَلَى الوقُوفِ وَالأَوْسَاخِ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى ابْتِيَاعِ صُحُفٍ دَرَسُوهَا
…
فَإِنْ حَفِظَ أَحَدُهُمْ فِي السُّنَنِ شَيْئًا، فَمِنْ صَحِيفَةٍ مُبْتَاعَةٍ، كَفَاهُ غَيْرُهُ مُؤْنَةَ جَمْعِهِ وَشَرْحِهِ وَتَبْوِيبِهِ، مِنْ غَيْرِ رِوَايَةٍ لَهَا وَلا دِرَايَةٍ بِوَزْنٍ مِنْ نَقْلِهَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهَا يَسِيرُ، خَلَطَ الغَثَّ بِالسَّمِينِ، وَالسَّلِيمِ بِالجَرِيحِ، ثُمَّ فَخَّمَ مَا لَفَّقَ مِنَ المَسَائِلِ مَا شَاءَ، وَإِنَّهَا وَالسُّنَنَ المَأْثُورَةِ ضِدَّانِ، فَإِنْ قُلِبَ عَلَيْهِ إِسْنَادُ حَدِيثٍ تَحَيَّرَ فِيهِ تَحَيُّرَ المَفْتُونِ، وَصَارَ كَالحِمَارِ فِي الطَّاحُونِ، وَإِنْ شَاهِدَ المُذَاكَرَةَ سَمِعَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الجَرَيَانِ فِيهِ، فَلَجَأَ إِلَى الإِزْرَاءِ بِفُرْسَانِهِ» (1).
والواقع أن فئة ممن كانوا ينتسبون إلى الحديث كانوا يمثلون الثغرة التي أتى المحدثون مِنْ قِبَلِهَا، والتي أتاحت للمتكلمين ولأهل الرأي ولكل من عادى المحدثين، أَنْ يَتَسَوَّرُوا حِصْنَهُمْ، ويتمكنوا من طعنهم، هذه الفئة كان يغلب عليها التزمت، وضيق الأفق، وسطحية التفكير، مما كان يحملها على التسرع في الحكم، ويحول بينها وبين الفهم الصحيح. كان الشافعي رضي الله عنه يتناشد مع بعض معاصريه شعر هُذيل، فأتى عليه الشافعي حفظًا، وقال لمن كان يتناشد معه:«لَا تُعْلِمْ بِهَذَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ الحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ لَا يَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ» (2).
وقد جمع ابن الجوزي المآخذ التي أخذت على المحدثين والفقهاء في كتابه " نقد العلم والعلماء ". ويفهم من كلامه أنه يعني المحدثين والفقهاء في عصره، وقد نقدهم نقدًا شديدًا، فأما المحدثين فقد ذكر أن قومًا منهم «اسْتَغْرَقُوا أَعْمَارَهُمْ فِي
(1)" المحدث الفاصل ": ص 55، 56.
(2)
" الشافعي "، لأبي زهرة: ص 26.
سَمَاعِ الحَدِيثِ وَالرِّحْلَةِ فِيهِ وَجَمْعِ الطُّرُقِ الكَثِيرَةِ وَطَلَبِ الأَسَانِيدِ العَالِيَةِ وَالمُتُونِ الغَرِيبَةِ (1) وَهَؤُلَاءِ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ قَصَدُوا حِفْظَ الشَّرْعِ بِمِعْرِفَةِ صَحِيحِ الحَدِيثِ مِنْ سَقِيمِهِ وَهُمْ مَشْكُورُونَ عَلَى هَذَا القَصْدِ إِلَّا أَنَّ إِبْلِيسَ يُلَبِّسُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَشْغَلَهُمْ بِهَذَا عَمَّا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ مِنْ مِعْرِفَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَالاجْتِهَادُ فِي أَدَاءِ اللَّازِمِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الحَدِيثِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ فَعَلَ هَذَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ كَيَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَابْنُ المَدِينِيِّ وَالبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. فَالجَوَابُ أَنَّ أُولَئِكَ جَمَعُوا بَيْنَ مَعْرِفَةِ المُهِمِّ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالفِقْهِ فِيهِ وَبَيْنَ مَا طَلَبُوا مِنَ الحَدِيثِ
…
» ثم يقول عَنْ مُحَدِّثِي زَمَانِهِ: «فَتَرَى المُحَدِّثَ يَكْتُبُ وَيَسْمَعُ خَمْسِينَ سَنَةً وَيَجْمَعُ الكُتُبَ وَلَا يَدْرِي مَا فِيهَا وَلَوْ وَقَعَتْ لَهُ حَادِثَةٌ فِي صَلَاتِهِ لافْتَقَرَ إِلَى بَعْضِ أَحْدَاثِ المُتَفَقِّهَةِ الذِينَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ لِسَمَاعِ الحَدِيثِ مِنْهُ وَبِهَؤُلَاءِ تَمَكَّنَ الطَّاعِنُونَ عَلَى المُحَدِّثِينَ فَقَالُوا: " زَوَامِلُ أَسْفَارٍ لَا يَدْرُونَ مَا مَعَهُمْ "، فَإِنْ أَفْلَحَ أَحَدُهُمْ وَنَظَرَ فِي حَدِيثِهِ فَرُبَّمَا عَمِلَ بِحَدِيثٍ مَنْسُوخٍ، وَرُبَّمَا فَهِمَ مِنَ الحَدِيثِ مَا يَفْهَمُ العَامِّيُّ الجَاهِلُ وَعَمِلَ بِذَلِكَ، وَلَيْسَ بِالمُرَادِ مِنَ الحَدِيثِ» . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ فَهِمَ مِنْ نَهْيِ الحَدِيثِ " أَنْ يَسْقِي الرَّجُلُ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ " أنه نَهْيٌ عَنْ سَقْيِ البَسَاتِينِ، مَعَ أَنَّهُ " نَهْيٌ عَنْ وَطْءِ الحَبَالَى "، وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ مِنَ " النَّهْيِ عَنْ الحِلَقِ قَبْلَ الجُمُعَةِ " أنَّهُ الحَلْقُ وَقَدْ كَانَ ابْنُ صَاعِدٍ كَبِيرَ القَدْرِ في المُحَدِّثِينَ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَلَّتْ مُخَالَطَتُهُ لِلْفُقَهَاءِ كَانَ لَا يَفْهَمُ جَوَابَ فَتْوَى - ثُمَّ رَوَى حَادِثَةً فِي ذَلِكَ -، قال المُصَنِّفُ: «وَكَانَ ابْنُ شَاهِينَ قَدْ صَنَّفَ فِي الحَدِيثِ مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً أَقَلُّهَا جُزْءٌ، وَأَكْثَرُهَا التَّفْسِيرُ وَهُوَ
(1) كان جمع الطرق وكثرة الأسانيد من المحدثين مهما كانت مستنكرة أو غريبة، يقول الخطيب عنها: «وَهَذِهِ العِلَّةُ، هِيَ التِي اقْتَطَعَتْ أَكْثَرَ مَنْ فِي عَصْرِنَا مِنْ طَلَبَةِ الحَدِيثِ عَنِ التَّفَقُّهِ بِهِ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ ، وَيُذْكَرُ أَنَّ أَبَا ثَوْرٍ كَتَبَ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَازِي: "لَمْ يَزَلْ هَذَا الأَمْرُ فِي أَصْحَابِكَ حَتَّى شَغَلَهُمْ عَنْهُ إِحْصَاءُ عَدَدِ رُوَاةِ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا
…
» فَغَلَبَهُمْ هَؤُلاءِ القَوْمُ عَلَيْهِ"» (" شرف أصحاب الحديث ": ص 113).
أَلْفَ جُزْءٍ وَمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ الْفِقْهِ شَيْئًا وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مِنْ يُقْدِمُ عَلَى الْفَتْوَى بِالخَطَأِ لِئَلَّا يُرَى بِعَيْنِ الْجَهْلِ، فَكَانَ فِيهِمْ مِنْ يَصِيرُ بِمَا يُفْتِي بِهِ ضُحَكَةً، فَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الْفَرَائِضِ فَكَتَبَ فِي الْفَتْوَى: تُقَسَّمُ عَلَى فَرَائِضِ اللَهِ سبحانه وتعالى
…
وَقَدْ رَأَّيْنَا فِي زَمانِنَا مِنْ يَجْمَعُ الْكُتُبَ مِنْهُمْ وَيُكْثِرُ السَّمَّاعَ وَلَا يَفْهَمُ مَا حَصَلَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْفِّظُ القُرْآنَ وَلَا يَعْرِفُ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فَتَشَاغَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ بِفُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَإِيثَارِ مَا لَيْسَ بِمُهِمِّ عَلَى الْمُهِمِّ مِنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ. الْقِسْمُ الثَّانِي: قَوْمٌ أَكَثَّرُوا سَمَاعَ الْحَديثِ وَلَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُمْ صَحِيحًا وَلَا أَرَادُوا مَعْرِفَةَ الصَّحِيحَ مِنْ غَيْرِه بِجَمْعِ الطُّرُقِ وَإِنَّمَا كَانَ مُرَادُهُمْ الْعَوَالِي وَالْغرائبَ فَطَافُوا الْبُلْدَانَ لِيَقُولَ أَحَدُهُمْ: لَقِيَتُ فُلَانًا وَلِي مِنَ الأَسَانِيدِ مَا لَيْسَ لَغَيْرِي وَعِنْدِي أَحَادِيثٌ لَيْسَتْ عِنْدَ غَيْرِي
…
وَمِنْ تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ عَلَى أَصِحَابِ الْحَديثِ قَدْحُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ طَلَبًا لِلْتَّشَفِّي وَيُخْرِجُونَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، الذِي اِسْتَعْمَلَهُ قُدَمَاءُ هَذِهِ الأُمَّةِ لِلْذَّبِّ عَنْ الشَّرْعِ، وَاللَّهُ أَعلمَ بِالْمَقَاصِدِ. وَدَليلُ مَقْصَدِ خُبْثِ هَؤُلَاءِ سُكُوتُهُمْ عَمَّنَ أَخَذُوا عَنْهُ وَمَا كَانَ الْقُدَمَاءُ هَكَذَا فَقَدْ كَانَ عَلَيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَ ضَعِيفًا ثَمَّ يَقُولُ:" وَفِي حَديثَ الشَّيْخِ مَا فِيه "» (1). وأما الفقهاء فيسرد ابن الجوزي ما يؤخذ عليهم وما به يلامون، وينقدهم بقوله: «كَانَ الْفُقَهَاءُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ هُمْ أَهْلُ القُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَمَا زَالَ الأَمْرُ يَتَنَاقَصُ حَتَّى قَالَ المُتَأَخِّرُونَ: يَكْفِينَا أَنْ نَعْرِفَ آيَاتَ الأَحْكَامِ مِنَ القُرْآنِ وَأَنْ نَعْتَمِدَ عَلَى الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْحَديثِ، كَـ " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَنَحْوِهَا ثُمَّ اِسْتَهَانُوا بِهَذَا الأَمْرِ أَيْضًا وَصَارَ أَحَدُهُمْ يَحْتَجُّ بِآيَةٍ لَا يَعْرِفُ مَعَنَاهَا؛ وَبِحَدِيثٍ لَا يَدْرِي أَصَحِيحٌ هُوَ أَمْ لَا، وَرُبَّمَا اِعْتَمَدَ عَلَى قِيَاسٍ
(1)" نقد العلم والعلماء "، أو " تلبيس إبليس ": ص 111، 114.