الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: أَهْلُ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ:
(تَتَبُّعٌ وَتَحْدِيدٌ):
الاتجاهات الفقهية لأهل الحديث لا يتصور أن نضع يدنا عليها إلا بعد أن نعرف أولاً من هم المُحَدِّثُونَ؟ ومن هم أهل الرأي؟ حتى يمكن التمييز بينهما.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة عن هذا السؤال أمر سهل ميسّر ولكن الخلط الذي يلحظه مطالع كتب الفقه والتاريخ، وما يرى فيه من اختلاف الأنظار في الشخص الواحد فِي عَدِّهِ من أهل الحديث أو من أهل الرأي - هذا الخلط يحمل الإنسان على الحذر من الإجابة الفورية، ويحثه على الأناة والتتبع حتى تكون إجابته أقرب إلى الحق، وأميل للصواب.
والحق أنه ما من كتاب في التاريخ الإسلامي بعامة، أو في تاريخ التشريع بخاصة، في القديم والحديث إلا تطالعك بعد صفحات قليلة أو كثيرة منه هذه العبارة (أَهْلِ الحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ)، يتناقلها المؤرخون، ويتداولها الدارسون.
وإذا استثنينا قليلاً من المحققين الذين وقفوا عند هذه العبارة محاولين الرجوع بها إلى أصل إطلاقها، ومسمى أهلها، فإن الكثرة الغالبة من المؤرخين كانوا يذكرونها نقلاً عمن سبقهم، وتقليدًا لهم، دون عناية بمعرفة حقيقة هذا الإطلاق، ودون إدراك لعامل الزمن في تطويره لهذا المصطلح، بما يجعل إطلاقه غير متساوٍ تمامًا في عصرين مختلفين.
وبدهي ألا يُتاح لهذه العبارة أن تكون عَلَمًا على طائفتين في الفقه الإسلامي إلا بعد وجود هاتين الطائفتين في الواقع، وإلا بعد بروز الخصائص التي تميز إحداهما عن الأخرى. ولم يحدث في عصر الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - أن وضح هذا التكوين للطائفتين، ولم يتجسم اختلافهم فيما اختلفوا فيه من مسائل، ولم يتطور حتى يتمخض عن وجود مدارس فقهية متنافسة في عصرهم وإن وضعوا بذورها.
وعلى الرغم من أن فتنة عثمان رضي الله عنه قد نشأ عنها انقسام المسلمين إلى شيعة وخوارج وجمهور، فإنه لم يكن بين هذه الفرق - ممن لم يخرج منهم بآرائه عن الإسلام - اختلافات في التشريع تستدعي إطلاق هذه العبارة على فريق منهم.
وفي عصر التابعين - ونتيجة لنزول أعداد كبيرة من الصحابة في البلدان المختلفة - نمت البذور التي غرسها الصحابة، واشتد عودها، فنشأ في البلدان المختلفة من التلاميذ من أعلن تمسكه واعتزازه بمن أخذ عنهم من الصحابة، واثقًا بما رواه عنهم، عاملاً به، مخضعًا حكم مَا يَجِدُّ من أحداث لما يفهمه من القرآن وما يرويه عنهم مِنْ سُنَّةٍ، وما أفتوا به من رأي مما يتلاءم مع بيئتهم وَعُرْفِهِمْ.
وعلى الرغم من أن هذه المدارس الفقهية قد تكونت في معظم الأمصار الإسلامية، فإن الأضواء في عصر التابعين تركزت على مدرستين هما: مدرسة الكوفة، ومدرسة المدينة، لعوامل توافرت فيهما، أبرزت زعامتهما للمدارس الفقهية. فالمدينة موطن الرسول صلى الله عليه وسلم وفيها قبره، وهي مقام جمهور الصحابة وعاصمة الخلافة الإسلامية حتى عهد عثمان.
والكوفة هي المنشأة الإسلامية الخالصة، التي خطها الصحابة وبنوها
وعمروها، وفيها وجوه الناس، كما قال عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه (1) إذ قام بها كثير من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، يقول إبراهيم النخعي:«هَبَطَ الكُوفَةَ ثَلاثُمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ وَسَبْعُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ» (2)، واتخذها علي بن أبي طالب رضي الله عنه عاصمة خلافته، واعترف بقيمتها العلمية علماء الأمصار، كعطاء الذي قال لشخص يسائله:«مِمَّنْ أَنْتَ؟» ، فقال:«مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ» . فقال عطاء: «مَا يَأْتِينَا العِلْمُ إِلا مِنْ عِنْدِكُمْ» (3).
وإطلاق مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة، أو بعبارة أرحب: مدرسة الحجاز ومدرسة العراق، على هاتين الطائفتين المتميزتين في عصر التابعين أصدق تاريخًا، وأدق تعبيرًا، وأولى بالمنهج العلمي من أن يطلق عليهما «أَهْلَ الحَدِيثِ وَأَهْلَ الرَّأْيِ» ، لأن الاختلاف بينهما لم يكن اختلافًا في مصادر التشريع أو المنهج، بقدر ما كان اختلافًا في التلقين، وتنوعًا في الأساتذة، وتباينًا في البيئة والعُرف (4): ولذا لم تعرف هذه العبارة في عصر التابعين.
ويمكن أن ندعم هذا بأمرين:
الأمر الأول: أن علماء العراق لم يكونوا بمعزل عن علماء الحجاز في العصور الأولى، وبخاصة في عصر التابعين فقد كانا يصدران عن وِرْدٍ وَاحِدٍ في أغلب الأحيان، وإذا كانت الرحلة العلمية إلى الأقطار المختلفة قد بدأت
(1) انظر " الطبقات " لابن سعد: ج 6 ص 1.
(2)
انظر " الطبقات ": ج 6 ص 4.
(3)
انظر " الطبقات ": ج 6 ص 5.
(4)
فإيجاب الوضوء على من فقهه في صلاته مثلاً، ذهب إليه الكوفيون على اختلافهم كأبي موسى الأشعري، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والثوري، والحسن بن حي وأبو حنيفة وأصحابه. أَمَّا الِحجَازِيُّونَ فَضَعَّفُوا مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، وَتَابَعَهُمْ فِيمَا بَعْدُ المُحَدِّثُونَ. انظر " المحلى ": 1/ 165.
منذ عصر الصحابة (1) فإن الرحلة إلى الحجاز لم تنقطع، لما له من مركز ديني ممتاز ولما لمكة والمدينة من قدسية في نفوس المسلمين، زكاها وباركها فرض الحج على من استطاعه منهم، مما يتيح الفرصة لعلماء الأقطار أن يتصلوا بعلماء الحجاز - وهذه اللقاءات كان لها أثرها في التقارب الفكري بين أهل العراق وأهل الحجاز.
وإذا كان قوام مدرسة الحجاز وأساسها هو مرويات عمر، وابنه عبد الله وعائشة وزيد بن ثابت (2) فإن العراقيين من التابعين كانوا حريصين على الاستفادة من هؤلاء الصحابة، يقول ابن القيم عن تابعي الكوفة:«وَأَكْثَرُهُمْ أَخَذَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَلِيٍّ» (3).
وإذا استعرضنا أعلام مدرسة التابعين من أهل العراق وجدناهم قد ذهبوا إلى المدينة وأخذوا عن الصحابة المُقيمين بها إلى جانب من أقام منهم بالكوفة، وهم كثرة من كبار الصحابة كما سبق. وسوف نتبين بعد هذا العرض أن الفكرة، وهم كثرة من كبار الصحابة كما سبق. وسوف نتبين بعد هذا العرض أن الفكرة التي راجت عن أهل العراق من أنهم لم تكن لديهم حصيلة كافية من الحديث، فكرة تنقضها الدقة، وينقضها الواقع.
وهاك بعض أعلام التابعين من العراقيين وبيان مَنْ رَوَوْا عنهم من الصحابة:
1 -
علقمة بن قيس النخعي (ت سنة 62 هـ) روى عن عمر، وعثمان، وَعَلِيٍّ، وابن مسعود، وحذيفة، وغيرهم (4).
2 -
مسروق بن الأجدع الهمداني (ت 61 هـ) روى عن عمر، وَعَلِيٍّ
(1) انظر " حسن المحاضرة ": 1/ 78، 86، 89؛ و" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 16.
(2)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 23؛ و" نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ":
…
/ 133.
(3)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 28.
(4)
" الطبقات " لابن سعد: 6/ 57، 62؛ وانظر " تهذيب التهذيب ": 2/ 276، 278.
وعبد الله بن مسعود، وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وابن عمر، وعائشة (1).
3 -
الأسود بن يزيد (ت 74 هـ) روى عن أبي بكر، وعمر، وَعَلِيٍّ، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، وعائشة، وروى أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ:«مَا بِالعِرَاقِ رَجُلٌ أَكْرَمُ [عَلَيَّ] مِنَ الأَسْوَدِ» . كَمَا رُوِىَ أَنَّ «الأَسْوَدَ كَانَ يَلْزَمُ عُمَرَ. وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَلْزَمُ عَبْدَ اللَّهِ. وَكَانَا يَلْتَقِيَانِ فَلَا يَخْتَلِفَانِ» (2).
4 -
سعيد بن جُبير (ت 94 هـ) روى عن عبد الله بن عباس، وكان يأمره أَنْ يُحَدِّثَ مَع وُجُودِهِ، كما أخذ عن ابن عمر. يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:«كُنَّا إِذَا اخْتَلَفْنَا بِالكُوفَةِ فِي شَيْءٍ كَتَبْتُهُ عِنْدِي حَتَّى أَلْقَى ابْنَ عُمَرَ فَأَسْأَلُهُ عَنْهُ» . وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ فَرِيضَةٍ فَقَالَ: «ائْتِ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِالحِسَابِ مِنِّي، وَهُوَ يَفْرِضُ مِنْهَا مَا أَفْرَضَ» (3).
5 -
عَامِرُ بنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيِّ (ت 102 هـ في أحد الأقوال) - روى عن كثير من الصحابة، وقال:«أَقَمْتُ بِالمَدِينَةِ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ أَوْ عَشْرَةَ أَشْهُرٍ» (4).
= وكان ابن مسعود يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وذله وسمته، وكان علقمة أشبه الناس هديًا بعبد الله.
(1)
انظر " الطبقات ": 6/ 5، 56.
(2)
انظر " الطبقات ": 6/ 46، 50؛ و" التهذيب ": 1/ 432، 443.
(3)
انظر " الطبقات ": 6/ 178، 187.
(4)
انظر " الطبقات ": 6/ 178، 187 والعبارة المذكورة في ص 172؛ وانظر " التهذيب ": 5/ 65.
وقد لاحظ الأستاذ المرحوم الدكتور أحمد أمين أن معظم مدرسة الكوفة تنتمي إلى القبائل اليمنية: فعلقمة والأسود وإبراهيم من النخع، ومسروق من همدان والشعبي من شعب =
هذا الأمر الأمر الأول الذي قرَّرناه، والذي أردنا منه أن نسوي
= وهي بطن من همدان، والنخع وهمدان قبيلتان يمنيتان، وَشُرَيْحٌ من كندة من اليمن، وحماد بن أبي سليمان الأشعري بالولاء، وأشعر قبيلة من اليمن، ثم استنتج من هذا أنهم متأثرون بمعاذ بن جبل رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا، وكان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، ثم قال:«قَلِيلُ هَؤْلَاءِ اليَمَنِيِّينَ كَانُوا مُتَأَثِّرِينَ بِمَبْدَأِ مُعَاذٍ وَتَعَالِيمِهِ وَفِقْهِهِ، وَبِالفِعْلِ نَجِدُ بَعْضَ أَعْلَامِ هَذِهِ المَدْرَسَةِ كَالأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدٍ النَّخَعِيِّ مِنْ تَلَامِيذِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ» (انظر " ضحى الإسلام ": 2/ 181، 183).
وحقًا أن الأسود روى عن معاذ كما روى عنه أيضًا من تابعي الكوفة عمرو بن ميمون اليماني المتوفى سنة 74 أو 75 هـ (انظر " تذكرة الحفاظ ": 1/ 61)، ولكن هذا لا يعني أن معاذًا كان معلم مدرسة الكوفة أو أنه كان ذا أثر كبير في اتجاهها، لما يأتي:
1 -
قصر فترة إقامة معاذ باليمن، فهي لا تعدو سنتين، وهذه فترة لا تكفي للتأثر في تابعي الكوفة على فرض لقائهم له في اليمن.
2 -
لا يلزم من ظاهرة انتشار اليمانية بالكوفة أنهم متأثرون بمعاذ، فاليمانية يُكَوِّنُونَ الكثرة في أقطار كثيرة منها مصر، حتى قال عبد العزيز بن مروان والي مصر مخاطبًا الخليفة:«كَيْفَ المُقَامَ بِبَلَدٍ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي أَبِي؟» (انظر " الوُلاة والقُضاة " للكندي: ص 47).
3 -
قَالَ ابْنُ المَدِينِيِّ: «لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ لَهُ أَصْحَابٌ حَفِظُوا عَنْهُ، وَقَامُوا بِقَوْلِهِ فِي الفِقْهِ إِلَاّ ثَلَاثَةٌ: زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ، وَابْنُ مَسْعُوْدٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ» . (" سير أعلام النبلاء ": 2/ 313). «وَيُقَرِّرُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ لَهُ أَصْحَابٌ مَعْرُوفُونَ حَرَّرُوا فُتْيَاهُ وَمَذَاهِبَهُ فِي الفِقْهِ غَيْرَ ابْنِ مَسْعُودٍ» (" إعلام الموقعين ": 1/ 22). هَذَا يُبيِّنُ أنهم متأثرون بعبد الله بن مسعود، وَعَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ:«كَانَ فِينَا سِتُّونَ شَيْخًا مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ» . (" الطبقات " لابن سعد ج 7 ص 5). «وَلِذَلِكَ أَوْصَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نَفْسُهُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ [الْأَوْدِيَّ] وَغَيْرَهُ أَنْ يَلْتَقُوا بِابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنْ يَطْلُبُوا العِلْمَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ أَرْبَعَةٍ، أَحَدُهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ» . (انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 16، 17، 28).
بين تابعي العراق وتابعي الحجاز في الأخذ بالسنة، وفي التلقي عن الصحابة الذين يعتبرهم المدنيون أساسًا لمدرستهم - قد فطن إليهم ابن حزم، وهاله اعتزاز أهل المدينة بأنفسهم وزعمهم أنهم أهل السنة حتى جعلوا من أصولهم عرض الحديث على عمل أهل المدينة وتعليله إذا كان عملهم على خلافه، فنقدهم ابن حزم في هذا نقدًا مُرًّا، وهاجمهم هجومًا عنيفا، وفي مناقشته لهم ذكر أن عمر بن الخطاب مَصَرَ البصرة والكوفة ومصر والشام وأسكنها المسلمين، وولى عليهم الصحابة، أفترى عمر وعثمان وعليًا وعمالهم المذكورين كتموا رعيتهم من أهل هذه الأمصار دين الله تعالى والحكم في الإسلام والعمل بشرائعه؟ ما يفعل هذا مسلم، بل الذي لا شك فيه أنهم كلهم علموا رعيتهم كل ما يلزمهم كأهل المدينة ولا فرق. ثم سكن عَلِيٌّ الكوفة، أَفَتَرَاهُ رضي الله عنه كتم أهلها شرائع الإسلام وواجبات الأحكام؟ والله ما يظن هذا مسلم ولا ذمي مميز بالسير. فإذ لا شك في هذا، فما بالمدينة سنة إلا وهي في سائر الأمصار كلها ولا فرق.
وفي إثبات أخذ تابعي الكوفة عن الصحابة بالمدينة يقول: «وَرَحَلَ عَلْقَمَةُ وَالأَسْوَدُ إِلَى عَائِشَةَ وَعُمَرَ رضي الله عنهما وَرَحَلَ عَلْقَمَةُ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ بِالشَّامِ» (2).
(1)" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 2/ 115، 116.
(2)
" الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: 2/ 130.
وفي مناقشة حُجِيَّة إِجْمَاعِ أَهْلِ المَدِينَةِ يُبيِّنُ أنهم أترك الناس لأقوال أهل المدينة كعمر وابنه وعائشة ثم سعيد بن المسيب والقاسم وغيرهم وأنهم في الحقيقة مُقَلِّدُونَ لِمَالِكٍ فَقَطْ ويأخذون برأي ابن القاسم المصري وسحنون الإفريقي، لأن القاسم أخذ عن مالك، ولأن سحنون أخذ عن ابن القاسم عن مالك «وَلَا يَرَوْنَ لِأَخْذِ مَسْرُوقٍ وَالأَسْوَدَ وَعَلْقَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما وَجْهًا وَلَا مَعْنَى» (1).
وفي بيانه للتأثير والتأثر المتبادلين بين المدينة وغيرها يقول:
بل لم يقتصر ابن حزم على إثبات التساوي بين تابعي المدينة وتابعي العراق بل إنه يفضل تابعي العراق وغيرهم على تابعي المدينة، ففي معرض كلامه عن الأذان والإقامة واختلاف الطرق ما بين التثنية والإفراد فيها، يَرُدُّ ابن حزم على المالكيين في زعمهم أن مذاهب أهل الكوفة ومكة قد غُيِّرَ فِيهَا بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ. قال: «فَإِنْ قَالُوا: لَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَكِنْ غَيّرَ مَنْ بَعْدُهُمْ، قُلْنَا: إِنْ جَازَ ذَلِكَ عَلَى التَّابِعِينَ بِمَكَّةَ وَالكُوفَةَ فَهُوَ عَلَى التَّابِعِينَ بِالمَدِينَةِ أَجْوَزُ، فَمَنْ كَانَ بِالمَدِينَةِ فِي التَّابِعِينَ كَعَلْقَمَةَ، وَالأَسْوَدِ، وَسُوَيْدَ بْنَ غَفْلَةٍ، وَالرُّحَيْلَ، وَمَسْرُوقٍ، وَنُبَاتَةَ، وَسَلْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَغَيْرِهِمْ
(1)" الإحكام ": 4/ 206.
(2)
" الإحكام ": 4/ 21.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ أَفْتَى فِي حَيَاةِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَمَا يَرْتَفِعُ أَحَدٌ مِنْ تَابِعِي أَهْلِ المَدِينَةِ عَلَى طَاوُوسٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ تَبْدِيلُ عَمُودِ الدِّينِ؟ فَإِنْ هَبَطُوا إلَى تَابِعِي التَّابِعِينَ، فَمَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، إلَّا جَازَ مِثْلُهُ عَلَى مَالِكٍ، فَمَا لَهُ عَلَى هَذَيْنِ فَضْلٌ، لَا فِي عِلْمٍ وَلَا فِي وَرَعٍ» (1).
أما الأمر الثاني الذي يدعم فكرة عدم إطلاق عبارة (أَهْلِ الحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ) على مدرستي التابعين في الحجاز والكوفة، فهو أن كلتا المدرستين قد استعملتا الحديث واستعانتا بالرأي على حد سواء.
فسعيد بن المسيب وهو الزعيم الفقهي لمدرسة التابعين في الحجاز كان يحفظ آثار عمر وأحكامه المثربة، وكان يحفظ فتاوى زيد بن ثابت، وكلاهما كان لا يتحرج من الرأي. وكان سعيد بن المسيب يوصف بالجرأة على الفتوى «وَلَا يَجْرُؤُ عَلَى الإِفْتَاءِ بِكَثْرَةِ مَنْ لَا يَجْرُؤُ عَلَى الرَّأْيِ، وَلَا يُوصَفُ بِالجَرِيءِ فِي الفَتْوَى مَنْ يَقِفُ عِنْدَ الأَثَرِ لَا يَعْدُوهُ. بَلْ يُوصَفُ الجَرِيءُ مَنْ يَسِيرُ فِي دَائِرَةِ المَأْثُورِ، وَيُكْثِرُ مِنَ التَّخْرِيجِ عَلَيْهِ وَيَسِيرُ عَلَى مِنْهَاجِهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ نَصٌّ أَوْ أَثَرٌ يُفْتِي بِهِ» (2).
ويصفه عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ بالفقه في الرأي فيقول: «سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَعْلَمُ النَّاسِ بِمَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الآثَارِ وَأَفْقَهُهُمْ فِي رَأْيِهِ» (3).
ومما يدل على إكثاره من الرأي قَوْلَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ يَهَابُونَ الكُتُبَ وَلَوْ كُنَّا نَكْتُبُ يَوْمَئِذٍ لَكَتَبْنَا مِنْ عِلْمِ سَعِيدٍ وَرَأْيِهِ شَيْئًا كَثِيرًا» (4).
(1)" المحلى "، لابن حزم: 2/ 155، 156.
(2)
" الإمام زيد "، للأستاذ محمد أبو زهرة: ص 175.
(3)
و (4)" الطبقات "، لابن سعد: ج 5 ص 90.
ومن تلاميذ سعيد بن المسيب، ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ، الذي كان يستعمل الرأي كثيرًا حتى أضيف إليه، فقيل له:(ربيعة الرأي).
وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ شِهَابٍ يَتَحَرَّجُ مِنَ الرَّأْيِ، وَيَقُولُ لَهُ رَبِيعَةُ:«يَا أَبَا بَكْرٍ إِذَا حَدَّثْتَ النَّاسَ بِرَأْيِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ رَأْيُكَ، وَإِذَا حَدَّثْتَ النَّاسَ بِشَيْءٍ مِنَ السُّنَّةِ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُ [سُنَّةٌ لَا يَظُنُّوا] أَنَّهُ رَأْيُكَ» (1).
ومع هذه المقاربة في المادة والمنهج بين الحجازيين والعراقيين، نلاحظ أن الحجازيين لا ينظرون بعين الرضا إلى العراقيين ويتهمونهم بالرأي. فسعيد بن المسيب - هذا الجريء على الفتوى والرأي - يضيق صدره بسؤال تلميذه ربيعة عندما يناقشه في أرش الأصابع، ويتهمه بأنه عراقي فيقول له:«أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟» فيسارع ربيعة بدفع التهمة عنه ويجيبه سعيد بقوله: «[إِنَّهَا] السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي» ، مع أن مأخذهما إنما هو من قول زيد بن ثابت، كَمَا حَقَّقَ الطَّحَاوِيُّ ذَلِكَ (2).
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 144، 145.
(2)
انظر " معاني الآثار ": 1/ 152 وجاء في " موطأ مالك "(*): أَنَّ رَبِيعَةَ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيَّبِ: «كَمْ فِي إِصْبَعِ الْمَرْأَةِ؟» ، فَقَالَ:«[عَشْرٌ] مِنَ الإِبِلِ» ، فَقُلْتُ:«كَمْ فِي إِصْبَعَيْنِ؟» ، قَالَ:«عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ» ، فَقُلْتُ:«كَمْ فِي ثَلَاثٍ؟» ، فَقَالَ:«ثَلَاثُونَ مِنَ الإِبِلِ» ، فَقُلْتُ:«كَمْ فِي أَرْبَعٍ؟» ، قَالَ:«عِشْرُونَ مِنَ الإِبِلِ» ، فَقُلْتُ:«حِينَ عَظُمَ جُرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا، نَقَصَ عَقْلُهَا؟» ، فَقَالَ سَعِيدٌ:«أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟» ، فَقُلْتُ:«بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ، أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ» ، فَقَالَ سَعِيدٌ:«هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي» .
وذلك أن جمهور أهل المدينة ذهبوا إلى أن عقل المرأة - أي ديتها - تساوي عقل الرجل إلى الثلث فإذا تجاوزته كانت على النصف من دية الرجل وقد رأى ربيعة أن هذا لا يحقق التكافؤ بين الجريمة والجزاء أو التلف والعوض. وقد ذهب الأحناف وغيرهم إلى أن دية الرجل في النفس وفيما دونها. (انظر " أسباب اختلاف الفقهاء " للشيخ علي الخفيف: ص 197 - 199 وقد أشار الشاطبي إلى هذه القصة في " الموافقات ": 4/ 169.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " الموطأ " للإمام مالك بن أنس، (برواية يحيى بن يحيى الليثي):
- (43) كِتَابُ العُقُولِ (11) بَابُ مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الأَصَابِعِ، حديث غير مرقم، 2/ 860، طبعة سنة 1406 هـ - 1985 م، نشر دار إحياء التراث العربي. بيروت - لبنان. (تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي).
- (29) كِتَابُ العُقُولِ (11) مَا جَاءَ فِي عَقْلِ الأَصَابِعِ، حديث رقم 2507، 2/ 430، الطبعة الثانية: 1417 هـ - 1997 م، نشر دار الغرب الإسلامي. بيروت - لبنان. (تحقيق الدكتور بشار عواد معروف).
أنَّ اتهام سعيد لربيعة بـ «العراقية» مع اهتمام ربيعة بدفع هذه التهمة عنه - يدعونا إلى استنباط أن التهمة التِي يُرْمَى بِهَا العِرَاقُ لم تكن الرأي الفقهي واستعماله، لأن سعيدًا وربيعة يستعملان الرأي ويكثران منه - فليس معقولاً أَنْ يُنْكِرَا على غيرهما ما يستعملانه، أَوْ يُحَرِّمَا على علماء العراق ما يستحلانه، وإنما كان إنكارهما على أهل العراق - في غالب الظن - تقديم الرأي على النص في بعض المسائل فضلاً عما فيه من الآراء المتطرفة في العقيدة، التي اعتنقتها الفرق السياسية والدينية المختلفة، والتي وجدت في العراق بيئة صالحة لنموها لما تعاقب عليه من حضارات وديانات متنوعة، وثقافات مختلفة وأجناس متباينة، حتى أصبح مأوى الخارجين على السلطة المركزية، وملتقى الأفكار الشاذة، منه نشأت معظم الفتن التي أجهدت المسلمين، وفيه نبتت جل الأفكار الغريبة عن فطرة الإسلام، حتى أصبح العراق عَلَمًا على المخالفات المتطرفة والبدع المضللة، وكل هذا يلقي ظلاله على الآراء الفقهية، يوضح هذا ما قاله ربيعة عندما عاد من العراق كارهًا له، مُؤْثِرًا العودة إلى المدينة، فقد سأله أهلها: كَيْفَ رَأَيْتَ العِرَاقَ وَأَهْلَهُ؟ فَقَالَ: «رَأَيْتُ قَوْمًا حَلَالُنَا حَرَامُهُمْ، وَحَرَامُهُمْ حَلَالُنَا، وَتَرَكْتُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ أْلْفًا يَكِيدُونَ هَذَا الدِّينَ» (1)(*).
ويزكي هذا الاستنباط أن أعلام مدرسة العراق أنفسهم كانوا ينكرون ما ظهر فيهم من الآراء المتطرفة: فإبراهيم النخعي - وهو لمدرسة العراق كسعيد بن المسيب لمدرسة المدينة - يقول: «وَاللهِ مَا رَأَيْتُ فِيمَا أَحْدَثُوا مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَيْرٍ» ويعلق الراوي على هذه العبارة بقوله: «يَعْنِي أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالرَّأْيِ وَالقِيَاسِ» (2) وإقحام الرأي الفقهي والقياس فيما يعنيه
(1)" ضحى الإسلام ": 3/ 110.
(2)
" حلية الأولياء ": 4/ 222.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي "، للحجوي الثعالبي (ت 1376 هـ)، تخريج وتعليق عبد العزيز عبد الفتاح القارئ، الطبعة الأولى 1396 هـ، 1/ 312، دار التراث - القاهرة. وطبعة دار الكتب العلمية، تحقيق أيمن صالح شعبان، 1/ 380، الطبعة الأولى 1416 هـ - 1995 م. إلا أن الحجوي لم يذكر المصادر التي اعتمدها في قول ربيعة الرأي هذا.
إبراهيم خطأ ظاهر، بدليل إكثار إبراهيم من الرأي والقياس، كما سيأتي، وبدليل رواية أخرى عن الراوي نفسه، ونصها:
«عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الأَعْوَرِ، قَالَ: لَمَّا كَثُرَتِ المَقَالَاتُ بِالْكُوفَةِ أَتَيْتُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عِمْرَانَ، أَمَا تَرَى مَا ظَهَرَ بِالكُوفَةِ مِنَ المَقَالَاتِ؟ فَقَالَ: " أُوَّهْ، دَقَّقُوا قَوْلاً، وَاخْتَرَعُوا دِينًا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللهِ، وَلَا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: هَذَا هُوَ الحَقُّ، وَمَا خَالَفَهُ بَاطِلٌ، لَقَدْ تَرَكُوا دِينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إِيَّاكَ وَإِيَّاهُمْ "» (1) كما روى أن إبراهيم قال أيضًا: «إِيَّاكُمْ وَهَذَا الرَّأْيَ المُحْدَثَ، يَعْنِي المُرْجِئَةَ» (2).
وبعد ما تقدم نستطيع أن نجمل مظاهر الاتفاق والاختلاف بين المدرستين في عصر التابعين فيما يأتي:
1 -
أن كلتا المدرستين تعتمدان على القرآن والحديث في تعرف الحكم.
2 -
أن كلا منهما كانت عندها حصيلة متقاربة من الحديث، سواء في الشيوخ أو في العدد، وساعد على هذا التقارب الرحلات العلمية واللقاءات المستمرة.
3 -
أن الإرسال كان شائع الاستعمال مقبولاً عند كل من المدرستين بلا إنكار إذ لم يكن الاهتمام بالرواية والإسناد قد أخذ صورة جادة فقد كان الاهتمام الفقهي أبرز من صناعة الرواية.
4 -
أنهما كانا يستعملان الرأي بدرجة متقاربة، وصورة متشابهة فكل من المدرستين تجمع ما استطاعت من أقوال الصحابة وفتاواهم وقضاياهم، وتنظر فيها نظر اعتبار وتحقيق وتطبيق. يقول الحجوي:
(1)" حلية الأولياء ": 1/ 223.
(2)
" الطبقات " لابن سعد: 6/ 191.
5 -
وهذا الرأي الذي تستعمل كلتا المدرستين لم يكن محددًا بصورة معينة فهو أحيانًا سنة، وأحيانًا مصلحة مرسلة. أو قياس، أو عرف، أو غير ذلك يوحى إليهم به، ويهديهم إلى فطرة سليمة، وعلم باللغة، وإيمان عميق، ومعرفة بالروح الإسلامي في التشريع، فابن القيم يفسر الرأي الذي أثر عن الصحابة والتابعين بأنه ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب. مما تتعارض فيه الأمارات (2). ومن قبله يصف ابن عبد البر معظم التابعين في مختلف الأمصار بالرأي، فيقول: «وَ [مِمَّنْ] حُفِظَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَأَفْتَى مُجْتَهِدًا رَأْيَهُ وَقَايِسًا عَلَى الْأُصُولِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا مِنَ التَّابِعِينَ: فَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
…
» (3).
6 -
أنَّ كُلاًّ من المدرستين في جمعها فروع الفقه مما أفتى به الصحابة وما خرجته على المحفوظ، قد اتجهت إلى الواقع، ولم يكن لها اتجاه إلى فرض المسائل أو تقديرها قبل وقوعها لاستنباط حكم لها.
7 -
أن البيئة التي نشأت فيها المدرستان كانت مختلفة، فصبغت فقه كل منهما بصيغتها، وأثرت في بعض صور الاستنباط عندهما. فالمدينة قد احتفظت دون شك بالكثير من التقاليد الإسلامية التي كانت شائعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وأن هذه التقاليد لم
(1)" الفكر السامي ": 2/ 95.
(2)
" مالك " لأبي زهرة: 170، 172.
(3)
انظر " جامع بيان العلم ": 1/ 61، 62.
تأثر كثيرًا بأعراف أجنبية، فقلت الأحداث الجديدة أو التغيرات الطارئة التي تتطلب أحكامًا جديدة وسهل ذلك على فقهائها أن يفتوا بما يقارب الروح الإسلامية، وتوفرت عندهم المصادر التي تمدهم بالإجابة عما يستفتون فيه.
أما العراق، فمع وفرة ما عند فقهائه من حديث، فكان في بيئته الكثير من العادات والصور التي تتطلب حكم الإسلام فيها، وفيها من الضروريات والمصالح ما يلجئهم إلى مراعاتها في الاستنباط، وفيها من حرية الفكر وتنوع الثقافات وتصارع الآراء ما يرهف ملكتهم، وَيُنَمِّي قدرتهم على المناقشة والحجاج والتخريج (1).
8 -
اعتزت كلتا المدرستين بمن أخذتا عنه من الصحابة، وكان عندها من الإقناع بكفاءة الشيوخ وفضلهم ما حمل كُلاًّ منهما على تفضيل شيوخها في مجال المفاخرة أو عند الموازنة وبالتالي ادعاء كل من المدرستين أنها أمكن في الفقه وأثبت فِي السُنَّةِ من الأخرى. وأرهف هذا الاعتزاز ونَمَّاهُ المنافسة الإقليمية بين البلدين: فقد روى ابن حزم «عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ
(1) عقد ابن القيم فصلاً خاصًا في " إعلام الموقعين ": (3/ 37 وما بعدها) تكلم فيه عن تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأمكنة والأزمنة والأحوال والنيات والعوائد.
وما يوضح أثر الارتباط بالبيئة - ما أثر عن بعض السلف كراهية الاستنجاء بالماء، وَقَالَ عَطَاءٌ:«غَسْلُ الدُّبُرُ مُحْدَثٌ» (انظر " المغني ": 1/ 151).
هنا مع العلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الماء، ففي المصدر السابق نفسه أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ قَالَتْ:«مُرْنَ [أَزْوَاجَكُنَّ] أَنْ يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ ; فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُهُ» (*). وعن أنس: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الخَلَاءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلَامٌ نَحْوِي إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالمَاءِ» - متفق عليه -.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر الترمذي، " السنن " تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، أبواب الطهارة، (15) بَابُ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ، حديث رقم 19، 1/ 70. قَالَ الإِمَامُ التِّرْمِذِيُّ:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» .
كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ فِي أَخَوَاتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَجَعَلَ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَخَرَجَ إلَى المَدِينَةِ، فَجَاءَ وَهُوَ يَرَى أَنْ يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: مَا رَدُّكَ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ، أَلَقِيتَ أَحَدًا هُوَ أَثْبَتُ فِي نَفْسِك مِنْهُ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ لَقِيت زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدْته فِي الرَّاسِخِينَ فِي العِلْمِ» (1).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: «مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فْقَهَ مِنْ صَاحِبِنَا عَبْدِ اللَّهِ، - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ -» وَقَالَ أَيْضًا: «مَا دَخَلَهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْفَعُ عِلْمًا وَلا أَفْقَهُ صَاحِبًا مِنْهُ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ -» (2).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «كَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ سَرْجَ هَذِهِ القَرْيَةِ» (3)، وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ:«مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَفْقَهَ مِنَ الشَّعْبِيِّ، [إِلَاّ] (*) سَعِيْدَ بنَ المُسَيِّبِ، وَلَا طَاوُوسَ، وَلَا عَطَاءً، وَلَا الحَسَنَ، وَلَا ابْنَ سِيرِينَ» (4).
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي تَابِعِي المَدِينَةِ: «كُنْتُ أَطْلُبُ العِلْمَ مِنْ ثَلَاثَةٍ: سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ وَكَانَ أَفْقَهَ النَّاسِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ بَحْرًا لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ، وَكُنْتَ لَا تَشَاءُ أَنْ تَجِدَ عِنْدَ عُبَيْدِ اللَّهِ طَرِيقَةً مِنْ عِلْمٍ لَا تَجِدُهَا عِنْدَ
(1)" المُحلَّى ": 9/ 169، 170 وكان ابن مسعود يرى في أختين شقيقتين وأخت لأب وأخ لأب أنَّ نصيب الأختين الثلثان فيكونان بذلك قد استنفدا كل نصيب الأخوات فلا تأخذ الأخوات لأب شيئاً من الثلث الباقي بل العصبة وهو الأخ لأب يحوزه كله - أما زيد بن ثابت فكان يجعل الثلث الباقي بين الأخ والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.
(2)
" الطبقات " لابن سعد: ج 6 ص 5 و 6.
(3)
" الطبقات " لابن سعد: ج 6 ص 4.
(4)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 76.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع (لَا) والصواب ما أثبته، انظر " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثالثة: 1405 هـ / 1985 م، 4/ 299، نشر مؤسسة الرسالة.
غَيْرِهِ إلَّا وَجَدْت» (1).
9 -
وجد في كل من المدرستين من هاب الفُتيا وانقبض عنها إذا لم يكن في حكمها أثر محفوظ، كما وجد في كلتيهما من جرؤ على الفتيا، واستخدم عقله في التخريج والقياس، وانتصب للناس وقصدوه، لذلك يقول الدهلوي:«اعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مِنَ العُلَمَاءِ فِي عَصْرِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وَإِبْرَاهِيمَ وَالزُّهْرِيِّ، وَفِي عَصْرِ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ، وَبَعْدَ ذَلِكَ قَوْمٌ يَكْرَهُونَ الخَوْضَ بِالرَّأْيِ، وَيَهَابُونَ الفُتْيَا وَالاسْتِنْبَاطَ إِلَّا لِضَرُورَةِ لَا يَجِدُونَ مِنْهَا بُدًّا» (2).
ففي العراق كان الشعبي يمثل الفريق الأول، وكان إبراهيم ومجاهد يمثلان الفريق الثاني، يقول ابن قُتيبة:«وَكَانَ أَشَدُّ أَهْلِ العِرَاقِ، فِي الرَّأْيِ وَالقِيَاسِ، الشَّعْبِيَّ، وَأَسْهَلُهُمْ فِيهِ، مُجَاهِد، حَدَّثَنِي أَبُو الخَطَّابِ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنْ سَعِيدٍ قَالَ: أَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ العِبَادَةِ الرَّأْيُ الحَسَنُ» (3).
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، قَالَ: «كَانَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو الضُّحَى وَإِبْرَاهِيمُ وَأَصْحَابُنَا يَجْتَمِعُونَ فِي المَسْجِدِ فَيَتَذَاكَرُونَ الحَدِيثَ، فَإِذَا جَاءَتْهُمْ فُتْيَا لَيْسَ
(1)" إعلام الموقعين " مع " حادي الأرواح ": 1/ 24.
(2)
" حجة الله البالغة ": 1/ 311.
(3)
" تأويل مختلف الحديث ": ص 63.
(4)
" تاريخ التشريع الإسلامي " للخضري: ص 153.
عِنْدَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ رَمَوْا بِأَبْصَارِهِمْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ» (1).
ومما يبين موقف إبراهيم النخعي من القياس، وبراعته فيه، وعدم تحرجه من الإكثار منه - بله استعماله - قوله:«إِنِّي لَأَسْمَعُ الحَدِيثَ وَأَقِيسُ عَلَيْهِ مِائَةَ شَيْءٍ» وقال أيضًا: «مَا كُلُّ شَيْءٍ نُسْأَلُ عَنْهُ نَحْفَظُهُ، وَلَكِنَّا نَعْرِفُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ وَنَقِيسُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ» ، بل في رواية أخرى أنه سئل:«أَكُلُّ مَا تُفْتِي بِهِ النَّاسُ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ [بَعْضَهُ سَمِعْتُ] وَقِسْتُ مَا لَمْ أَسْمَعْ عَلَى مَا سَمِعْتُ» (2)، وَقَالَ عَنْهُ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ:«مَا رَأَيْتُ أَحْضَرَ قِيَاسًا مِنْ إِبْرَاهِيمَ» (3).
ويوازن ابن أبي ليلى بين الشعبي وإبراهيم فيقول: «كَانَ الشَّعْبِيُّ صَاحِبَ آثَارٍ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ صَاحِبَ قِيَاسٍ» (4).
ويروى عن الشعبي كثير من العبارات التي تُقلِّلُ من شأن الرأي وتُنَفِّرُ مِنْهُ، وقد سئل عن شيء فلم يجب عنه لأنه لم يكن يحفظ فيه أثرًا، فقيل له: قل برأيك، قال:«وَمَا تَصْنَعُ بِرَأْيِي؟ بُلْ عَلَى رَأْيِي» (5)، ومثل قوله في التحذير من القياس والبرهنة على قصوره:«أَرَأَيْتُمْ لَوْ قُتِلَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، [وَقُتِلَ طفلٌ]، أَكَانَتْ دِيَتُهُمَا سَوَاءً، أَمْ يُفَضَّلُ الأَحْنَفُ لِعَقْلِهِ وَحِلْمِهِ؟ قُلْتُ: بَلْ سَوَاءً، قَالَ: فَلَيْسَ القِيَاسُ بِشَيْءٍ» (6).
وفي الحجاز أيضًا وجد المكثرون من الفتوى، المجتهدون في الأحكام بآرائهم، كما وجد المُقِلُّونَ وَالمُحْتَرِزُونَ مِنْهَا.
(1)" حلية الأولياء ": 4/ 221.
(2)
و (3)" جامع بيان العلم ": 2/ 60، 66.
(4)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 76.
(5)
" الطبقات " لابن سعد: 6/ 174.
(6)
" تاريخ التشريع " للخضري: ص 137.
وقد قدمنا ما قيل في سعيد بن المسيب، وما وصف به من كثرة الرأي والجُرأة على الفتوى، وقد كان من معاصريه من لا يقل عنه علمًا وفقهًا، ولكنه كان يخاف ويحترز. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ:«فَأَمَّا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ [فَبِئْرٌ] لَا تُكَدِّرُهُ الدِّلَاءُ، وَأَمَّا [ابْنُ المُسَيَّبِ] فَانْتَصَبَ لِلنَّاسِ، فَذَهَبَ اسْمُهُ كُلَّ مَذْهَبٍ» (1).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: «" مَا سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِي شَيْءٍ [قَطُّ] بِرَأْيِهِ ". قَالَ: وَرُبَّمَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ فَيَقُولُ: " هَذَا مِنْ خَالِصِ السُّلْطَانِ "» (2).
ويشير ابن حزم إلى بعض المُقِلِّينَ من أهل المدينة فيقول: «وَمَا أَدْرَكَ مَالِكٌ بِالمَدِينَةِ أَعْلَى مِنْ نَافِعٍ، وَهُوَ قَلِيلُ الفُتْيَا جِدًّا، وَرَبِيعَةَ، وَكَانَ كَثِيرُ الرَّأْيِ قَلِيلَ العِلْمِ بِالحَدِيثِ، وَأَبِي الزِّنَادِ وَزَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ، وَكَانَا قَلِيلَيْ الفُتْيَا» (3).
وكما كان أصحاب إبراهيم النخعي يرمون بأبصارهم إليه عند وجود فُتيا ليس عندهم فيها شيء، كذلك كان معاصرو ابن المسيب من علماء المدينة يفعلون، فيدفعون المستفتي إلى ابن المسيب. رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ المَرَادِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ:«كُنْت أَرَى الرَّجُلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَإِنَّهُ لَيَدْخُلُ يَسْأَلُ عَنْ الشَّيْءِ، فَيَدْفَعُهُ النَّاسُ عَنْ مَجْلِسٍ إلَى مَجْلِسٍ، حَتَّى يُدْفَعَ إلَى مَجْلِسِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ كَرَاهِيَةً لِلْفُتْيَا، قَالَ: وَكَانُوا يَدْعُونَهُ سَعِيدَ بْنَ المُسَيِّبِ الجَرِيءَ» (4).
10 -
وجد في كل من المدرستين صراع وخصومة بَيْنَ المُكْثِرِينَ مِنَ الفَتْوَى
(1)" حلية الأولياء ": 2/ 266.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 143.
(3)
" الإحكام " لابن حزم: 2/ 130.
(4)
: " إعلام الموقعين ": 1/ 28.
وَالمُقِلِّينَ، وهو صراع طبيعي ملازم لوجود الإنسان، ما دام لم يخلق على نمط واحد من التفكير والتقدير، ولذا كان لنا أن نستنتج أن الصراع بينهما كان موجودًا في غير العراق والحجاز من أمصار المسلمين، بدليل أننا رأينا مصر صورة من صور النزاع بين النصيين والعقليين - وإن كانت في طبقة متأخرة عن التابعين - فيما يرويه ابن عبد البر، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ:«قَالَ يَحْيَى: كُنْتُ آتِي ابْنَ القَاسِمِ فَيَقُولُ لِي: " مِنْ أَيْنَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ ابْنِ وَهْبٍ "، فَيَقُولُ: " اللهَ اللهَ اتَّقِ اللهَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ لَيْسَ عَلَيْهَا العَمَلُ ". قَالَ: " ثُمَّ آتِي ابْنَ وَهْبٍ فَيَقُولُ: " مِنْ أَيْنَ؟ " فَأَقُولُ: " مِنْ عِنْدِ ابْنِ القَاسِمِ "، فَيَقُولُ: " اتَّقِ اللهَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ هَذِهِ المَسَائِلِ رَأْيٌ "» (1).
وَقَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ اختلاف النظرة إلى الرأي بين الفريقين لم يكن هو السبب الوحيد فيما شجر بينهما من خصومة، بل كانت هناك عوامل أخرى أضرمت الصراع وزادت مِنْ حِدَّتِهِ، ومن أبرز هذه العوامل: المعاصرة، وزحف الموالي إلى الصدارة العلمية.
ومعلوم أن التنافس بين المعاصرين قد يدفع إلى الإسراف في النقد، والجور في الحكم، وقد جمع ابن عبد البر أخبارًا في ذلك (2)، وَبَيَّنَ أنه «لَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِ بَعْضِ العُلَمَاءِ فِي بَعْضٍ» .
وكانت العلاقة بين الشعبي وإبراهيم خاضعة لهذا العامل متأثرة به، قَالَ الْأَعْمَشُ:«كُنْتُ عِنْدَ الشَّعْبِيِّ فَذَكَرُوا إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: ذَاكَ رَجُلٌ يَخْتَلِفُ إِلَيْنَا لَيْلًا وَيُحَدِّثُ النَّاسَ نَهَارًا، [قَالَ]: فَأَتَيْتُ إِبْرَاهِيمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: [ذَاكَ يُحَدِّثُ] عَنْ مَسْرُوقٍ، وَاللَّهِ مَا سَمِعَ مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ» (3).
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 159.
(2)
انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 150، 163.
(3)
انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 154.
هذه العلاقة المتوترة بين العالمين الجليلين لم يكن سببها اختلاف المنهج العلمي فقط، بل انضم إلى ذلك التنافس، الذِي سَبَّبَ الجفوة والتهاتر بين هذين المتعاصرين، دون أن يؤثر في الحقيقة على مكانة أحدهما، لا عند الناس ولا عند صاحبه: فالشعبي كان حسن الظن بإبراهيم، مُثنِيًا عَلَيْهِ، معترفًا بفضله، على الرغم مما كان بينهما، يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ إِبْرَاهِيمَ - وَكَانَ قَدْ دُفِنَ لَيْلاً مَخَافَةَ الحَجَّاجِ:«لَوْ قُلْتُ أَنْعِي العِلْمَ مَا خَلَّفَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّهُ نَشَأَ فِي أَهْلِ بَيْتِ فِقْهٍ، فَأَخَذَ فِقْهَهُمْ ثُمَّ جَالَسَنَا، فَأَخَذَ صَفْوَ حَدِيثِنَا إِلَى فِقْهِ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَمَنْ كَانَ مِثْلَهُ؟، وَالعَجَبُ مِنْهُ حِينَ يُفَضِّلُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَلَى نَفْسِهِ» (1) وَقَالَ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ: «دَفَنْتُمْ أَفْقَهَ النَّاسِ» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ: «وَمِنَ الحَسَنِ؟» فَقَالَ: «أَفْقَهُ مِنَ الحَسَنِ، وَمِنْ أَهْلِ البَصْرَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ، وَأَهْلِ الشَّامِ، وَأَهْلِ الحِجَازِ» (2).
وإذا كانت المعاصرة واختلاف النظر في تناول الفتوى سببًا فيما كان بين الشعبي وإبراهيم فقد أضيف إلى هذين العاملين عامل ثالث ظاهر على إساءة العلاقة بين الشعبي وحماد (3) الذِي خَلَفَ إبراهيم في حلقته، وهو كون حماد من الموالي. يشير إلى ذلك ما قاله الشعبي مُعْرِضًا بحماد، عندما
(1)" حلية الأولياء ": 4/ 220، 221.
(2)
" حلية الأولياء ": 4/ 220، 221.
(3)
هُوَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، يُكَنَّى أبا إسماعيل، مولى إبراهيم بن أبي موسى الأشعري، توفي سنة 120 هـ (" الطبقات " لابن سعد: 6/ 231، 232). ونظر بعضهم إلى الرأي كأنه بدعة وحاول أَنْ يُحَمِّلَ المَوَالِي وِزْرَ العَمَلِ بِهِ فزعم أن الذين ابتدعوا الرأي ثلاثة كلهم من أبناء سبايا الأمم: وهم ربيعة بالمدينة، عُثْمَانُ [الْبَتِّيُّ] بالبصرة وأبو حنيفة بالكوفة. انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 147، 148.
سأله أبو حنيفة عن مسألة فأجابه الشعبي: «مَا يَقُولُ فِيهَا بَنُو اسْتِهَا» - يَعْنِي المَوَالِي - (1).
وكثيرًا ما كان الشعبي وحماد يتناظران، وكثيرًا ما كانت الغلبة في هذه المناظرات لحماد، فيزداد الصراع وتحتدم الخصومة: رَوَى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُغِيرَةَ قَالَ:«مَا رَأَيْتُ الشَّعْبِيَّ، وَحَمَّادًا تَمَارَيَا فِي شَيْءٍ إِلَّا غَلَبَهُ حَمَّادٌ إِلَّا هَذَا، سُئِلَ عَنْ القَوْمِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ وَهُمْ حُرُمٌ فَقَالَ حَمَّادٌ: " عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ "، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: " عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ ". ثُمَّ قَالَ الشَّعْبِيُّ: " أَرَأَيْتَ لَوْ قَتَلُوا رَجُلًا أَلَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفَّارَةٌ؟ " فَظَهَرَ عَلَيْهِ الشَّعْبِيُّ» (2).
إِنِّي أُرَجِّحُ أَنَّ أكثر ما رُوي عن الشعبي في ذم الرأي والقياس كان بعد وفاة إبراهيم، وتصدر حماد للفتوى، وتفوقه عليه بما أتقنه وَتَمَرَّسَ بِهِ من الأسلوب العقلي، وكثرة المساءلة التي ضاق بها الشَّعْبِيِّ، فَقَالَ:«لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَنَزَلَتْ عَامَّةُ القُرْآنِ " يَسْأَلُونَكَ يَسْأَلُونَكَ "» (3).
إن ما تقدم يفسر لنا سبب ضيق الشعبي بحماد وأصحابه حتى أنه لما دخل المسجد فوجد حَمَّادًا وَالحَكَمَ (4) وَأَصْحَابَهُمَا، ولهم أصوات وضوضاء بسبب احتدام المناقشة بينهم - كره أن يقعد بالمسجد ورجع إلى داره وقال:«وَاللهِ لَقَدْ بَغَّضَ إِلَيَّ هَؤُلَاءِ هَذَا المَسْجِدَ حَتَّى تَرَكُوهُ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ كُنَاسَةِ دَارِي» (5).
(1)" الطبقات " لابن سعد: 6/ 175.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 87.
(3)
" سنن الدارمي ": 1/ 66.
(4)
هو الحكم بن عتيبة كان يكنى أبا عبد الله وكان مولى لكندة، قَالَ مَعْمَرٌ: «كَانَ الزُّهْرِيُّ فِي أَصْحَابِهِ مِثْلَ الحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ في أَصْحَابِهِ
…
وَكَانَ الحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ثِقَةً فَقِيهًا عَالِمًا [عَالِيًا رَفِيعًا] كَثِيرَ الحَدِيثِ» (*)، توفي سنة 135 هـ. انظر " الطبقات ": 6/ 231.
(5)
" الطبقات " لابن سعد: 6/ 175.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " الطبقات الكبرى " لابن سعد (ت 230 هـ)، تحقيق محمد عبد القادر عطا، 5/ 353 و 6/ 324، الطبعة الأولى: 1410 هـ - 1990 م، دار الكتب العلمية. بيروت - لبنان.
ولم تكن هذه الخصومة المسببة عن زحف الموالي إلى مكان الصدارة العلمية - أو الناتجة عن التنافس بين المتعاصرين - مقصورة على العراق بل وجدت نماذج لها في الحجاز أيضًا، يُرْوَى أَنَّهُ قِيلَ لابْنِ شِهَابٍ:«" تَرَكْتَ الْمَدِينَةَ وَلَزَمْتَ شَغْبًا وَإِدَامًا - موضعان قرب المدينة - وَتَرَكْتَ العُلَمَاءَ بِالمَدِينَةِ يَتَامَى "، فَقَالَ: " أَفْسَدَهَا عَلَيْنَا العَبْدَانِ، رَبِيعَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ "» (1).
وكان هذا التنافس نفسه بين العرب والموالي سببًا فيما كان من خصومة بين سعيد بن المسيب وعكرمة (2).
ولعلنا أطلنا هنا بعض الشيء، لنوضح طبيعة مدرسة العراق في القرن الأول، ونزيل ما علق بالأذهان من قلة الحديث أو إهماله في هذه المدرسة، وبذلك يتضح أن الخصومة بين أهل الحجاز وأهل العراق لم تكن بسبب استعمال أهل المدينة للحديث وإهمال أهل العراق له، ولم تكن بسبب استعمال الرأي في العراق وتجنب أهل الحجاز له ولكن التنافس الإقليمي هو منشؤها.
كما يتضح أيضًا أن ذم النصيين للمُقلين أو لأسلوبهم، في المدرستين أو في غيرهما، لم يكن بسبب إهمال الحديث أو استعمال القياس: - فالشعبي - مع ما روي عنه في ذم القياس، حتى كانت أقواله مستند الذامين له وللرأي بعد ذلك - لم يكن من المتجنبين للقياس، بل كان كثيرًا ما يستعمله، كما يقول هو نفسه:«أَنَا نَأْخُذُ فِي زَكَاةِ البَقَرِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينِ بِالمَقَايِيسِ» (3)، وقال ابن أبي حاتم: «سُئِلَ أَبِي عَنْ الفَرَائِضِ التِي رَوَاهَا الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ، فَقَالَ: هَذَا عِنْدِي مَا قَاسَهُ الشَّعْبِيُّ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ، وَمَا أَرَى
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 152، 153.
(2)
انظر المصدر السابق؛ و " المُحَلَّى ": 8/ 17.
(3)
انظر المصدر السابق: 8/ 66.
عَلِيًّا كَانَ يَتَفَرَّغُ لِهَذَا» (1).
وقد لاحظ ابن عبد البر التناقض الظاهر بين ما أثر عن الشعبي في ذم القياس وما روي عنه من استعماله والإفتاء بمقتضاه، وذهب في دفع هذا التناقض، إلى أن الشعبي إنما كان يذم القياس المبني على غير الأصل (2)، ولعل فيما قدمناه ما يوضح الجانب النفسي الذي صدر عنه ما أثر عن الشعبي في ذم القياس والرأي.
وإبراهيم النخعي - على الرغم من تناوله للرأي وكثرة استخدامه للقياس لم يكن يجهل السُنَّةَ أو يهمل استخدام الحديث، بل إنه أخذ صفو الحديث، كما سبق عن الشعبي، وكان بصيرًا بنقده، عالمًا بوجوه علله، يَقُولُ الْأَعْمَشُ:«كَانَ إِبْرَاهِيمُ صَيْرَفِيَّ الحَدِيثِ، فَكُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ الحَدِيثَ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» (3) وقال أيضًا: «مَا ذَكَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ حَدِيثًا قَطُّ إِلَّا زَادَنِي فِيهِ» (4). ولكنه مع هذا العلم بالحديث والدراية بنقده لم يكن يرغب في الاشتغال بالرواية، تَوَرُّعًا وَخَوْفًا مِنَ الزَّلَلِ، قِيلَ لَهُ:«" [يَا أَبَا عِمْرَانَ] أَمَا بَلَغَكَ حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم[تُحَدِّثُنَا]؟ "، قَالَ: " بَلَى وَلَكِنْ أَقُولُ: قَالَ عُمَرُ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ، وَقَالَ الْأَسْوَدُ، أَجِدُ ذَاكَ أَهْوَنَ عَلَيَّ» (5). وسَأَلَهُ أَحَدُهُمْ فَقَالَ: «" أَلَا تُحدِّثُنَا؟ " فرَدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " [تُرِيدُ] أَنْ أَكُونَ مِثْلَ فُلانٍ؟ ائْتِ مَسْجِدَ الحَيِّ، فَإِنْ جَاءَ إِنْسَانٌ يَسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَسَتَسْمَعُهُ» (6).
(1)" تهذيب التهذيب ": 5/ 67.
(2)
انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 60.
(3)
" حلية الأولياء ": 4/ 220.
(4)
" الطبقات ": 6/ 189.
(5)
" الطبقات ": 6/ 190.
(6)
" الطبقات ": 6/ 190.