الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَمْهِيدٌ:
بعد أن قضينا فترة من الوقت في رحاب كتب أهل الحديث، أنصتنا فيها إلى وجهات نظرهم، وتتبعنا خلالها آراءهم، وتعرفنا على اتجاهاتهم العامة التي صدرت عنها اختياراتهم - نعود إلى العلاقة بين أهل الحديث وأهل الرأي، فنتعرض لها مرة ثانية، لا من حيث وصف هذه العلاقة، وبيان أسبابها ونتائجها، فقد كان ذلك موضوع الباب الأول. ولكن من حيث الموضوعات التي تمثل مآخذ أهل الحديث على أهل الرأي، والتي من أجلها عابوهم، واتهموهم بإعمال الحديث، أو مخالفته وتقديم الرأي عليه لترى مدى صدق هذا الاتهام، وإلى أي حد كان نصيب هذه الدعوى من الحقيقة والواقع.
ولعل مما ييسر دراسة هذه الموضوعات ما قدمناه من اتجاهات المحدثين وتصورهم للأصول والقواعد العامة التي يصدر عنها التشريع، وموازنتنا فيما سبق - لاتجاهاتهم وتصورهم باتجاهات أهل الرأي وتصورهم في أغلب الأحيان، مما يعين على تحليل المسائل المختلف فيها، ومما يجعل الدراسة في هذا الباب تأخذ طابع التطبيق على ما قدمناه من نظريات، وهو ما أوعز إلينا أن نؤخره إلى هذا الوقت وأغرانا أن نضعه هذا الموضع.
على أن هذا الباب يقدم لنا كذلك جانبًا من الجوانب الفكرية والعقلية لأهل الحديث، ويشارك في تعديل الفكرة الشائعة عنهم. والتي تصورهم بأنهم لا يزيدون عن أن يكونوا نقلة للأخبار، وموصلاً جيدًا للآثار، دون أن يكون لهم جهد فكري، أو مقدرة عقلية على الاستنباط والاستفادة مما يحملونه من علم. وقد أثبت باب سابق خطأ هذه الفكرة، أو على الأقل، فإنه قد أثبت خطأ تعميمها على المحدثين، وبخاصة محدثو القرن الثالث.
الذين كانوا مجتهدين مستقلين يغترفون من نبع الشريعة، وَيَرِدُونَ مَوْرِدَهَا الصافي.
وسوف يقدم لنا هذا الباب كذلك جانبًا من مناظراتهم ومناقشاتهم، وبخاصة عند البخاري، مما يدل على رسوخهم في العلم وتمكنهم من الأخبار ومقدرتهم على المناظرة، مقدرة مكنت إسحاق بن راهويه من مناظرة الشافعي (1) - رَحِمَهُمَا اللهُ -.
وقد كان إسحاق شديدًا في مناظرة أهل الرأي، مولعًا ببيان تناقضهم مما نرى أثره في البخاري وابن حزم. ومن صور هذه المناقشة ما نجده في مسألة الوضوء من لحم الجزور. وإنه مستثنى من الرخصة في ترك الوضوء مما مسته النار حيث يقول:«وَالعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الذِينَ يُنْكِرُونَ الوُضُوءَ مِنْ لَحْمِ الجَزُورِ، ثُمَّ لَا يَرْضَوْنَ حَتَّى يَعِيبُوا الأَخْذَ بِهِ، وَهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ يَرَوْنَ الوُضُوءَ مِنَ الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِذَا قِيلَ لِأَحَدِهِمْ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ صَاحِبَكَ ضَحِكَ نَهَارَهُ أَجْمَعَ، أَيَجِبُ عَلَيْهِ الوُضُوءُ؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيُقَالُ لَهُ: فَإِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ؟ فَيَقُولُ: قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الوُضُوءُ وَانْتَقَضَتْ الصَّلَاةُ» ، ثم ذكر أن هذا الخصم لو سئل عن إنسان يسب آخر ويهجوه لما أوجب عليه
(1) وكانا قد التقيا في مكة وقد ذكر السبكي مناظرتين لهما. أولهما في كراء بيوت مكة. وقد تساهل الشافعي مع إسحاق في هذه المناظرة. «فَتَكَلَّمَ ابْنُ رَاهُوَيْهْ بِالفَارِسِيَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ، بِمَا يُفْهَمُ مِنْهُ عَدَمَ تَقْدِيرِهِ لِلْشَّافِعِيِّ» ، ولما أدرك الشافعي ذلك: دعا إسحاق للمناظرة حتى أفحمه. أما المناظرة الثانية فقد كانت في دباغ جلود الميتة. فذهب الشافعي إلى أن الدباغ يطهرها بدليل مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ، فَقَالَ:«هَلَاّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟» . فقال إسحاق: «حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ (*): " كَتَبَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ [وَفَاتِهِ] بِشَهْرٍ: أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهَابٍ، وَلَا عَصَبٍ "، أَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، لِأَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ» . فقال الشافعي: «هَذَا كِتَابٌ، وَذَاكَ سَمَاعٌ» . فقال إسحاق: «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عِنْدَ اللَّهِ» ، فسكت الشافعي. وقد ذكر السبكي أن سكوت الشافعي ليس انقطاعًا، بأدلة ذكرها (انظر " طبقات الشافعية ": 1/ 236، 237).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع (ابن حكيم) والصواب (ابْنُ عُكَيْمٍ) والرواية التي ذكرها المؤلف في " مسند الإمام أحمد ". انظر " مسند الإمام أحمد "، تحقيق الشيخ أحمد شاكر وحمزة أحمد الزين، 19/ 267، حديث رقم 18686، الطبعة الأولى: 1416 هـ - 1995 م، نشر دار الحديث - القاهرة.
الوضوء، فلم جعل الضحك أعلى من ذلك؟ وسوف يجيب الخصم حينئذٍ بأنه ذهب إلى هذا الحديث المروي في هذا الشأن، ثم يقول إسحاق:«وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْتَجَّ فِي الفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا. فَيُقَالُ لَهُ: فَلِمَ عَذُرْتَ نَفْسَكَ أَنْ اتَّبَعْتَ حَدِيثًا [مُنْقَطِعًا] مُرْسَلاً بِإِيجَابِ الوُضُوءِ عَلَى الضَّاحِكِ فِي الصَّلَاةِ، وَعِبْتَ مَنْ تَوَضَّأَ مِنْ لَحْمِ الجَزُورِ، وَالحَدِيثَانِ مُتَّصِلَانِ أَنَّ الوُضُوءَ مِنْ لَحْمِ الجَزُورِ قَدْ فَعَلَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهِ» (1).
وقد يعقب إسحاق على مناقشته التي يلزم فيها خصومه، فيورد عليهم أمثلة لما أنكروه أو تناقضوا فيه، فيقول:«وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا جَمَعَ القَوْمُ، وَيَجْمَعُونَ مَا فَرَّقَ القَوْمُ، قَدْ أَوْلَعُوا بِذَلِكَ» (2).
وقد أثبت إسحاق تغريب المرأة الزانية وإن لم يكن لها محرم، وبعد أن ناقش من أنكر تغريبها قال:«وَلَكِنَّهُمْ أَوْلَعُوا بِأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَهُ وَرَسُولُهُ» (3).
أما الموضوعات التي أثارت النقاش والجدل بين المحدثين وأهل الرأي فقد استقصاها ابن القيم في كتابه " إعلام الموقعين "(4)، لا باعتبار أنها موضوعات الخلاف، ولكن باعتبارها مآخذ عليها على أهل الرأي، وأظهر بها تناقضهم.
والذي يهمنا من هذه الموضوعات هو ما نص عليه محدثو القرن الثالث أنفسهم، ونقلوه في كتبهم، إذ هو الذي يعكس لنا جوانب من تفكيرهم.
(1)" مسائل أحمد وإسحاق ": 1/ 27، 28.
(2)
" مسائل أحمد وإسحاق ": 1/ 536.
(3)
" مسائل أحمد وإسحاق ": 1/ 631، وانظر مثالاً آخر في 2/ 199.
(4)
انظر " إعلام الموقعين ": 3/ 378 وما بعدها.
ومنهجهم في تناول القضايا الفكرية، وهو الذي يعرض لنا موضوعات الخلاف من وجهة نظرهم، فيكشف لنا من خلال علاجهم لهذه الموضوعات - كيف أنهم لم يتصوروا أنها موضوعات تحتمل وجهات النظر وأن تحديد الصواب في إحداها ليس [قطعيًا]، وإنما كان تصورهم لها عن طريق القطع بأنهم مصيبون، وأن خصمهم على خطأ لمخالفته الأحاديث الصحيحة.
ومن أهم المحدثين الذين تعرضوا لموضوعات الخلاف هذه - ابن أبي شيبة والبخاري. وقد بلغ من اهتمامهما بها، أن عقد الأول فصلاً خاصًا بها، وناقشها الثاني في أماكن متفرقة من " صحيحه ".
وسوف نعرض هذه الموضوعات في فصلين: نخصص أولهما لبيان وجهة نظر ابن أبي شيبة فيها، لأنه أسبق من البخاري، الذي خصصنا الفصل الثاني لعرض وجهة نظره في هذه الموضوعات. ثم نتبع كلا من هذين الفصلين ببعض الإحصاءات والنقد، نصفي فيه الحساب بين أهل الحديث وأهل الرأي، لنعطي كل ذي حق حقه.
ومع حرصي على توخي العدالة، وتوقي الميل، فلن تكون كلمتي هي القول الفصل في موضوعات هذا الخلاف، بل لن تعدو أن تكون وجهة نظري فيه. واللهَ أسألُ أن يهدينا سواء السبيل.