الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يشير إلى أن قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، يوجب قبول الخبر النافر للتفقه. ولا يخلو هذا النافر من أن يكون عدلاً أو فاسقًا، ولا سبيل إلى قسم ثالث، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق بقوله:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ} [الحجرات: 6]. فلم يبق إلا قبول خبر العدل، وهذا استدلال بمنطوق النصوص، لا بمفهومها.
أَقْسَامُ الدَّلِيلِ:
والدليل عند الظاهرية ينقسم إلى قسمين: دليل مأخوذ من النص ودليل مأخوذ من الإجماع، وقد أشار ابن حزم إلى كلا القسمين، بذكره أمثلة لهما في عبارته التي صدرنا بها كلامنا عن أصول أهل الظاهر.
فمن أنواع الدليل المأخوذ من النص، ما سبق في المثال الذي ذكره ابن حزم، من أن النص يشتمل على مقدمتين، دون أن يذكر فيه النتيجة المترتبة عليهما كقوله صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . فإن هاتين المقدمتين ينتج عنهما: (كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)، فهذا
(1)" الإحكام "، لابن حزم: 2/ 111، 112.
منصوص على معناه نصًا جليًا ضروريًا، وإن لم ينص على لفظه، لأن المسكر هي الخمر، والخمر هي المسكر، والخمر حرام، فالمسكر الذي هو هي حرام، فتحريم المسكرات من أنواع الخمور حتى ولو لم ينص عليها بالذات - ليس أخذًا بالقياس، وإنما هو تطبيق للنص، حيث إن النتائج مطويات في المقدمات.
ومن أنواع الدليل المأخوذ من النص أيضًا ما يعرف في الأصول بـ (تحقيق المناط) أي الاجتهاد في الفروع لمعرفة تحقق مناط الحكم أو عدم تحققه فيها، كالبحث في نبيذ الشعير، وهل هو مسكر فيلحق بعصير العنب، أو غير مسكر، فلا يلحق به، وكقوله تعالى:{إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (1). فإن كل من ينتهي يغفر الله له، وكالمثال الذي سبق أن ذكره ابن حزم، وهو أن يدعي زيد على عمرو بمال، فنقول: إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو، لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعى عليه، وعمرو مدعى عليه، فقد أوجب النص اليمين على عمرو.
ومن أنواعه أيضًا، أن يكون المعنى الذي يدل عليه اللفظ متضمنًا في ذاته نفى آخر، لا يمكن أن يتلاءم مع المعنى الذي اشتمل عليه اللفظ، كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (2)(*). فإنه يتضمن حتمًا أن إبراهيم ليس بسفيه، لأن السفيه لا يمكن أن يتلاءم مع معنى الحلم.
ولعل المثال الأخير الذي ذكره ابن عبد البر من أمثلة الدليل - من هذا النوع، فقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى
(1)[الأنفال: 38].
(2)
[هود: 75].
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) الآية التي استشهد بها المؤلف - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، والآية التي في سورة هود {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].
ذِكْرِ اللَّهِ} (1) دليل على أن كل مانع من السعي إلى الجمعة تركه واجب، وعلل ذلك بأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن جميع أضداده. وقد قرر ابن حزم أن الأمر بالشيء هو نهي عن فعل كل ما خالف الفعل المأمور، وعن كل ضد له خاص أو عام، يقصد بالضد الخاص، المضاد في النوع وبالضد العام، المضاد في الجنس، فالأمر بالقيام يقتضي النهي عن القعود والاضطجاع والانحناء وعن كل هيئة ما عدا القيام (2).
هذا بعض أنواع الدليل المأخوذ من النص، وهناك أنواع أخرى لا تخرج أيضًا عن دلالة اللفظ (3) وكان من المفروض أن يكون هذا الدليل بكل أنواعه من أبحاث الألفاظ التي تشتمل عليها النصوص، كالأمر والنهي والعموم والخصوص، ولكن لما كانت أنواع الدليل ليست من قبيل الدلالة الظاهرة للنص، وإنما هي أخذ بما تضمنته دلالتها من معان لا تظهر إلا بعد تأمل، وكان منهج الظاهرية حرفيًا ملتزمًا للنص الظاهر - احتاجوا أن يفردوا الدلالات اللازمة للمعنى الظاهر تحت اسم خاص هو الدليل (4).
أما الدليل المأخوذ من الإجماع فقد قسمه ابن حزم إلى أربعة أقسام، هي: الاستصحاب أو استصحاب الحال، وأقل ما قيل، وإجماعهم على ترك قولة ما، وإجماعهم على أن حكم المسلمين سواء.
أما النوع الأول وهو الاستصحاب، فقد أشار إليه ابن حزم بالمثال
(1)[الجمعة: 9].
(2)
انظر " الإحكام ": 3/ 68، 69.
(3)
مثل عدم وجود نص بالإيجاب أو التحريم، فذلك يدل على الإباحة، وهذا داخل في الاستصحاب، ومثل القضايا المتدرجة، وهو يدخل في النوع الأول، ومثل عكس القضايا فكل مسكر حرام، تعكس إلى بعض الحرام مسكر، ومثل دلالة الالتزام أو التضمن، فجملة:«رَيْدٌ يَكْتُبُ» ، تفيد أنه حي وأن أصابعه تتحرك.
(4)
انظر " ابن حزم "، للأستاذ أبي زهرة: ص 364، 368.
الذي ذكره فيما نقلناه عنه في بداية حديثنا عن أصول الظاهرية أيضًا، حيث قال:«مِثْلَ إِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنَّ دَمَ زَيْدٍ حَرَامٌ بِإِسْلَامِهِ، ثُمَّ قَالَ قَائِلٌ، قَدْ حَلَّ دَمُهُ. فَقُلْنَا: قَدْ تَيَقَّنَّا بِالنَّصِّ وُجُوبَ الطَّاعَةِ لِلْإِجْمَاعِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ دَمَهُ حَرَامٌ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا خِلَافُ ذَلِكَ، إِلَّا بِنَصٍّ مَنْقُولٍ بِالثِّقَاتِ أَوْ بِتَوَاتُرٍ أَوْ بِإِجْمَاعٍ نَاقِلٍ لَنَا، فَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَى مَعْنَاهُ» ، وهذا يفيد أن ما ثبت بالإجماع، يظل ثابتًا ولا يقبل دعوى تغييره، حتى يقوم على تغيير حكمه دليل من نص أو إجماع آخر، وهذا هو معنى الاستصحاب، فقد عرفه الأصوليين بأنه الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له، أو منفيًا عنه، لعدم قيام الدليل على خلافه. فمعناه عدم قيام الدليل على تغيير حكم سابق، فهو دليل سلبي، لا إيجابي، ولذلك اختلف فيه، هل هو حجة للدفع فقط، أو للدفع والإثبات (1).
وقد توسع الظاهرية في استخدام هذا الدليل، نظرًا لاقتصارهم على النصوص ومنعهم الاستدلال بالرأي، كما أكثر منه فقهاء المحدثين، كأحمد بن حنبل، لما قدمناه من كراهيتهم للرأي، وميلهم إلى الوقوف عند حدود النصوص.
وقد فرق ابن حزم بين الاستصحاب، وأقل ما قيل - وهما القسمان الأولان من أقسام الدليل المأخوذ من الإجماع - في صورة سؤال وجوابه حيث قال: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ هَذَانِ اسْمَانِ (2) مُخْتَلِفَانِ فِي المَعْنَى فَمَا الفَرْقُ
(1) يرى الحنفية أن الاستصحاب حجة للدفع، لا للإثبات، فاستصحاب البراءة الأصلية للذمة، ليس حجة ببراءتها حقًا، بل لدفع دعوى من يدعي شغلها حتى يثبت دعواه، واستصحاب الملكية الثابتة بعقد سابق، ليس حجة لبقاء الملكية بل لدفع دعوى من يدعي زوالها حتى يثبت دعواه. أما الشافعية فيرون أنه يصلح للدفع والإثبات. وانظر " أصول التشريع "، للأستاذ علي حسب الله: ص 169، 170؛ و" ابن حزم "، للأستاذ أبي زهرة: ص 376، 377.
(2)
هكذا في الأصل، وهو لغة مأثورة عن العرب.
بَيْنَهُمَا؟ وَلِمَ صِرْتُمْ إِلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ الأَمْكِنَةِ، وَإِلَى الآخَرِ فِي أَمْكِنَةٍ أُخْرَى؟ وَمَا حَدُّ المَوَاضِعِ التِي تَأْخُذُونَ فِيهَا بِاسْتِصْحَابِ الحَالِ؟ وَمَا حَدُّ المَوَاضِعِ التِي تَأْخُذُونَ فِيهَا بِأَقَلِّ مَا قِيلَ؟ وَأَنْتُمْ تُسَمُّونَ فِعْلَكُمْ فِي كِلَا المَوْضِعَيْنِ اتِّبَاعًا لِلْإِجْمَاعِ وَإِجْمَاعًا صَحِيحًا
…
».
ثم أجاب بقوله: «إِنَّ الذِي عَمِلْنَا فِيهِ بِأَنْ سَمَّيْنَاهُ أَقَلَّ مَا قِيلَ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي حُكْمٍ أَوْجَبَ غَرَامَةَ مَالٍ، أَوْ عَمَلاً بِعَدَدٍ، لَمْ يَأْتِ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ ذَلِكَ نَصٌّ فَوَجَبَ فَرْضًا أَلَّا نَحْكُمَ عَلَى أَحَدٍ لَمْ يُرِدْ نَاقِضٍ فِي الحُكْمِ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِجْمَاعٍ عَلَى الحُكْمِ عَلَيْهِ، وَكَانَ العَدَدُ الذِي قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهِ، وَقَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ فِي الحُكْمِ بِهِ، وَكَانَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلاً بِلَا دَلِيلٍ، لَا مِنْ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ فَحَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الأَخْذَ بِهِ.
وَأَمَّا الذِي عَمَلْنَا فِيهِ بِأَنْ سَمَّيْنَاهُ اسْتِصَحَابَ الحَالِ، فَكُلُّ أَمْرٍ ثَبَتَ إِمَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فِيهِ تَحْرِيمٌ أَوْ تَحْلِيلٌ أَوْ إِيجَابٌ، ثُمَّ جَاءَ نَصٌّ مُجْمَلٌ يَنْقُلُهُ عَنْ حَالِهِ، فَإِنَّمَا نَنْتَقِلُ مِنْهُ إِلَى مَا نَقَلْنَا النَّصَّ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِبُرْهَانٍ عَلَى أَحَدِ الوُجُوهِ التِي اخْتَلَفُوا [عَلَيْهِ]، وَكَانَتْ كُلُّهَا دَعَاوَى، [فَإِذَا] ثَبَتَ عَلَى مَا قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ عَلَيْهِ، وَنَسْتَصْحِبُ تِلْكَ الحَالِ، وَلَا نَنْتَقِلُ عَنْهَا إِلَى دَعَاوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا» (1).
ثم ذكر لذلك أمثلة، منها: أن الذهب لم يأت فيه نص بمقدار النصاب ولا في مقدار الحق المأخوذ منه فصرنا في ذلك إلى الإجماع ضرورة، لأنه لا يحل من مال المسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع، فلم نوجب في الذهب إلا أقل ما قيل في نصابه، وهو أربعون دينارًا، فلا يؤخذ زكاة في أقل من أربعين دينارًا، بخلاف الفضة، لأن الفضة ورد فيها نص، أما الذهب فلم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة.
(1)" الإحكام ": 3/ 155.
ومثل الاختلاف في زكاة حلي الذهب، فقد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليًا، إذا بلغ المقدار السابق، ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ، فاستصحبنا الحال التي أجمعنا عليها، ولم نسقط بالاختلاف ما قد وجب باليقين والإجماع (1).
فلا يؤثر تبدل الأزمان والأمكنة، ولا تغير أحوال المحكوم عليه - في الحكم الثابت بالنص أو بالإجماع، إلا إذا ورد نص أو إجماع يفيد تغير الحكم، أو بتغير المحكوم عليه بحيث يتبدل اسمه، فما دام الذهب هو الذهب قبل أن يصاغ وبعد أن يصاغ، فالحكم ما زال باقيًا، وهو وجوب الزكاة.
أما الإجماع على الترك، فهو أن يختلف الناس في مسألة ما على عدة أقوال ويجمعوا على ترك قول في الموضوع، كما اختلف الصحابة في ميراث الجد مع الإخوة وهل يرثون معه أو لا؟ فقال بعضهم: إنه كالأب عند فقده، وكما أن الأب يحجب الإخوة، فكذلك الجد يحجبهم فلا يرثون معه. وقال آخرون: إنه يكون معهم كأخ شقيق أو لأب، بشرط ألا يقل نصيبه عن الثلث، وقال فريق ثالث: إنه كالأخ إذا كان الإخوة ذكورًا، ويكون عصبة وحده إن كانوا إناثًا، بشرط ألا يقل عن السدس في الحالين.
وكل هذه الأقوال أجمعت على أن الجد يرث مع الإخوة، وأجمعت على ترك القول بعدم ميراثه معهم، فلا يحل لأحد أن يخالف هذا الإجماع باستحداث قول يحرم به الجد من الميراث مع الإخوة.
أما القسم الأخير من أقسام الدليل المأخوذ من الإجماع، وهو الإجماع على أن حكم المسلمين سواء، فهو قريب من القاعدة التي تقول:
(1)" الإحكام ": 3/ 159.