الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ:
في بداية حديثنا عن الأثر بينا أنه يشمل السنة، وأقوال السلف من الصحابة والتابعين، وبعد أن استعرضنا موقف المحدثين ومنهجهم بالنسبة إلى الحديث، ننتقل الآن لنبين موقفهم من فتاوى الصحابة والتابعين.
وقد بَيَّنَّا أيضًا في فصل سابق أهمية عصر الصحابة، ووجوب دراسة فقههم واتجاههم، لتأثيرهم العميق فيمن أتى بعدهم من العلماء. ولهذا قال مالك: «" لَا تَجُوزُ الفُتْيَا إِلَّا لِمَنْ عَلِمَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ "، قِيلَ لَهُ: اخْتِلَافُ أَهْلِ الرَّأْيِ؟ فَقَالَ: " لَا، اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وسلم "
…
» (1).
وقد اتجه المحدثون إلى الأخذ بأقوال الصحابة إذا اتفقوا، وإلى التخير من أقوالهم وعدم الخروج عليها إذا اختلفوا، واعتبروا أقوالهم حينئذٍ حجة تقدم على القياس.
وكان لهم في ذلك سلف من التابعين: فقد روى الأوزاعي عن سعيد بن المسيب، أنه سئل عن شيء، فقال:«اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا أَرَى لِي مَعَهُمْ قَوْلاً (*)» .
قال ابن وضاح - هو محمد بن وضاح، من رواة هذا الخبر -:«هَذَا هُوَ الحَقُّ» . قال أبو عمر بن عبد البر: «مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِقَوْلٍ يُخَالِفُهُمْ [جَمِيعًا] بِهِ» (2).
وروى ابن حزم بسنده «عَنْ صَالِحٍ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: " قُلْتُ لِلشَّعْبِيِّ: رَجُلٌ
(1)" مالك "، لأبي زهرة: ص 105.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 29.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) الذي في " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر: «وَلَا رَأَيَ لِي مَعَهُمْ» . انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري: 1/ 770، حديث رقم 1423، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً فَجَاءَ آخَرُ فَتَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا؟ "، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ: " يُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا الأُولَى، وَتَأْتَنِفُ مِنْ هَذِهِ عِدَّةً جَدِيدَةً، وَيُجْعَلُ صَدَاقُهَا فِي بَيْتِ المَالِ، وَلَا يَتَزَوَّجُهَا أَبَدًا وَيَصِيرُ الأَوَّلُ خَاطِبًا ".
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: " يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا الأُولَى، وَتَسْتَقْبِلُ مِنْ هَذَا عِدَّةً جَدِيدَةً وَلَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، وَيَصِيرُ كِلَاهُمَا خَاطِبَيْنِ - قَدْ أَخْبَرْتُكَ بِقَوْلِ هَذَيْنِ، فَإِنْ أَخْبَرْتُكَ بِرَأْيٍ فَبُلْ عَلَيْهِ "» (1).
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ المُتْعَةِ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ ، فَقَالَ:«كَرِهَهَا عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنهما ، فَإِنْ يَكُنْ عِلْمًا فَهُمَا أَعْلَمُ مِنِّي، وَإِنْ يَكُنْ رَأْيًا فَرَأْيُهُمَا أَفْضَلُ» (2).
وقد كان أحمد بن حنبل يقدر الصحابة ويجلهم، ويتتبع خطاهم ويتأسى بهم.
رَوَى عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عُمَرَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْسَعَ، وَالبُرُّ أَفْضَلُ مِنْ التَّمْرِ "» قَالَ: إنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، وَأَنَا أُحِبُّ أَنَّ أَسْلُكَهُ.
قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: «وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ جَمَاعَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمْرَ فَأَحَبَّ ابْنُ عُمَرَ مُوَافَقَتَهُمْ، وَسُلُوكَ طَرِيقَتِهِمْ، وَأَحَبَّ أَحْمَدُ، أَيْضًا الاقْتِدَاءَ بِهِمْ وَاتِّبَاعَهُمْ» (3)(*)، فكان أحب إليه أن يخرج التمر في زكاة الفطر.
وقد ذكرنا فيما مضى أن ورع ابن عمر دفعه إلى التشدد حتى «إِنَّهُ كَانَ يُدْخِلُ المَاءَ فِي عَيْنَيْهِ فِي الوُضُوءِ» (**)، وقد ذكر بعض الحنابلة لذلك أن إدخال
(1)" المحلى ": 9/ 480.
(2)
" جامع بيان العلم ": 2/ 31.
(3)
" المغني ": 3/ 62.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) إلى هذا الحد ينتهي كلام ابن قدامة في " المغني " وما يتلوه من كلام المؤلف - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى -.
(**) قارن بالصفحة 181 من هذا الكتاب.
الماء في العينين من سنن الوضوء، وذهب بعضهم إلى استحباب ذلك في الغسل خاصة، لأن أحمد «نَصَّ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ» ، ولأن غسل الجنابة أبلغ (1).
وقد جعل أحمد أقوال الصحابة من الأصول التي اعتمد عليها في استنباط فقهه، وتأتي مرتبتها بعد النصوص (القرآن والسنة الصحيحة) وقبل العمل بالحديث الضعيف والقياس، وقسم ابن القيم هذه الأقوال إلى قسمين: أولهما أقوى من ثانيهما: فالأول فتوى الصحابي التي لا يعرف لها مخالف والتي يسميها البعض بالإجماع السكوتي. والثاني إذا اختلف الصحابة في مسألة، فإن أحمد يتخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف ولم يجزم بقول (2).
وذكر ابن عبد البر أن أحمد بن حنبل لم يكن يستجيز النظر في اختلاف الصحابة بقصد الترجيح بينها: فقد روى أن محمد بن عبد الرحمن الصيرفي قال لأحمد: «إِذَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْأَلَةٍ هَلْ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي أَقْوَالِهِمْ لِنَعْلَمَ مَعَ مَنِ الصَّوَابُ مِنْهُمْ فَنَتَّبِعَهُ؟» . فَقَالَ لِي: «لَا يَجُوزُ النَّظَرُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فَقُلْتُ: «فَكَيْفَ الوَجْهُ فِي ذَلِكَ؟» . قَالَ: «تُقَلِّدْ أَيَّهُمْ أَحْبَبْتَ» (3).
وفي بيان تأثر ابن حنبل بالصحابة وتأسيه بهم يؤكد ابن القيم أن من تأمل فتاواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الآخر، ورأى الجميع كأنه تخرج من مشكاة واحدة، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على
(1)" المغني ": 1/ 107. وقد ذكر ابن قدامة: «أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ هَذَا الفِعْلَ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ، وَفِيهِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِبَصَرِ ابْنِ عُمَرَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُحَرَّمًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَكْرُوهًا».
(2)
انظر " إعلام الموقعين ": 1/ 32، 36.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 38.
قولين، جاء عنه في المسألة روايتان، وحتى إنه ليقدم فتاواهم على الحديث المرسل:«قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ هَانِئٍ فِي " مَسَائِلِهِ ": " قُلْت لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُرْسَلٌ بِرِجَالٍ ثَبَتَ أَحَبُّ إلَيْك أَوْ حَدِيثٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مُتَّصِلٌ بِرِجَالٍ ثَبَتَ؟ " قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رحمه الله: " عَنْ الصَّحَابَةِ أَعْجَبُ إلَيَّ "» (1).
ومما جاء من الفروع موضحًا هذا الاتجاه عند أحمد: «أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا غَصَبَ عَيْنًا فَنَقَصَتْ هَذِهِ العَيْنُ فِي يَدِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةُ النَّقْصِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ» .
ولكن روي عن أحمد بن حنبل «أَنَّ الدَّابَّةَ بِالذَّاتِ إِذَا أُصِيبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهَا فَإِنَّهَا تُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا العُمُومِ، وَتَضْمَنُ حِينَئِذٍ بِرُبْعِ قِيمَةِ الدِّيَّةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ» .
أما إذا فقئت عيناها، فقد قال أحمد:«مَا سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا» .
وقد «رَأَى أَحْمَدُ أَنَّ البَعِيرَ وَالبَقَرَةَ وَالشَّاةَ غَيْرَ الدَّابَةِ، وَيُنْتَفَعُ بِلَحْمِهَا فَيُعَوَّضُ فِيهَا قِيمَةُ النَّقْصِ» ، «وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَوْجَبَ مِقْدَارًا فِي العَيْنِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الدَّابَّةِ، وَهِيَ الفَرَسُ وَالبَغْلُ وَالحِمَارُ خَاصَّةً لِلأَثَرِ الوَارِدِ فِيهِ، وَمَا عَدَا هَذَا يُرْجَعُ إلَى القِيَاسِ» (2).
فإذا لم يكن في المسألة من قرآن أو سنة، ولم يؤثر فيها قول لأحد من الصحابة - تخير ابن حنبل من أقوال التابعين: «قَالَ الأَثْرَمُ: " سَمِعْتُ
(1)" إعلام الموقعين ": 1/ 31، 32.
(2)
" المغني ": 5/ 229. وقد قاس أبو حنيفة العينين على العين فجعل في قلع عيني البهيمة كالدابة والبعير والبقر نصف قيمتها، وفي قلع إحداها ربع قيمتها، لقول عمر لشريح: «أَجْمَعَ رَأْيُنَا أَنَّ قِيمَتَهَا رُبْعُ الثَّمَنِ» (المصدر السابق).
أَبَا عَبْدِ اللَهِ يَقُولُ: إِذَا كَانَ فِي المَسْأَلَةِ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ لم نَأْخُذ فِيهَا بِقَوْلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا بِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِذَا كَانَ فِي المَسْأَلَةِ عَن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلٌ مُخْتَلَفٌ نَتَخَيَّرُ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ وَلَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ مَنْ بَعْدَهُمْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا حَدِيثٌ وَلَا قَوْلٌ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَتَخَيَّرُ مِنْ أَقْوَالِ التَّابِعِينَ، وَرُبَّمَا كَانَ الحَدِيثُ عَنْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفِي إِسْنَادِهِ شَيْءٌ فَنَأْخُذُ بِهِ إِذَا لَمْ يَجِيءَ خِلَافُهُ. قَالَ: وَرُبَّمَا أَخَذْنَا بِالحَدِيثِ المُرْسَلِ إِذَا لَمْ يَجِيءَ خِلَافُهُ» (1).
وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع، وجعل أقوال الصحابة والتابعين من الاتباع. فقد روى أبو داود أنه سمع أحمد يقول:«الاتِّبَاعُ أَنْ يَتْبَعَ الرَّجُلُ مَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ هُوَ مِنْ بَعْدُ فِي التَّابِعِينَ مُخَيَّرٌ» (2).
والتخيير هنا معناه رفع اللوم عمن لا يقول بقول التابعين، وإن قال بقولهم فهو متبع لا مقلد.
وقد ذكر الأستاذ الشيخ أبو زهرة في كتابه عن " ابن حنبل "«أَنَّ هُنَاكَ رِوَايَتَيْنِ فِي أَخْذِهِ بِفَتَاوَى التَّابِعِينَ، وَإِنَّ مَنْ يَقُولُونَ بِالأَخْذِ بِهَا مِنَ الحَنَابِلَةِ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِهَا عَلَى القِيَاسِ أَوْ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ، ثُمَّ رَجَّحَ أَنَّ أَحْمَدَ كَانَ يَأْخُذُ بِهَا لِمَا اشْتَهَرَ عَنْهُ مِنَ التَّوَرُّعِ عَنْ الرَّأْيِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الحِيطَةِ» (3).
وقد رأينا البخاري يكثر من ذكر آراء الصحابة والتابعين يدعم بها
(1)" المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ": ص 26.
(2)
" إعلام الموقعين " مع " حادي الأرواح ": 2/ 302.
(3)
" ابن حنبل "، لأبي زهرة: ص 257، 258.
رأيه، وبخاصة في مواضع الاختلاف، ويكاد يعتمد عليها وحدها في أبواب التفسير.
فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البِئْرُ جُبَارٌ، وَالعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمْسُ» . وقد اختلف في تفسير الركاز: هل هو دفن الجاهلية خاصة، أم هو ما احتوته الأرض من كنوز الثروة الطبيعية، أو الصناعية التي خبأها الإنسان؟.
وقد ترتب على ذلك خلاف في العنبر الذي يستخرج من البحر، هل فيه الخمس أم لا؟ وقد ذهب البخاري إلى أن العنبر ليس بركاز، فلا شيء فيه، وكذلك كل ما يستخرج من البحر، وارتضى ما روي عن ابن عباس في ذلك، ورد على الحسن الذي قال:«إِنَّ فِيهِ الخُمُسُ» :
يقول البخاري: (بَابُ مَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ البَحْرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَيْسَ العَنْبَرُ بِرِكَازٍ هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ». وَقَالَ الحَسَنُ: «فِي العَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ: الخُمُسُ» فَإِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «فِي الرِّكَازِ الخُمُسَ» لَيْسَ فِي الذِي يُصَابُ فِي المَاءِ).
ثم استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ، فَخَرَجَ المَدِينُ يَبْحَثُ عَنْ مَرْكَبٍ فِي البَحْرِ لِيَصِلَ إِلَى الدَّائِنِ فَيُوفِيَهُ دَيْنَهُ فَلَمْ يَجِدْ، فَأَخَذَ خَشَبَةً، فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي البَحْرِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ، فَأَخَذَهَا لأَهْلِهِ حَطَبًا» (1).
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 171. واستدلال البخاري بهذا الحديث يجعله من الذين يأخذون بشرع من قبلنا، إذا جاء بطريق صحيح، ولم يقم دليل على نسخه، وقد استدل بجزء من هذا الحديث في (بَابُ الشُّرُوطِ فِي القَرْضِ): 2/ 76، ونقل عن ابن عمر وعطاء: «إِذَا أَجَّلَهُ فِي القَرْضِ جَازَ» وبه أيضًا: 2/ 39، 40 كما استدل أيضًا بحديث عن بني إسرائيل في: 2/ 29.
ويقول البخاري: (بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: «مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلَاّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا»، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ». وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: «مَا خَافَهُ إِلَاّ مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَاّ مُنَافِقٌ»)(1).
ويقول: (بَابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، رضي الله عنهم، «فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا»)(2) بل إنه أحيانًا يعقد الباب لا يذكر فيه حديثًا واحدًا مرفوعًا، بل يقتصر على الترجمة التي يذكر فيها رأيه، ويدعمه بأقوال الصحابة والتابعين، ومن ذلك قوله في كتاب الطلاق:(بَابُ لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا، فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب: 49] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «جَعَلَ اللَّهُ الطَّلَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ». وَيُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالقَاسِمِ، وَسَالِمٍ، وَطَاوُوسٍ، وَالحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَعَطَاءٍ، وَعَامِرِ بْنِ سَعْدٍ (*)، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَالقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ) (3).
هذا هو كل ما ذكره في هذا الباب، وهو لا يعدو أن يكون رأيًا لهذا الجمع من السلف الصالح. بل قد رأينا البخاري يعطي قول الصحابي حكم الحديث
(1)" البخاري ": 1/ 11. وقد روى أبو داود عن عمر بن عبد العزيز إجابته عمن سأله عن القدر، محتجًا بها في " سننه ": (4/ 283، 284).
(2)
" البخاري ": 1/ 33.
(3)
" البخاري ": 3/ 271، 272.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) قَالَ الإِمَامُ القَسْطَلَّانِيُّ: (عَامِرُ بْنِ سَعْدٍ) هُوَ البُجَلِيَّ الكُوفِيُّ التَّابِعِيُّ كَمَا قَالَهُ فِي " الفَتْحِ " وَجَزَمَ الكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ ابْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرَ: «وَفِيهِ نَظَرٌ» ، وَتَعَقَّبَهُ العَيْنِيُّ بِأَنَّ صَاحِبَ " رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ " لَمْ يَذْكُرْ عَامِرَ بْنِ سَعْدٍ البُجَلِيَّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَلَمْ يَقِفْ عَلَى إِسْنَادِ هَذَا الأَثَرَ.
" إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري "، للقسطلاني (ت 923 هـ)، 8/ 142، الطبعة السابعة: 1323 هـ، نشر المطبعة الكبرى الأميرية - مصر.
المرفوع فيستدل به فيما يعقده من الأبواب. ومن أمثلة ذلك ما جاء في الباب الذي ترجمه بقوله: (بَابُ مَنْ رَأَى أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُوجِبِ السُّجُودَ. وَقِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «الرَّجُلُ يَسْمَعُ السَّجْدَةَ وَلَمْ يَجْلِسْ لَهَا» ، قَالَ:«أَرَأَيْتَ لَوْ قَعَدَ لَهَا كَأَنَّهُ لَا يُوجِبُهُ عَلَيْهِ» . وَقَالَ سَلْمَانُ: «مَا لِهَذَا غَدَوْنَا» وَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه: «إِنَّمَا السَّجْدَةُ عَلَى مَنِ اسْتَمَعَهَا
…
». وقد روى البخاري في هذا الباب «أَنَّ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَرَأَ يَوْمَ الجُمُعَةِ عَلَى المِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ حَتَّى إِذَا كَانَتْ الجُمُعَةُ القَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ، فَمَنْ سَجَدَ، فَقَدْ أَصَابَ وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه» وَزَادَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضِ السُّجُودَ إِلَاّ أَنْ نَشَاءَ» (1).
ونلاحظ أن هذا الحديث ليس فيه إضافة إلى قول للرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى عمل له، وإنما فيه قول عمر فقط، إلا أن يقال إنه ذكر ذلك بمحضر الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فصار إجماعًا، والإجماع لا يكون إلا عن توقيف عند من يرى ذلك.
إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة التي حفل بها " صحيح البخاري "(2).
ولم يأخذ الظاهرية بأقوال الصحابة والتابعين، ونعى ابن حزم على من يأخذ بأقوال الصحابة فيما لا مدخل للرأي فيه، مرجحًا أنه لا يقول ذلك إلا عن توقيف، وقد أبطل ابن حزم ذلك، مبينًا أن أقوال الصحابة فيها الصواب والخطأ (3).
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 125.
(2)
انظر - كتاب التفسير - من " صحيح البخاري "، و: 1/ 35، 51. 2/ 28، 96. 3/ 272. 4/ 256 في موضعين، وغيرها.
(3)
انظر " الإحكام "، لابن حزم: 2/ 74، 76.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «الوِتْرُ كَصَلَاةِ المَغْرِبِ» . وعلق ابن حزم على ذلك بقوله: «قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نَقُولُ بِهِ، إِذْ لَا حُجَّةَ إلَاّ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلُهُ أَوْ عَمَلُهُ أَوْ إقْرَارُهُ فَقَطْ» (1).
وحتى في التقديرات التي يقدرها الصحابة، والتي رأى بعض العلماء وجوب اتباع الصحابة فيها، لأنها لا تقال بالرأي، لم ير ابن حزم أنها حجة، ولم يجد فيها ما يمنعه من الاجتهاد ومخالفة أقوال الصحابة، يتضح ذلك في كفارة اليمين، فقد ذهب ابن حزم إلى أن من أراد التكفير بالإطعام فلا يجزئه إلا إطعام عشرة مساكين، أما المقدار فهو مثل ما يطعم الإنسان أهله: إن كان دقيقًا، فليعط المساكين دقيقًا، أو حَبًّا أو خبزًا كذلك، يعطي من الصفة والكيل الوسط، لا الأعلى ولا الأدنى.
ثم ذكر ما جاء من الاختلاف في ذلك: «فَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فِي كَفَّارَةِ اليَمِينِ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ [حِنْطَةٍ]، أَوْ صَاعُ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ. وَعَنْ عَلِيٍّ مِثْلُهُ. [وَرُوِّينَا] عَنْ ابْنِ عُمَرَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ حِنْطَةٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ أَوْ صَاعُ تَمْرٍ - وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَابْنِ سِيرِينَ
…
» الخ الآراء التي ذكرها، ثم عقب عليها بقوله:«هَذِهِ أَقْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ لَا حُجَّةَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ قُرْآنٍ وَلَا سُنَّةٍ» (2).
أما موقف (3) باقي المذاهب في الأخذ بأقوال الصحابة والتابعين، فنجملها فيما يلي: إذا قال الصحابي قولاً، ولم يعلم له مخالف: فإن كان هذا القول مشهورًا في عصر الصحابة، فالذي عليه جماهير الفقهاء أنه إجماع
(1)" المحلى ": 3/ 46، وانظر مثله أيضًا في: 3/ 50، 160، 221.
(2)
" المحلى ": 8/ 72، 74.
(3)
من " إعلام الموقعين " بتصرف: 3/ [378]، 381.
وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع. وقالت شرذمة من المتكلمين وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة.
وإن لم يشتهر قول الصحابي فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة: هذا هو قول أبي حنيفة وجمهور الحنفية (1)، وهو مذهب مالك وأصحابه، وتصرفه في " موطئه " يدل عليه (2). وهو قول إسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وهو منصوص أحمد في غير موضع عنه، واختيار جمهور أصحابه.
وهو منصوص الشافعي في القديم والحديث: أما القديم فأصحابه مقرون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية نظر ظاهر جدًا (3).
وقد ذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة،
(1) لا خلاف بين الأحناف، متقدميهم ومتأخريهم، في اعتبار قول الصاحب حجة فيما لا مدخل للرأي فيه، نحو المقادير، أما ما عدا ذلك من قول الصحابي فقد ذكر بعض الأصوليين أن أئمة الأحناف اختلف عملهم في هذه المسألة، فتارة يقلدون، وتارة لا يقلدون، لكن ابن عبد الشكور وابن القيم نَقَلَا نَصَّ أبي حنيفة في اعتباره أقوال الصحابة، أما عمله في بعض المسائل على خلاف قول الصحابي، فلعله عنده دليل معارض (انظر " أصول السرخسي ": 2/ 105، 112؛ و" مسلم الثبوت " و" شرحه ": 2/ 188؛ و" التقرير والتحبير ": 2/ 310؛ و" إعلام الموقعين ": 3/ 381.
ومما يدل على أخذ أبي يوسف بقول الصحابي ما جاء في كتابه " الخراج " حيث قال: «وَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولانِ: لَيْسَ [فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ]- فيما يخرج من البحر حليه وعنبر - لأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّمَكِ.
وَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي أَرَى فِي ذَلِكَ الخُمُسَ [وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِمَنْ أَخْرَجَهُ]؛ لأَنَّا قَدْ رُوِّينَا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه، وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ [عَبْدُ اللَّهِ] بْنُ عَبَّاسٍ فَاتَّبَعْنَا الأَثَرَ وَلَمْ نَرَ [خِلافَهُ]» (" الخراج ": ص 83. المطبعة السلفية، 1346 هـ).
(2)
انظر " مالك "، لأبي زهرة: ص 308، 318. الطبعة الثانية.
(3)
ذكر ذلك ابن القيم، وأثبته بالأدلة في " إعلام الموقعين ": 3/ 379، 381؛ وانظر " الشافعي "، لأبي زهرة: ص 301، 311.