الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَةٌ:
وفي نهاية البحث أود أن أنبه على اعتبار القرن الثالث أزهى عصور التأليف في الحديث وفقهه، واقتصارنا عليه في هذه الدراسة - لا يعني غمط محدثي القرون التالية حقهم، ولا إنكار جهدهم ونشاطهم، وبخاصة محدثو القرن الرابع، الذي يعد مرحلة انتقال بين الاجتهاد والتقليد، والذي كان من حيث الاجتهاد والابتكار أقرب إلى القرن الثالث منه إلى ما تلاه من قرون، حيث مارس المحدثون فيه نشاطهم بقوة وأصالة، وأثمر تأليفهم في هذا القرن الصحاح والسنن والمستدركات والمسانيد وغيرها. بل لم يعد المحدثون فيما بعد القرن الرابع علماء يحيون ما درس من مذهبهم، ويؤلفون في الفقه على طريقتهم. وكانت كتب الأحكام الحديثية التي شاعت فيما بين القرنين الخامس والتاسع الهجريين - أثرًا من آثار هؤلاء العلماء.
ولا شك أن فقه المحدثين بعد القرن الثالث في حاجة إلى دراسة خاصة، تبين مسيرته، وتحلل ما طرأ عليه من تغيرات وتطورات، وتعرف بأئمته وأعلامه في العصور المختلفة.
أما القرن الثالث فأرجو أن يكون هذا البحث قد أسهم في الكشف عن الجانب الفقهي عند أهل الحديث فيه.
وقد تبين أن فقهاء المحدثين الذين عني بهم البحث هم: أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، وإسحاق بن راهويه (ت 238 هـ)، والبخاري (ت 256 هـ)، ومسلم (ت 271 هـ)، والترمذي (ت 279 هـ)، وأبو داود (ت 275 هـ)، والنسائي (ت 303 هـ)، والدارمي: عبد الله بن عبد الرحمن (ت 255 هـ)، وابن ماجه: محمد بن يزيد (ت 275 هـ)، وابن أبي شيبة: عبد الله بن محمد (ت 235 هـ).
وقد درسنا هؤلاء الأعلام من خلال مصنفاتهم، فوجدناهم متفاوتين في وضوح الملكة الفقهية، فالمقدمون منهم هم الثلاثة الأول: أحمد، وإسحاق، والبخاري، يليهم الترمذي وأبو داود والنسائي ومسلم والدارمي، ثم يأتي بعد هؤلاء ابن ماجه وأبو بكر بن أبي شيبة.
وقد كان محمد بن جرير الطبري (ت 310 هـ) صاحب آثار ومذهب فقهي ينسب إليه، وكان جديرًا بأن يكون عنصرًا من عناصر الدراسة في هذا البحث، لولا أن آثاره في الحديث نادرة، لم أعثر منها إلا على جزء صغير من كتابه " تهذيب الآثار " مصور بمعهد المخطوطات العربية (*).
ولما كانت الموازنة بين أهل الحديث وأهل الرأي محور هذا البحث لم يكن بد من تحديد هاتين الفئتين فتتبع الفصل الأول هذه العبارة: (أَهْلُ الحَدِيثِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ)، وتبين أن إطلاقها على عصر الصحابة والتابعين ليس له ما يبرره، ولهذا كان من الخطأ أن يختص الحجازيون بأنهم أهل الحديث، وأن يقصر الرأي على العراقيين، بل وجد في كلتا المدرستين من يكثر من الرأي ومن يتحرز منه، ومن يكثر من رواية الحديث، ومن يخشى روايته.
فلم يكن الخلاف بين مدرسة الحجاز ومدرسة العراق مسببًا عن اختلاف في المنهج، أو عن قلة الحديث في العراق وكثرته في الحجاز - لكنه كان ناتجًا عن اختلاف البيئة واختلاف المشيخة.
ثم بعد تكون المحدثين وظهور أبي حنيفة أصبحت عبارة (أَهْلُ الحَدِيثِ) عَلَمًا على من يشتغل برواية الحديث، وعبارة (أَهْلُ الرَّأْيِ) عَلَمًا على مدرسة أبي حنيفة.
وقد عالج هذا الفصل اضطراب المؤرخين في تصورهم لأهل الحديث وأهل الرأي، فالمجتهد الواحد يعتبره مؤرخ من أهل الحديث، ويعتبره مؤرخ آخر من أهل الرأي، بل إن المؤرخ الواحد قد يختلف تقديره لمجتهد ما،
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " تهذيب الآثار "(الجزء المفقود)، لابن جرير الطبري (ت 310 هـ)، تحقيق علي رضا بن عبد الله بن علي رضا، الطبعة الأولى: 1416هـ - 1995م، نشر دار المأمون للتراث. دمشق - سوريا، (مجلد واحد).
يردده بين أهل الرأي وأهل الحديث. وقد تبين أن سبب هذا الخلط هو اختلاف الاعتبار عند التقسيم، أو ملاحظة ظواهر عصر ما ثم تعميمها على كل العصور.
أما الفصل الثاني فقد تعرض للصراع الفكري بين المُحَدِّثِينَ وغيرهم من المُتَكَلِّمِينَ وَالفُقَهَاءِ، فبسط مظاهر هذا الصراع، وتحدث عن أسبابه، التي كان من أهمها اختلاف التكوين الثقافي، واعتزاز كل طائفة بنفسها اعتزازًا يصل إلى حد الغرور، وانتساب عناصر سيئة إلى هذه الطوائف الثلاث أساءت إليها، ثم استخلصنا نتائج هذا الصراع وكان أهمها نتيجتين: أولهما: التأليف في علوم الحديث، حيث أثبت البحث أن ما كتبه الرامهرمزي والخطيب البغدادي في ذلك كان صادرًا عن هذا الصراع.
أما النتيجة الثانية فكانت ظهور المذهب الفقهي لأهل الحديث وهو ما عنى به الفصل الثالث، حيث أوضح الفرق بين الفقهاء وغير الفقهاء من أهل الحديث، وشرح العوامل التي أدت إلى ظهور فقه أهل الحديث والتي كان من أهمها محنة ابن حنبل، موثقًا ما أدى إليه البحث خاصًا بهذه النتيجة بأقوال العلماء وسلوكهم في حكاية أقوال المذاهب، وعدهم مذهب أهل الحديث مذهبًا مستقلاً مغايرًا للمذاهب المعاصرة له في القرن الثالث الهجري.
وَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَّا من هم المعنيون بأهل الحديث، وأثبتنا وجود مذهب فقهي لهم - كان علينا أن نبحث عن فقههم، وأن نجيب عن التساؤلات حول ملامح هذا الفقه، وأصوله، وعلاقته [بغيره] من المذاهب.
وقد حاول الفصل الرابع أن يجيب عن هذه التساؤلات، ممهدًا لذلك بفصل درسنا فيه بعض الصحابة المكثرين من رواية الحديث، وأوضحنا اتجاهاتهم في الفقه، واخترنا أربعة منهم، قسمناهم إلى مجموعتين: تتكون المجموعة الأولى من السيدة عائشة وابن عباس، وتتكون الثانية من ابن
عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وهذا التقسيم مبني على ما أسفرت عنه الموازنة بين المجموعتين، وكان من أهم الخواص التي ميزت المجموعة الأولى، أصالة الملكة الفقهية، وكثرة الفتوى، والميل إلى التعليل، ونقد الحديث، على عكس ابن عمر وأبي هريرة في كل ذلك.
ويجب التنبه إلى أن التعليل ونقد الحديث كانا سمة غالبة على اتجاههم، ولكنهما لَمْ يُكَوِّنَا مَنْهَجًا مُلْتَزِمًا مُطَّرِدًا فِي كُلِّ المَسَائِلِ فقد رأينا ابن عباس يميل إلى الظاهر في بعض الأحيان، كما رأينا ابن عمر يتجاوز حدود اللفظ إلى ما رواه من معان ومقاصد للتشريع، وقد أكثرت من الأمثلة لتوضيح الفكرة وتوثيقها.
ثم عدنا إلى أهل الحديث في القرن الثالث نتلمس اتجاهاتهم في الفقه، ونتبين مدى تأثرهم برواة الحديث من الصحابة ونكشف السمات العامة التي تحكمهم عند الاستنباط، فأجملناها في ثلاثة اتجاهات رئيسية تطوي في ثناياها كثيرًا من أصولهم ومناهجهم.
فكان الاتجاه إلى الآثار موضوع الباب الثاني
…
تحدثنا فيه عن معنى الآثار، وعن علاقة السنة بالقرآن، ورأينا أن جمهور المحدثين يتجهون إلى اعتبار السنة قاضية على الكتاب، أما أحمد بن حنبل فقد أبى أن يطلق على السنة ذلك واكتفى بقوله: إنها تبين القرآن وتفسره، وكذلك البخاري الذي اهتم بالقرآن في " صحيحه " اهتمامًا واضحًا.
ثم تحدثنا عن باقي علاقة السنة بالقرآن، سواء من حيث صلاحيتها لنسخه، أو تخصيصها لعمومه، أو من حيث ورودها بحكم زائد عليه، أو من حيث عرض الحديث على القرآن كوسيلة من وسائل نقد متنه. وقد ذكرنا رأي المحدثين في كل ذلك مع الموازنة بينهم وبين المذاهب الأخرى. كما تعرضنا
لاختلاف المناهج في الأخذ بأخبار الآحاد، وَهَدَتْنَا الموازنة إلى تقارب منهج المذهبين المالكي والحنفي، ووقوفهما في الطرف المقابل لمذهب المحدثين. ثم رأينا أن نوجز القول في المرسل وأقوال الصحابة والتابعين، لدخولهما في مفهوم الآثار.
وقبل أن نختم هذا الباب استخلصنا النتائج التي أسفر عنها الاتجاه إلى الآثار، والتي كان من أهمها توقف أهل الحديث عندما يسألون عما لا نص فيه، وكراهتهم للقياس والفقه التقديري، وكراهتهم تدوين الآراء الفقهية مجردة عن النصوص، وتأليفهم الصحاح والسنن، وقد شرحت مناهج المؤلفين فيها ووازنت بينهم في إثبات اختباراتهم في الفقه، وتفاوت وضوح هذه الاختبارات.
أما الباب الثالث فكان موضوعه اتجاه المحدثين إلى الظاهر، وبعد أن ذكرت عديدًا من الأمثلة على هذا الاتجاه، تعرضت لمذهب أهل الظاهر باعتباره أهم نتيجة له، موضحًا العلاقة التي تربط المحدثين به، مبرزًا مظاهر الاتفاق والاختلاف بين مذهب المحدثين ومذهب أهل الظاهر، معرفًا بأصول الظاهرية، وموقفهم من المذاهب الأخرى، ثم ختمت هذا الفصل بنقد للمذهب الظاهري.
وكان (الاتجاه الخلقي الديني) موضوع الباب الرابع، حيث أثبت فيه أن فقه المحدثين ليس فقهًا شكليًا يقصر اهتمامه على الألفاظ والصور، ولكنه يضيف إلى ذلك اهتمامه بالبواعث النفسية والمقاصد الدينية، ومدى الملاءمة بين عاقبة الفعل ومقاصد الدين. وقد أوضحت الموازنة بين مذهب المحدثين والمذاهب الأخرى في هذا الاتجاه أن المذهبين الحنفي والشافعي يقفان في الطرف المقابل لمذهب المحدثين.
وقد درسنا تأثير هذا الاتجاه على سلوك المحدثين عند الاستنباط حيث كانوا ورعين وجلين، وعلى نظرتهم لموضوعات الفقه حيث أدخلوا فيها
أبواب العقائد والزهد والأخلاق وغيرها، وعلى اهتمامهم بالنيات والمقاصد ومآلات الأفعال، سواء في الألفاظ أو في العقود. ثم أشرنا إلى الاتجاه العقلي عند الطحاوي.
أما الباب الخامس: فقد كان محاولة للتطبيق، وقد جمعت فيه جزئيات الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث، وحاولت رجع الخلاف فيها إلى ما سبق من اختلاف في الاتجاهات.
وقسمت هذا الباب إلى فصلين: ناقشت في الفصل الأول موضوعات الخلاف بين ابن أبي شيبة وأبي حنيفة، وهي خمس وعشرون ومائة مسألة، رتبتها حسب الأبواب الفقهية، وذكرت في كل مسألة رأي أبي حنيفة وغيره، مستعينًا بكتب الفقه الحنفي، والكتب التي عنيت بذكر اختلاف العلماء، معقبًا على معظم المسائل بذكر سبب الاختلاف فيها، ثم ختمت الفصل بعمل إحصائية حاولت فيها أن أكون حكمًا منصفًا، فقسمت موضوعات الخلاف إلى ما اختلف فيه بسبب اختلاف الحديث أو اختلاف الفهم والتأويل وهو الأغلب، وإلى مسائل أخطأ فيها أبو بكر بن أبي شيبة، ومسائل أخرى أخطأ فيها أبو حنيفة.
وفي الفصل الثاني من هذا الباب: ناقشت موضوعات الخلاف بين البخاري وأهل الرأي، ووازنت بين ابن أبي شيبة والبخاري في تصورهما للمسائل المنتقدة على أهل الرأي، وفي منهجهما في مناقشتهما، ثم تعرضت للمسائل التي أفردها البخاري بالتأليف، وشرحت منهجه وعرفت برأي الأحناف، ثم انتقلت إلى مناقشة المسائل التِي عَرَّضَ البخاري فيها بأهل الحديث في " صحيحه "، وبخاصة مسائل الحيل التي أوليناها اهتمامًا خاصًا، حيث شرحنا معناها، وذكرنا أقسامها وحكم كل قسم، وموقف العلماء
منها، ثم عرجنا على المسائل التي انتقدها البخاري في الحيل، فذكرنا وجهة نظر أهل الرأي فيها، وهل تعتبر من قبيل الحيل أولاً.
وبعد، فآمل أن أكون قد وفقت في إبراز فقه المحدثين، وفي الكشف عن مذهبهم الفقهي وبيان منهجهم فيه، وأن أكون بهذا البحث قد أسهمت في توضيح جانب من تراثنا الفقهي، ومهدت السبيل لمن يحب أن يسلكه، ويشهد معالمه.
ولئن كان في هذا العمل ما يمكن نسبته إلى الخطأ - ولا أخال عملاً آدميًا يسلم منه - فلي أمل أن يغفره لي ما بذلت من جهد، وما عاينته من نصب.
ولئن كان فيه ما يمكن نسبته إلى الصواب أو إلى الجدة، فذلك من توفيق الله سبحانه، الذي بنعمته تتم الصالحات، فله الحمد والشكر.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
• • •