الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نَقْدُنَا لِلْظَّاهِرِيَّةِ:
والحق أن الالتزام بإطراد قواعد مذهب ما، والتطرف في تطبيق هذه القواعد، دون مراعاة للجزئيات والظروف المحيطة بها - هو أهم نقد يوجه إلى أهل الظاهر، وإلى أهل الرأي أيضًا، كما ذكرنا ذلك في بداية حديثنا عن الظاهرية، لأن المهم في النصوص هو الاجتهاد في معرفة مراد الشارع منها، وتعيين ذلك قد يقصر عنه اللفظ لم تقصد لذاتها، بل هي جسر يتوصل بها إلى معرفة المعنى المقصود منها، ومراد المتكلم بها. والعلم بمراد المتكلم يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، فإذا اقتصر على اللفظ فقد يقصر به عمومه، أو يحمله فوق ما يراد به. وكذلك إذا اقتصر على المعنى والعلل، فقد يعمم ما لا يقصد تعميمه، أو يقتصر على بعض إفراد ما يريد به العموم، فالواجب أن يكون عند المجتهد مرونة كافية في فهم النصوص وما يحيط بها، وألا يقيد من حريته في ذلك قاعدة ألزم بها نفسه.
ومما يدل على أهمية القرائن وتأثيرها في فهم النصوص مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَعْضِ المُتَخَاصِمِينَ، فَلَمَّا حَانَتْ الصَّلَاةُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عليه السلام صَلَّى أَبُو بَكْرٍ بِالنَّاسِ، فَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ، وَوَقَفَ فِي الصَّفِّ، فَأَكْثَرَ النَّاسُ مِنَ التَّصْفِيقِ حَتَّى الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ، فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ -: أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٌ يَدَيْهِ، فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ الرَّسُولُ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ:«يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:
«مَا كَانَ لابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» .
وقد علق النووي على هذا الحديث بقوله: «وَفِيهِ أَنَّ التَّابِعَ إِذَا أَمَرَهُ المَتْبُوعُ بِشَيْءٍ وَفَهِمَ مِنْهُ إِكْرَامَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا تَحَتُّمُ الْفِعْلُ - فَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُخَالَفَةً لِلأَمْرِ بَلْ يَكُونُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا وَتَحَذُّقًا فِي فَهْمِ المَقَاصِدِ» (1).
وبهذا الإطراد للقواعد التي ألزم أهل الظاهر أنفسهم بها - جمعوا في مذهبهم بين اليسر في بعض الأحكام، والشدة والتضييق في بعضها الآخر فضلاً عن انفرادهم بأقوال خالفوا فيها كل المذاهب.
فمن ذلك قولهم بنجاسة الكفار، وفي ذلك يقول ابن حزم: «وَلُعَابُ الكُفَّارِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، الكِتَابِيَيْنِ وَغَيْرِهِمْ - نَجِسٌ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ العَرَقُ مِنْهُمْ وَالدَّمْعُ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْهُمْ
…
» ودليله على ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، لأن الكل ليس شيئًا غير أبعاضه.
«فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أُبِيحَ [لَنَا] نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ وَوَطْؤُهُنَّ، قُلْنَا: نَعَمْ، فَأَيُّ دَلِيلٍ فِي هَذَا عَلَى أَنَّ لُعَابَهَا وَعَرَقَهَا وَدَمْعَهَا طَاهِرٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ
(1)" صحيح مسلم بشرح النووي ": 4/ 145.
لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحَفُّظِ مِنْ ذَلِكَ. قُلْنَا: هَذَا خَطَأٌ، بَلْ يَفْعَلُ فِيمَا مَسَّهُ مِنْ لُعَابِهَا وَعَرَقِهَا مِثْلَ الَّذِي يَفْعَلُ إذَا مَسَّهُ بَوْلُهَا أَوْ دَمُهَا».
وقد ذكر المرحوم الشيخ أحمد شاكر: أَنَّ هَذَا القَوْلَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَعْرِفْهُ رُوِيَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ العُلَمَاءِ إِلَّا مَا نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي " تَفْسِيرِهِ ": (5/ 372) عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ ابْنَ حَزْمٍ، وَإِلَّا مَا نَقَلَهُ الطَّبَرِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ":(10/ 74) عَنْ الحَسَنِ: «لَا تُصَافِحُوهُمْ، فَمَنْ صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ» . وحتى الطبري: «أَنَّ هَذَا القَوْلَ مَنْسُوبٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ حَمِيدٍ، فَكَرِهَ ذِكْرَهُ» (1).
ومن ذلك مذهب الظاهرية في الماء الراكد إذا بال فيه إنسان، فقد جاء الحديث:«لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ الذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» . وفي رواية: «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» .
فالنهي في الحديث مقصور على البول في الماء الدائم، فلو تغوط فيه فلا بأس، لأنه غير منهي عنه. ثم إن النهي عن الوضوء أو الغسل بهذا الماء - متوجه إلى البائل دون غيره، فلو بال إنسان في ماء راكد، فلا مانع من أن يتوضأ منه غير البائل، لأنه طاهر بالنسبة له.
وفي ذلك يقول ابن حزم: «
…
إلَاّ أَنَّ البَائِلَ فِي المَاءِ الرَّاكِدِ الذِي لَا يَجْرِي حَرَامٌ عَلَيْهِ الوُضُوءُ بِذَلِكَ المَاءِ وَالاِغْتِسَالُ بِهِ لِفَرْضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَحُكْمُهُ التَّيَمُّمُ إنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ. وَذَلِكَ المَاءُ طَاهِرٌ حَلَالٌ شُرْبُهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، إنْ لَمْ يُغَيِّرْ البَوْلُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِهِ. وَحَلَالٌ الوُضُوءُ بِهِ وَالغُسْلُ بِهِ لِغَيْرِهِ. فَلَوْ أَحْدَثَ فِي المَاءِ، أَوْ بَالَ خَارِجًا مِنْهُ ثُمَّ جَرَى البَوْلُ فِيهِ فَهُوَ
(1) انظر " المحلى ": 1/ 129.
طَاهِرٌ، يَجُوزُ الوُضُوءُ مِنْهُ وَالْغُسْلُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، إلَاّ أَنْ يُغَيِّرَ ذَلِكَ البَوْلُ أَوْ الحَدَثُ شَيْئًا مِنْ أَوْصَافِ المَاءِ، فَلَا يُجْزِئُ حِينَئِذٍ اسْتِعْمَالُهُ أَصْلاً لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ
…
».
ويقول مدافعًا عن التفريق بين البول والغائط، وأنه يقتصر على ما ورد به النص:«فَلَوْ أَرَادَ عليه السلام أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ غَيْرَ البَائِلِ لَمَا سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ عَجْزًا وَلَا نِسْيَانًا وَلَا [تَعْنِيتًا] لَنَا بِأَنْ يُكَلِّفَنَا عِلْمَ مَا لَمْ يُبْدِهِ لَنَا مِنْ الغَيْبِ» (1).
وهذا المذهب الذي يقرره ابن حزم مذهب غريب جدًا، لا يؤيده عقل ولا يوافقه نقل. وهو ليس مذهبه وحده، بل هو مذهب داود أيضًا، وفي ذلك يقول النووي، حاكيًا مذهب داود مفندًا له:«نَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ دَاوُد بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ الأَصْبَهَانِيِّ رحمه الله مَذْهَبًا عَجِيبًا، فَقَالُوا: انْفَرَدَ دَاوُد بِأَنْ قَالَ: " لَوْ بَالَ رَجُلٌ فِي مَاءٍ رَاكِدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَوَضَّأَ هُوَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ " وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ [سَبَقَ بَيَانُهُ] قَالَ: " وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ لأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ عِنْدَهُ وَلَوْ بَالَ فِي إنَاءٍ ثُمَّ صَبَّهُ فِي مَاءٍ أَوْ بَالَ فِي شَطِّ نَهْرٍ ثُمَّ جَرَى البَوْلُ إلَى النَّهْرِ قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَضَّأَ هُوَ مِنْهُ لأَنَّهُ مَا بَالَ فِيهِ بَلْ فِي غَيْرِهِ، قَالَ: " وَلَوْ تَغَوَّطَ فِي مَاءٍ جَارٍ جَازَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْهُ لأَنَّهُ تَغَوَّطَ وَلَمْ يَبُلْ "» .
ثم قال النووي: «وَهَذَا مَذْهَبٌ عَجِيبٌ، وَفِي غَايَةِ الفَسَادِ، فَهُوَ أَشْنَعُ مَا نُقِلَ عَنْهُ، إنْ صَحَّ عَنْهُ رحمه الله. وَفَسَادُهُ مُغْنٍ عَنْ الاِحْتِجَاجِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا أَعْرَضَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا المُعْتَنِينَ بِذِكْرِ الخِلَافِ عَنْ
(1)" المحلى ": 1/ 135، 140.
الرَّدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ حِكَايَتِهِمْ مَذْهَبَهُ، وَقَالُوا: فَسَادُهُ مُغَنٍّ عَنْ إفْسَادِهِ. وَقَدْ خَرَقَ الإِجْمَاعَ فِي قَوْلِهِ فِي الغَائِطِ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَوْلِ ثُمَّ فَرْقُهُ بَيْنَ البَوْلِ فِي نَفْسِ المَاءِ، وَالبَوْلِ فِي إنَاءٍ [ثُمَّ] يُصَبُّ فِي المَاءِ - مِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ: وَمِنْ أَخْصَرِ مَا يُرَدُّ بِهِ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ بِالبَوْلِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ [التَّغَوُّطِ] وَبَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْفَأْرَةِ تَمُوتُ فِي السَّمْنِ: " إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا ".
وَأَجْمَعُوا أَنَّ السِّنَّوْرَ كَالفَأْرَةِ فِي ذَلِكَ وَغَيْرُ السَّمْنِ مِنْ الدُّهْنِ كَالسَّمْنِ وَفِي الصَّحِيحِ: " إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ " فَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَغَسَلَهُ: إنْ قَالَ دَاوُد لَا يَطْهُرُ لِكَوْنِهِ مَا غَسَلَهُ هُوَ - خَرَقَ الإِجْمَاعَ، وَإِنْ قَالَ: يَطْهُرُ فَقَدْ نَظَرَ إلَى المَعْنَى وَنَاقَضَ قَوْلَهُ» (1).
ويلاحظ أن ابن حزم لا يسلم بأن غير الفأرة كالفأرة، ولا أن غير السمن كالسمن، بل يقول:«وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَمَ لِغَيْرِ الفَأْرِ فِي غَيْرِ السَّمْنِ، وَلَا لِلْفَأْرِ فِي غَيْرِ السَّمْنِ، وَلَا لِغَيْرِ الفَأْرَةِ فِي السَّمْنِ - بِحُكْمِ الفَأْرِ فِي السَّمْنِ، لأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي غَيْرِ الفَأْرِ فِي السَّمْنِ» (2).
ومما يصور أيضًا حرفيتهم ومغالاتهم في التمسك بالألفاظ - مذهبهم في ولوغ الكلب، فقد جاء في ذلك الحديث المشهور:«إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .
وقد فسر ابن حزم (الوُلُوغَ) بالشرب فقط، كما اشترط (الإِنَاءَ)
(1) انظر: تعليق الشيخ أحمد شاكر على " المحلى": 1/ 140؛ و" المجموع "، للنووي: 1/ 118، 119.
(2)
" المحلى ": 1/ 142، وانظر رد ابن حزم على المشنعين عليه لغرائبه في النجاسات في " المحلى ": 1/ 157.
أيضًا، فإذا شرب الكلب في إناء وجب إراقة ما فيه كثيرًا أو قليلاً، ماء أو غيره، وغسل سبعًا، أولاهن بالتراب مع الماء ولا بد.
«فَإِنْ أَكَلَ الكَلْبُ فِي الإِنَاءِ وَلَمْ يَلَغْ فِيهِ أَوْ أَدْخَلَ رِجْلَهُ أَوْ [ذَنَبَهُ] أَوْ وَقَعَ بِكُلِّهِ فِيهِ - لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ الإِنَاءِ وَلَا هَرْقُ مَا فِيهِ البَتَّةَ وَهُوَ حَلَالٌ طَاهِرٌ كُلُّهُ كَمَا كَانَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَغَ الكَلْبُ فِي بُقْعَةٍ فِي الأَرْضِ أَوْ فِي يَدِ إنْسَانٍ أَوْ فِي مَا لَا يُسَمَّى إنَاءً فَلَا يَلْزَمُ غَسْلُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا هَرْقُ مَا فِيهِ
…
» ولم يجعل ابن حزم للخنزير في ذلك حكم الكلب (1).
وَقَدْ ذَهَبَ ابْنُ حَزْمٍ إِلَى طَهَارَةِ المَنِيِّ، وَأَنَّهُ لَا تَلْزَمُ إِزَالَتُهُ، وَجَعَلَهُ مِثْلَ البُصَاقِ، وَأَنَّ مَنْ يَغْسِلُهُ لَا يَغْسِلُهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ نَجِسٌ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ اسْتِقْذَارِهِ أَوْ كَرَاهِيَتِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ لَهُ فِي ثَوْبِهِ (2).
كَمَا ذَهَبَ إِلَى أَنَّ المَرْأَةَ لَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ [تُخَلِّلَ] شَعْرَ نَاصِيَتِهَا أَوْ ضَفَائِرِهَا فِي الغُسْلِ، وَلَكِنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى غَسْلِ الجَنَابَةِ، أَمَّا غُسْلُ الجُمُعَةِ، وَالغُسْلُ مِنْ غَسْلِ المَيِّتِ، وَمِنَ النِّفَاسِ - وَكُلُّ ذَلِكَ فَرْضٌ عِنْدَهُ - فَيَلْزَمُ المَرْأَةَ فِيهَا أَنْ تَحُلَّ ضَفَائِرَهَا، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي غُسْلِ الجَنَابَةِ فَقَطْ» (3).
وأيضًا فقد ذهب إلى أن حقوق الله تعالى مقدمة في التركة على ديون العباد وتخرج من كل ماله، «فَإِنْ كَانَ نَذَرَ صَلاًةً صَلَاّهَا عَنْهُ وَلِيُّهُ، أَوْ صَوْمًا كَذَلِكَ، أَوْ حَجًّا كَذَلِكَ، أَوْ عُمْرَةً كَذَلِكَ، أَوْ اعْتِكَافًا
(1) انظر " المحلى ": 1/ 109، 117؛ وانظر " المغني ": 1/ 52 حَيْثُ «أَوْجَبَ ابْنُ حَنْبَلَ الغَسْلَ سَبْعًا مِنَ الكَلْبِ وَالخِنْزِيرِ وَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا» ، وفي رواية عنه:«أَلْحَقَ بِهِمَا جَمِيعَ النَّجَاسَاتِ» .
(2)
انظر " المحلى ": 1/ 125، 128، وقد ذهب أهل الظاهر أيضًا إلى أن الطهارة ليست شرطًا من مس المصحف، وأن للجنب أن يمسه. انظر " بداية المجتهد ": 1/ 32.
(3)
انظر " المحلى ": 2/ 37، 40.
كَذَلِكَ، [أَوْ ذِكْرًا كَذَلِكَ]، وَكُلَّ بِرٍّ كَذَلِكَ - فَإِنْ أَبَى الوَلِيُّ اُسْتُؤْجِرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يُؤَدِّي دَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى قِبَلَهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ - يعني داود الظاهري - وَأَصْحَابِنَا». «وَمَنْ تَعَمَّدَ [النُّذُورَ] لِيُلْزِمَهَا مَنْ بَعْدَهُ، فَهِيَ غَيْرُ لَازِمَةٍ، لَا لَهُ وَلَا لِمَنْ بَعْدَهُ، [لأَنَّ النَّذْرَ اللَاّزِمَ الوَفَاءِ بِهِ هُوَ نَذْرُ الطَّاعَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الآنَ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ]» (1).
وفي بعض الروايات عن أحمد بن حنبل ما يجعل مذهبه في ذلك قريبًا جدًا من مذهب الظاهرية (2).
كما «أَوْجَبَ ابْنُ حَزْمٍ الضَّجْعَةَ بَعْدَ سُنَّةِ الفَجْرِ» ، وَ «أَبْطَلَ صَلَاةَ مَنْ لَمْ يَضْطَجِعْهَا» ، وذكر ابن القيم:«أَنَّ رَأْيَهُ هَذَا مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَنْ الأُمَّةِ» (3).
وأخيرًا فإننا نعتقد أن الشذوذ والإغراب في فقه الظاهرية لا ينقص من قدره، ولا يدعو إلى العزوف عنه وإهماله، لأنه يحتوي أيضًا على كثير مما يمتع ويقنع، وليست الإساءة في جانب مدعاة إلى نبذ كل الجوانب وكل المذاهب الأخرى لا تخلو من الخطأ، وقد حرص ابن حزم على كشف عوراتها وبيان تناقضها. ويكفي أن الظاهرية يصدرون عن إيمان عميق بأصولهم، واقتناع تام بصحته، حتى ليقول ابن حزم في بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة: «وَهَكَذَا نَقُولُ نَحْنُ اتِّبَاعًا لِرَبِّنَا عز وجل بَعْدَ صِحَّةِ مَذَاهِبِنَا لَا شَكًّا فِيهَا وَلَا خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَأْتِينَا أَحَدٌ بِمَا يُفْسِدُهَا وَلَكِنْ ثِقَةً مِنَّا بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمَا يُعَارِضُهَا بِهِ أَبَدًا لِأَنَّنَا وَلِلَّهِ الحَمْدُ أَهْلُ التَّخْلِيصِ وَالبَحْثِ وَقَطْعِ العُمُرِ فِي طَلَبِ تَصْحِيحِ الحُجَّةِ وَاعْتِقَادِ الأَدِلَّةِ قَبْلَ اعْتِقَادِ مَدْلُولَاتِهَا حَتَّى وُفِّقْنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الحَمْدُ عَلَى مَا ثَلَجَ اليَقِينَ
…
» (4).
(1) انظر " المحلى ": 8/ 27، 28. 9/ 338، [340] وما بعدها وص 62، 64.
(2)
انظر " المغني ": 5/ 83، 84.
(3)
" زاد المعاد في هدي خير العباد ": 1/ 117 مطبعة محمد علي صبيح سنة 1352 هـ - 1934 م.
(4)
" الإحكام ": 1/ 20، 21.
والمطلع على فقههم لا يكاد يلمح ما يظهر عند المحدثين - من التردد، والأخذ بأسباب الحيطة، والتورع عن التحليل والتحريم، بل نجد عندهم الجزم والقطع واليقين بصحة ما فهموه من الأدلة، وإصدار الحكم بمقتضى هذا الفهم، دون تردد أو شك، وهذا في الواقع من المظاهر الهامة التي تفرق بينهم وبين المحدثين.
والتورع والاحتياط والتردد عند المحدثين هو موضوع الفصل القادم الذي حان الآن موعد لقائنا معه.