الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الأَوَّلُ: بَيْنَ أَهْلِ الحَدِيثِ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ:
الاتجاه إلى أهل الظاهر، معناه الوقوف عند حدود الألفاظ التي وردت من الشارع، دون عناية بالبحث عن عللها ومقاصدها، ودون اهتمام بالقرائن والظروف التي أحاطت بالألفاظ حين ورودها (1).
وقد أشرنا من قبل إلى أن الذاتية في المجتهد - في حدود الإطار المسموح فيه بحرية الاجتهاد - حقيقة لا سبيل إلى إغفالها، ولذلك لم يكن هناك بد من اختلاف الناس في فهم النصوص - التي هي أوعية المعاني - تبعًا لاختلاف ذواتهم وتكوينهم النفسي والعقلي.
وإن ما حدث من الصحابة في غزوة بني قريظة، ليبين لنا مقدار الذاتية، في فهم النصوص، كما يبين لنا تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الذاتية وإقراره لما تؤدي إليه.
فقد طلب الرسول من أصحابه، عقب غزوة الأحزاب، أن يتوجهوا إلى ديار بني قريظة، ليعاقبوهم على خيانتهم للمسلمين ونقضهم للعهود، وطلب عليه الصلاة والسلام من أصحابه ألا يصلي أحد منهم العصر إلا في
(1) الظاهر في اللغة ضد الباطن، وعند الأصوليين: هو اللفظ الدال على معنى متبادر منه، وليس مقصودًا أصليًا بسوق الكلام، مع احتماله للتفسير والتأويل وقبوله للنسخ في عهد الرسالة. كقوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، باعتبار دلالته على حل البيع وحرمة الربا. فإن الكلام مسوق للتفرقة بين البيع والربا، ردًا على من قالوا:{إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فدلالته على حل البيع وحرمة الربا دلالة على غير المقصود الأول بالسوق (انظر " أصول التشريع "، للأستاذ الشيخ علي حسب الله: ص 232).
بني قريظة. فنفذ بعضهم هذا الطلب حرفيًا. وأخر العصر حتى إلى بني قريظة بعد العشاء، ورأى بعض الصحابة أن المراد هو سرعة النهوض، لا خصوص تأخير الصلاة. فصلوا العصر في الطريق، ثم واصلوا سيرهم مسرعين. ولا شك أن كُلاًّ من الفريقين قد امتثل الأمر ونفذه. ولهذا أقر الرسول صلى الله عليه وسلم كُلاًّ من الفريقين وَلَمْ يَلُمْ أحدهما (1).
بل إن المجتهد الواحد قد يختلف سلوكه في زمنين مختلفين، أو في مسألتين مختلفتين، فيميل إلى التقيد بحرفية اللفظ أحيانًا عن ظاهر اللفظ، والغوص في طلب المعاني المقصودة.
وقد سبق أن ذكرنا في الفصل الذي ألمحنا فيه إلى مظاهر من فقه محدثي الصحابة - أن ابن عباس كان يميل إلى القياس، ويجتهد في طلب المعاني والعلل. وعلى الرغم من ذلك كان في بعض الأحيان يتقيد بالألفاظ ويتجه إلى التمسك بظاهرها. كما أشرنا هناك إلى أن ابن عمر رضي الله عنهم جَمِيعًا - كان على العكس من ابن عباس، حيث كان يغلب عليه الميل للظاهر. وإن لم يمنع هذا من أنه كان في بعض المسائل يتجاوز الألفاظ إلى ما وراءها.
وعندما نقول هنا إن المحدثين كانوا يتجهون إلى الظاهر. فإننا نعني بذلك أن هذا الاتجاه كان هو الغالب عليهم، السائد في فقههم، وإن لم يمنع
(1) ذكر ابن حزم: «أَنَّ السِّرَّ فِي اخْتِلَافِ الطَّائِفَتَيْنِ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ هُوَ أَنَّهُمَا كَانَا بَيْنَ نَصَّيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ الرَّسُولُ وَقْتَ العَصْرِ، وَأَنَّ تَأْخِيرَهَا إِلَى الصُّفْرَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فِعْلُ المُنَافِقِينَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرٍ لِلْعَصْرِ حَتَّى تُصَلَّى فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَوَجَبَ أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ عَلَى الآخَرِ فَأَخَذَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالأَمْرِ المُتَقَدِّمِ وَأَخَذَتْ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى بِالأَمْرِ المُتَأَخِّرِ» ، ثم قال: «وَلَوْ أَنَّنَا حَاضِرُونَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَا صَلَّيْنَا العَصْرَ إِلَّا فِيهَا وَلَوْ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ
…
» (انظر " الإحكام "، لابن حزم: 3/ 27، 29).