الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الرَّابِعُ: رُوَّاةُ الحَدِيثِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَأْثِيرُهُمْ فِي أَهْلِ الحَدِيثِ:
نستطيع أن نعتبر عصر الصحابة منبع الآراء الفقهية: منه تنبع وتتدفق، ثم تسيل متشعبة في أودية الزمن، مكتسبة في مسيرتها ما اختلطت به من الطبائع والعقول والبيئات المتفاوتة، مثلما يكتسب الماء من خواص الأرض التي يمر عليها ما يحفظ عذوبته وخواصه أو يخرجه عنها.
ونظرة فاحصة إلى معظم المذاهب الإسلامية بما تمثله من اتجاهات فقهية تؤكد ما نقول، وتكشف عن جذور هذه المذاهب الممتدة إلى عصر الصحابة - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - تمتص منه حياتها، وتتلمس فيه البراهين على صحتها، واستقامة طريقها، وتستأنس به لما تذهب إليه، فإن العصر الممتلئ بالإيمان، الفياض بالحركة - قد جرى فيه من الأحداث، وصراع الأفكار، وألوان النزاع - ما جعل له الأثر الأول في اتجاهات العصور التالية لهم.
وتعرضنا لهذا العصر، إنما هو من جانب تأثيره في المحدثين وتأثرهم به، عن طريق النماذج التي يشبهونها، أو التي يلتقون معها في المنزع، ويشاركونها في المشرب، ويقتفون أثرها: سواء في السلوك أو التفكير.
وقبل أن نخوض في ذلك نوجز القول في تعريف الصحابي، وفي بيان مراتب الصحابة من العلم:
حَدُّ الصَّحَابِيِّ:
للعلماء أقوال كثيرة في حد الصحابي، وهذه الأقوال يمكن حصرها في اتجاهين رئيسيين:
أولهما: اتجاه جمهور المحدثين، ويميلون في تعريفه إلى أنه «كُلُّ مُسْلِمٍ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ لَحْظَةً» . وهو تعريف مشتق من أصل المعنى اللغوي لمادة الصحبة. وقد اختار هذا التعريف النووي، ووصفه بأنه مذهب أحمد بن حنبل والبخاري وكافة المحدثين (1). ويؤيده أن البخاري ترجم لفضائل الصحابة في " صحيحه " بقوله:(بَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ رَآهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ)(2).
وإلى هذا التعريف أيضًا يميل ابن حزم، بعد أن يعترض على بعض التعريفات الأخرى فيقول: «وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَرَآهُ صَحَابِيًّا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ أَبُو جَهْلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَدْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَحَادَثَهُ وَجَالَسَهُ وَسَمِعَ مِنْهُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَهُ عليه السلام وَلَمْ يَلْقَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام أَوْ فِي حَيَاتِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ مَعْدُودًا فِي الصَّحَابَةِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ كُلَّ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ عليه السلام صَحَابِيًّا وَلَا [خِلَافَ] بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدَ لَيْسَا صَحَابِيَيْنِ وَهُمَا مِنَ الفَضْلِ وَالعِلْمِ وَالبِرِّ بِحَيْثُ هُمَا وَقَدْ كَانَا عَالِمَيْنِ جَلِيلَيْنِ أَيَّامَ عُمَرَ وَأَسْلَمَا فِي أَيَّامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا الصَّحَابَةُ الذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] الآيَةُ، وَمَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ بِشَيْءٍ وَالسَّامِعُ كَافِرٌ ثُمَّ أَسْلَمَ فَحَدَّثَ بِهِ وَهُوَ عَدْلٌ فَهُوَ مُسْنَدٌ صَحِيحٌ وَاجِبُ الأَخْذِ بِهِ
…
وَقَدْ كَانَ فِي المَدِينَةِ فِي عَصْرِهِ عليه السلام مُنَافِقُونَ بِنَصِّ
(1)" مقدمة النووي لصحيح مسلم ": 1/ 35، 36، وانظر " المدخل إلى مذهب الإمام ابن حنبل ": ص 54،95؛ و" مسائل أحمد وإسحاق ": 3/ 158.
(2)
" البخاري بحاشية السندي ": 2/ 174.