الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِمَّا غَيَّرَتْ النَّارُ) (1)، وكقوله:(مَنْ قَالَ إِذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ [فَقَدْ] وَجَبَ الغُسْلُ)، ثم يعنون بعده:(مَنْ كَانَ يَقُولُ المَاءُ مِنَ المَاءِ)(2).
وهذا الأسلوب الذي اتبعه ابن أبي شيبة، والذي يكثر فيه من ذكر (مَنْ قَالَ، مَنْ كَانَ يَرَى، وَمَا قَالُوا:
…
) (3)، يوضح تمامًا أنه يعنى بجمع ما قيل، دون عناية بتمحيصه، أو الفصل فيه، أو بيان رأيه، ولهذا يذكر الأحاديث ما صح منها وما لم يصح، ولهذا أيضًا جمع المسائل التي خالف فيها أبو حنيفة الآثار، وجعلها في باب خاص، يورد فيه حجج أهل الحديث دون أن يناقشها وسوف يأتي بحث ذلك إن شاء الله.
وعلى كل فقد أتاح ابن أبي شيبة لمن أتى بعده أن ينظر فيما جمعه، وأن ينتقي منه، وأن يختار لنفسه ما يراه الراجح من بين الأحاديث المختلفة، والآراء المتعارضة، وقد تم هذا على يد البخاري الذي كان أحد من روى عن ابن أبي شيبة.
مَنْهَجُ البُخَارِيِّ:
كان التزام البخاري بالصحيح مغنيًا له عن ذكر كثير من الأحاديث التي تقرر أحكامًا معارضة. إذ بإثباته عدم صحتها ضعفت عن أن تكون معارضة، فيترجح العمل بالأقوى.
وقد كان للبخاري شيخصيته الفقهية القوية التي أودعها تراجمه، والتي دأبت على التعبير عن نفسها في كل مكان من كتابه، حتى وصف بالفقه عن جدارة، وامتاز بتراجمه التي سلك فيها طريقة فريدة لم يتابعه فيها أحد، اللهم إلا النسائي في حدود ضيقة.
(1) انظر " المصنف ": 1/ 32، 37.
(2)
انظر " المصنف ": 1/ 59، 62.
(3)
انظر " المصنف ": 4/ 1، 68.
ونوجز في النقاط التالية وصفًا لمنهجه الفقهي في " صحيحه "، على وجه الإجمال:
1 -
التزم البخاري بأن يذكر الأحاديث منفصلة عن الآراء الفقهية، بل يذر ما يريد منها في الترجمة، كما يشير في الترجمة أيضًا إلى رأيه فيما يدل عليه الحديث، أو فيما يمكن أن يستنبط منه، فإذا ذكر الأحاديث لم يعقب عليها إلا بتفسير غريب، أو كلام خاص بالأسانيد وألفاظ الرواة.
2 -
يقتصر في ذكره للآراء الفقهية على أقوال الصحابة والتابعين. ولا يكاد يذكر اسم أحد من أصحاب المذاهب الأربعة، وإن كان يعرض أحيانًا بأبي حنيفة، مشيرًا إليه بقوله:«وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ» .
3 -
كثيرًا ما يكرر الحديث في أكثر من موضع مترجمًا له أكثر من باب، وهذه ظاهرة واضحة عند البخاري، نكتفي بذكر مثال واحد لها يدل على غيره:
فقد روى البخاري عن أنس بن مالك: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ وِجَاهَ المِنْبَرِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتْ المَوَاشِي، وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا» قَالَ أَنَسُ: " وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلَا قَزَعَةً وَلَا شَيْئًا وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ، وَلَا دَارٍ ". قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ السَّمَاءَ، انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ المُقْبِلَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَلَكَتْ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتْ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَيْهِ -، ثُمَّ قَالَ:
«اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالجِبَالِ وَالآجَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» قَالَ: فَانْقَطَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ. قَالَ شَرِيكٌ: فَسَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ قَالَ: «لَا أَدْرِي» .
روى البخاري هذا الحديث من عدة طرق تنتهي كلها إلى أنس بن مالك، وترجم له من الأبواب ما يأتي (1).
1 -
بَابُ الاِسْتِسْقَاءِ فِي المَسْجِدِ الجَامِع.
2 -
بَابُ الاِسْتِسْقَاءِ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِ القِبْلَةِ.
3 -
بَابُ الاِسْتِسْقَاءِ عَلَى المِنْبَرِ.
4 -
بَابُ مَنِ اكْتَفَى بِصَلَاةِ الجُمُعَةِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ.
5 -
بَابُ الدُّعَاءِ إِذَا تَقَطَّعَتْ السُّبُلُ مِنْ كَثْرَةِ المَطَرِ.
6 -
بَابُ مَا قِيلَ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُحَوِّلْ رِدَاءَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ يَوْمَ الجُمُعَةِ.
7 -
بَابُ إِذَا اسْتَشْفَعُوا إِلَى الإِمَامِ لِيَسْتَسْقِيَ لَهُمْ لَمْ يَرُدَّهُمْ.
8 -
بَابُ الدُّعَاءِ - إِذَا كَثُرَ المَطَرُ - حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا.
9 -
بَابُ رَفْعِ النَّاسِ أَيْدِيَهُمْ مَعَ الإِمَامِ فِي الاِسْتِسْقَاءِ.
10 -
بَابُ رَفْعِ الإِمَامِ يَدَهُ فِي الاِسْتِسْقَاءِ.
11 -
بَابُ مَنْ تَمَطَّرَ فِي المَطَرِ حَتَّى يَتَحَادَرَ عَلَى لِحْيَتِهِ.
وبعض هذه الأبواب استنباط مما يفيده الحديث، وبعضها يستفيده البخاري من الطرق المختلفة للحديث، والتي يكون في بعضها تفصيل أو زيادة تتيح له أن يترجمها ترجمة مستقلة.
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 118، 120. وقد صنع مثل ذلك في حديث الكسوف: 1/ 121، 124.
4 -
ومن الظواهر الواضحة عند البخاري تردده بين الإيجاز والإطناب في تراجمه، وغالبًا ما يكون الإطناب في مواضع الخلاف بين المحدثين والأحناف حتى إن حجم الترجمة حينئذٍ قد يتجاوز ضعف حجم الحديث المروي فيها.
ومن أمثلة ما جاء في شهادة القاذف إذا تاب هل تقبل أم لا؟ والمعروف أن الأحناف خالفوا غيرهم في هذا الموضع، وذهبوا إلى أن رد شهادة القاذف من تمام العقوبة، فلا تقبل وإن تاب.
وقد أفاض البخاري في ترجمة هذا الباب، ورد على الأحناف، فقال:(بَابُ شَهَادَةِ القَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا، وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] وَجَلَدَ عُمَرُ، أَبَا بَكْرَةَ، وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ، وَنَافِعًا بِقَذْفِ المُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: «مَنْ تَابَ قَبِلْتُ شَهَادَتَهُ» وَأَجَازَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَطَاوُسٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَعِكْرِمَةُ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، [وَشُرَيْحٌ]، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ، وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: «الأَمْرُ عِنْدَنَا بِالمَدِينَةِ إِذَا رَجَعَ القَاذِفُ عَنْ قَوْلِهِ، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ». [وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ: «إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ»]. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: «إِذَا جُلِدَ العَبْدُ ثُمَّ أُعْتِقَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ اسْتُقْضِيَ المَحْدُودُ فَقَضَايَاهُ جَائِزَةٌ». وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ القَاذِفِ وَإِنْ تَابَ»، ثُمَّ قَالَ: لَا يَجُوزُ نِكَاحٌ بِغَيْرِ شَاهِدَيْنِ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ مَحْدُودَيْنِ جَازَ، وَإِنْ تَزَوَّجَ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ المَحْدُودِ وَالعَبْدِ وَالأَمَةِ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ، وَكَيْفَ تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ، وَقَدْ نَفَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الزَّانِيَ سَنَةً، وَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ حَتَّى مَضَى خَمْسُونَ لَيْلَةً).
هذه الترجمة الطويلة ساقها البخاري لحديثين: أولهما عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، «أَنَّ امْرَأَةً سَرَقَتْ فِي غَزْوَةِ الفَتْحِ، فَأُتِيَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَقُطِعَتْ يَدُهَا» ، قَالَتْ عَائِشَةُ:" فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ، وَكَانَتْ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَرْفَعُ حَاجَتَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ".
أما الحديث الثاني، فَرَوَاهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى، وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ، وَتَغْرِيبِ عَامٍ» (1).
ويلاحظ أن الحديثين ليس فيهما دليل مباشر، يقطع النزاع في قبول شهادة القاذف.
5 -
غموض العلاقة أحيانًا بين ترجمة الباب والحديث الذي يرويه فيه، مما يترتب عليه اختلاف الشراح في تعيين مراد المؤلف، فتتعدد لذلك أقوالهم.
وقد أشار السندي إلى شيء من ذلك، حين قسم تراجم البخاري إلى قسمين: قسم يذكره ليستدل بحديث الباب عليه، وقسم يذكره ليجعل كالشرح للحديث، ويبين به أن الإطلاق في الحديث مثلاً، مقصود به التقييد، ثم قال السندي: «وَالشُّرَّاحُ جَعَلُوا الأَحَادِيثَ كُلَّهَا دَلَائِلَ لِمَا فِي التَّرْجَمَةِ، فَأَشْكَلَ عَلَيْهِمْ الأَمْرَ فِي مَوَاضِعَ، وَلَوْ جَعَلُوا بَعْضَ التَّرَاجِمَ كَالشَّرْحِ، خَلَصُوا عَنْ الإِشْكَالِ فِي مَوَاضِعَ. وَأَيْضًا كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ بَعْدَ التَّرْجَمَةِ آثَارًا لِأَدْنَى خَاصِّيَّةٍ بِالبَابِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الشُّرَّاحِ يَرَوْنَهَا دَلَائِلَ لِلْتَّرْجَمَةِ، فَيَأْتُونَ بِتَكَلُّفَاتٍ بَارِدَةٍ لِتَصْحِيحِ الاِسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى التَّرْجَمَةِ، فَإِنْ عَجِزُوا
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 2/ 62، 63 ويشير البخاري بالحديثين إلى أن الحدود عقوبة مقدرة، فإذا ظهر شخص بعد إقامة الحد عليه دخل في زمرة الجماعة. والواقع أن استدلاله على قبول شهادة القاذف، إنما يتم على جعل الاستثناء في الآية المذكورة في الترجمة راجعًا إلى رد الشهادة والفسق جميعًا، لا إلى أقرب مذكور، كما يقول الأحناف، فإن رفع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع، لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة (وانظر " بداية المجتهد ": 2/ 370).
عن وجه الاستدلال عَدُّوهُ اعتراضًا على صاحب الصحيح، والاعتراض في الحقيقة متوجه عليهم، حيث لم يفهموا المقصود
…
» (1).
6 -
وقد رأينا فيما سبق أن السندي قسم الترجمة، بالنسبة لما يروى فيها من الحديث قسمين. وقد فصل الدهلوي ما أجمله السندي فقسم تراجم البخاري أقسامًا (2):
- منها: أن البخاري يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه، ويذكر في الباب حديثًا شاهدًا له على شرطه.
- ومنها: أنه يترجم بمسألة استنبطها من الحديث المروي في الترجمة بنحو من الاستنباط، من نصه أو إشارته، أو عمومه، أو إيمائه.
- ومنها: أنه يترجم بمذهب ذُهِبَ إليه من قبل، ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة، ويكون شاهدًا له في الجملة، من غير قطع بترجيح ذلك المذهب فيقول:(بَابُ مَنْ قَالَ كَذَا).
- ومنها: أنه يترجم بمسألة اختلفت فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها، ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها، مثاله:(بَابُ خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى البَرَازِ) جمع فيه بين حديثين مختلفين (3).
- ومنها: أنه قد تتعارض الأدلة، فيكون عند البخاري وجه الجمع بينهما بحمل كل واحد على محمل، فيترجم بذلك المحمل، إشارة إلى وجه الجمع:
(1)" مقدمة السندي لحاشيته على البخاري ".
(2)
انظر " شرح تراجم أبواب صحيح البخاري " للدهلوي، طبع الهند سنة 1323 هـ: ص 2 وما بعدها.
(3)
انظر " البخاري بحاشية السندي ": 1/ 27.
مثاله: (بَابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ
…
وَمَا يُحْذَرُ مِنَ الإِصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالعِصْيَانِ [مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ]) ذكر فيه حديث: «سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (1).
- ومنها: أنه قد يجمع ف ي باب واحد أحاديث كثيرة، كل واحد منها يدل على الترجمة، ثم يظهر له في حديث منها فائدة أخرى سوى الفائدة المترجم عليها، ويعلم على ذلك الحديث بعلامة الباب، وليس غرضه أن الباب الأول قد انقضى بما فيه، وجاء الباب الآخر برأسه ولكن قوله (باب) هنالك بمنزلة ما يكتب أهل العلم على الفائدة المهمة لفظ (تنبيه) أو لفظ (فائدة)، أو لفظ (قف). مثاله ما جاء في كتاب بدء الخلق:(بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّعْبَانُ: الحَيَّةُ الذَّكَرُ مِنْهَا، يُقَالُ: الحَيَّاتُ أَجْنَاسٌ: الجَانُّ وَالأَفَاعِي، وَالأَسَاوِدُ (*)، {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]: «فِي مِلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ» ، يُقَالُ:{صَافَّاتٍ} [النور: 41]: «[بُسُطٌ] (**) أَجْنِحَتَهُنَّ» {يَقْبِضْنَ} [الملك: 19]: «يَضْرِبْنَ بِأَجْنِحَتِهِنَّ» (2).
ومن هذه الترجمة نفهم أن البخاري لم يجعل لفظ (الدابة) مقصورًا على ما يدب على الأرض، بل أدخل الطير أيضًا في مفهومها. وبعد أن ذكر حديث قتل الحيات ترجم بابًا خاصًا للغنم، مع أنها تدخل في مفهوم (الدابة)، وإنما خصها بالذكر ليبين منقبتها وفضلها، حيث روى فيها الحديث «يُوشِكَ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الرَّجُلِ غَنَمٌ
…
» ثم رجع إلى رواية الأحاديث التي تدخل في نطاق الدابة بمفهومها العام.
(1) انظر " البخاري بحاشية السندي ": 1/ 11.
(2)
انظر " البخاري بحاشية السندي ": 2/ 136. وقوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]، وقوله {آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56].
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع ورد (وَالأَسَاوِرُ) وهو خطأ والصواب (وَالأَسَاوِدُ) بالدال، انظر " الجامع الصحيح " للبخاري (59) كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ (14) بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة: 164]
…
(" فتح الباري بشرح صحيح البخاري "، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، 6/ 347، نشر دار المعرفة - بيروت، طبعة سنة 1379 هـ).
(**) بُسُطٌ، وليس بَسَطْنَ.
ومنها أنه قد يكتب لفظ (باب) مكان قول المحدثين (وَبِهَذَا الإِسْنَادِ)، وذلك حيث جاء حديثان بإسناد واحد، كما يكتب (ح) حيث جاء حديث بإسناين: مثاله: (بَابُ ذِكْرِ المَلَائِكَةِ) أطال فيه الكلام، حتى أخرج حديث «المَلَائِكَةُ يَتَعَاقَبُونَ، مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ» ، بِرِوَايَةِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. ثم كتب (بَابُ إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: آمِينَ وَالمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ، آمِينَ
…
)، فكأنه يشير إلى أن لفظة (باب) تساوي:(وبهذا الإسناد).
ومنها: أنه قد يترجم بمذهب بعض الناس، أو مما يكاد يذهب إليه بعضهم، أو بحديث لم يثبت عنده، ثم يأتي بحديث يستدل به على خلاف ذلك المذهب.
وكثيرًا ما يترجم لأمر ظاهر قليل الجدوى، ولكن تتضح جدواه عند التأمل، كقوله:(بَابُ قَوْلِ الرَّجُلِ [لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]: مَا صَلَّيْنَا)(1)، فإنه أشار به إلى الرد على من كره ذلك. وأكثر صنيعه في ذلك تعقبات على عبد الرزاق وابن أبي شيبة في تراجم " مُصَنًّفَيْهِمَا ". ومثل هذا لا ينتفع به إلا من مارس الكتابين واطلع على ما فيهما.
وكثيرًا ما يأتي بشواهد الحديث من الآيات، ومن شواهد الآية من الحديث، تظاهرًا، ولتعيين بعض المجملات دون بعض، وقد سبق وصفنا منهجه في ذكره الآيات في تراجمه.
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 78.