الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما تنصب عنايتنا على بيان وجهة نظر أبي حنيفة في مخالفته، وهل كان معه ما يبرر هذه المخالفة، وما مدى الصواب أو الخطأ في هذا المبرر، ثم هل انفرد أبو حنيفة بمخالفة هذه الآثار التي انتقد من أجلها، أو شاركه في مخالفتها غيره من أئمة الفقه، الذين يقدرهم المحدثون ممن ليسوا موضعًا للتهمة؟
وعدد المسائل التي انتقدها أبو بكر بن أبي شيبة على أبي حنيفة:
- في الطهارة: 12 مسألة.
- وفي الصلاة: 34 مسألة.
- وفي الصيام: مسألتان.
- وفي الزكاة: 6 مسائل.
- وفي الحج: 8 مسائل.
- وفي النكاح والطلاق: 9 مسائل.
- وفي البيوع: 17 مسألة.
- وفي القضاء والقصاص والحدود: 17 مسألة.
- وفي الكراهية: 8 مسائل.
- في أبواب مختلفة: 12 مسألة.
• مجموعها = 125 مسألة.
ولنشرع الآن في بيان هذه المسائل، بادئين بمسائل الطهارة التي ادعى على أبي حنيفة أنه خالف فيها الآثار:
1 - طَهَارَةُ المَاءِ:
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَتَوَضَّأُ
مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ؟، - وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا الحِيَضُ وَلُحُومُ الكِلَابِ وَالنَّتْنُ - فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«المَاءُ طَهُورٌ، لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» .
كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (*) صلى الله عليه وسلم فِي جَفْنَةٍ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيَغْتَسِلَ فِيهَا أَوْ لِيَتَوَضَّأَ ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ جُنُبًا ، قَالَ:«إِنَّ المَاءَ لَا يُجْنِبُ» .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إِذَا كَانَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجَسًا» .
ثم قال ابن أبي شيبة: «وَذُكِرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: " يَنْجُسُ المَاءُ "» .
وهذا الذي ذكره ابن أبي شيبة يشير إلى قضيتين:
- أولاهما: حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة.
- والثانية: حكم الماء المستعمل. ويجمعهما في رأيه أن الماء لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، ولا باستعماله.
وبالنسبة للقضية الأولى، فقد اتفق العلماء على أن الماء الذي غيرت النجاسة أحد أوصافه: طعمه أو لونه أو ريحه لا يجوز الوضوء به ولا الطهور، كما اتفقوا على طهارة الماء الجاري الكثير إذا خالطته نجاسة لم تغير شيئًا من أوصافه. لكنهم اختلفوا في غير ماء البحار والأنهار إذا خالطته نجاسة لم تغير أحد أوصافه:
فقال قوم: هو طاهر، سواء كان كثيرًا أو قليلاً، وهي رواية عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وإليه مال البخاري، كما يفهم من ترجمته:(بَابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالمَاءِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: «لَا بَأْسَ بِالمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ»)(1). على الرغم من أنه لم ير صحة ما رواه ابن أبي شيبة في ذلك. كما ذهب النسائي أيضًا إلى ذلك، حيث ذكر
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 1/ 35.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها. انظر " تحفة الأحوذي "، للمباركفوري (ت 1353هـ)، أشرف على مراجعة أصوله وتصحيحه الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف، أبواب الطهارة، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، 1/ 201، نشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
قال المباركفوري: «وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ عَنِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ بِفَضْلِ غُسْلِهَا مِنَ الْجَنَابَةِ» . (المصدر السابق: نفس الجزء والصفحة).
حديث القلتين تحت عنوان: (بَابُ التَّوْقِيتِ فِي المَاءِ)، ثم أتبعه بباب (تَرْكُ التَّوْقِيتِ فِي المَاءِ)، روى فيه حَدِيثَ الأَعْرَابِيَّ الذِي بَالَ فِي المَسْجِدِ «فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِصَبِّ دَلْوٍ مِنَ المَاءِ عَلَى مَكَانِ البَوْلِ» . فأخذ النسائي من ذلك أن الماء لا ينجس وإن قَلَّ، لأن الدلو من الماء قليل، وقد صب على البول فاختلط به فلو تنجس الماء باختلاط البول يلزم أن يكون هذا تكثيرًا للنجاسة لا إزلة لها، فلزم أن الماء لا ينجس باختلاط النجس وإن قل (1).
وقد ذهب فريق آخر من العلماء إلى الفرق بين قليل الماء وكثيره إذا وقعت فيه نجاسة، فقالوا: إن كان قليلاً ينجس، وإن كان كثيرًا لا ينجس. ومن هؤلاء أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق. غير أنهم قد اختلفوا في حد الكثرة: فذهب غير أبي حنيفة إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من قلال هَجَرْ، أَخْذًا بالحديث المروي وذلك نحو خمس قرب. وذهب أبو حنيفة في ظاهر الرواية عنه: إلى أن حد الكثرة يعتبر فيه أكبر رأي المبتلى: إن غلب على ظنه أنه بحيث تصل النجاسة إلى الجانب الآخر لا يجوز الوضوء به، وإلا جاز. وعنه اعتبار الكثرة بالتحريك، أي إذا حرك أحد طرفي الماء إما بالاغتسال أو بالوضوء أو باليد - لم يتحرك طرفه الآخر. وقد رجح الأحناف الرواية الأولى عن أبي حنيفة لمناسبتها لأصله، من عدم التحكم بتقدير فيما لم يرد فيه تقدير، والتفويض فيه إلى رأي المبتلى (2).
ولكن ماذا يفعل أبو حنيفة في التقدير الشرعي الذي جاء في حديث القلتين؟. إن الأحناف قد ضعفوا هذا الحديث، ونقلوا تضعيفه عن علي بن المديني، وقد رجح ضعفه أيضًا ابن دقيق العيد الشافعي، ومن المالكية ضعفه ابن عبد البر وإسماعيل بن إسحاق القاضي وأبو بكر بن العربي (3).
(1) انظر " النسائي ". و" تعليق السندي عليه ": 1/ 46، 48، المكتبة التجارية.
(2)
و (3)" فتح القدير ": 1/ 53؛ وابن العربي في " شرحه على الترمذي ": 1/ 84. وانظر تفصيل الآراء في " المغني ": 1/ 23، 24؛ و" بداية المجتهد ": 1/ 18، 20.
أَمَّا «حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ» ، فقد ناقشه الطحاوي مُبَيِّنًا أنه لا حجة فيه: أما أولاً فلأن الواقدي قد قال: إن ماء هذه البئر كان جاريًا وكانت طريقًا للماء إلى البساتين، وأما ثانيًا - وهو الحجة العقلية - فلأنهم «قَدْ أَجْمَعُوا أَنَّ النَّجَاسَةَ إِذَا وَقَعَتْ فِي البِئْرِ فَغَلَبَتْ عَلَى طَعْمِ مَائِهَا أَوْ رِيحِهِ أَوْ لَوْنِهِ ، أَنَّ مَاءَهَا قَدْ فَسَدَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ بِئْرِ بُضَاعَةَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ يُلْقَى فِيهَا الكِلَابُ وَالمَحَائِضُ. فَقَالَ: " إِنَّ المَاءَ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ ". وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ بِئْرًا لَوْ سَقَطَ فِيهَا مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ مُحَالاً أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ رِيحُ مَائِهَا وَطَعْمُهُ ، هَذَا مِمَّا يُعْقَلُ وَيُعْلَمُ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَقَدْ أَبَاحَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَاءَهَا، وَأَجْمَعُوا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَقَدْ دَاخَلَ المَاءَ التَّغْيِيرُ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الجِهَاتِ اللَاّتِي ذَكَرْنَا - اسْتَحَالَ عِنْدَنَا، وَاللهُ أَعْلَمُ، أَنْ يَكُونَ سُؤَالُهُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَائِهَا وَجَوَابُهُ إِيَّاهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَا أَجَابَهُمْ - كَانَ وَالنَّجَاسَةُ فِي البِئْرِ. وَلَكِنَّهُ، وَاللهُ أَعْلَمُ، كَانَ بَعْدَ أَنْ أُخْرِجَتْ النَّجَاسَةُ مِنَ البِئْرِ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ: هَلْ تَطْهُرُ بِإِخْرَاجِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا فَلَا يَنْجُسُ مَاؤُهَا الذِي يَطْرَأُ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَذَلِكَ مَوْضِعٌ مُشْكِلٌ لأَنَّ حِيطَانَ البِئْرِ لَمْ تُغْسَلْ وَطِينُهَا لَمْ يُخْرَجْ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ المَاءَ لَا يَنْجُسُ ". يُرِيدُ بِذَلِكَ المَاءَ الذِي طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَ إِخْرَاجِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا لَا أَنَّ المَاءَ لَا يَنْجُسُ إِذَا خَالَطَتْهُ النَّجَاسَةُ» (1)، ثم أيد هذا المعنى بما رواه من أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«المُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» ، وَقَالَ:«الأَرْضُ لَا تَنْجُسُ» ، فلم يكن معنى ذلك أن المؤمن لا ينجس وإن أصابته النجاسة، ولا أن الأرض لا تنجس وإن أصابتها النجاسة، فقد أمر عليه السلام بصب ماء على موضع البول في المسجد.
(1)" شرح معاني الآثار "، للطحاوي: 1/ 6، 10. والنص المنقول هنا في ص 7.
أما بالنسبة للقضية الثانية، فهي حكم الماء المستعمل. (وهو ما أزيل به حدث، أو استعمل في البدن على وجه القربة).
وقد اختلفت الروايات عن أبي حنيفة في حكم الماء: فروى عنه أنه نجس نجاسة غليظة، وفي رواية أن نجاسته خفيفة، وفي ثالثة أنه طاهر غير مطهر، أي لا يصلح استعماله في طهارة الأحداث، والرواية الأخيرة هي التي عليها الفتوى (1).
وإذا كان الماء المستعمل طاهرًا على رأي الجمهور والراجح من مذهب الأحناف، فهل يجوز استعماله في الوضوء والغسل مرة أخرى؟.
هنالك ثلاثة آراء في ذلك:
- أولها: لا يجوز استعماله في الطهارة. وهذا رأي أبي حنيفة والشافعي.
- والثاني: كراهة استعماله مع وجود غيره، فإذا لم يوجد إلا هو وجب استعماله ولم يجز التيمم وهو مذهب مالك.
- والثالث: جواز استعماله بلا كراهة، إذ لا فرق بينه وبين الماء المطلق. وهو رأي أبي ثور، وأهل الظاهر، وإليه مال البخاري (2).
وما رواه ابن أبي شيبة مما سبق في حديث ابن عباس، يفيد لفظه طهارة الماء المستعمل وصلاحيته لإزالة الحدث، لأن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم اغتسلت في الجفنة، فلما أراد أن يتطهر بالماء المستعمل في الجفنة حذرته زوجته. فقال لها:«إِنَّ المَاءَ لَا يُجْنِبُ» .
وقد روى أبو داود هذه الرواية بهذا اللفظ لتدل على هذا المعنى تمامًا في (بَابُ المَاءِ لَا يُجْنِبُ)(3).
(1)" فتح القدير ": 1 / [53، 58].
(2)
" بداية المجتهد ": 1/ 529؛ و" البخاري ": 1/ 31.
(3)
" أبو داود ": 1/ 55.
ولكن الترمذي، مع روايته لهذا الحديث بهذا اللفظ، لم يفهم منه هذا المعنى، فلم يستدل به على جواز الماء المستعمل، بل فهم منه بقية الماء الذي استعملت المرأة بعضه في طهارتها، فاستدل به على جواز استعمال فضل طهورها، حيث ذكر أولاً (بَابٌ فِي كَرَاهِيَةِ فَضْلِ طَهُورِ المَرْأَةِ)، ثم أتبعه بقوله:(بَابُ الرُّخْصَةِ فِي ذَلِكَ) روى فيه حديث ابن عباس «إِنَّ المَاءَ لَا يُجْنِبُ» (1).
وكذلك فعل ابن ماجه، حيث رواه بهذا اللفظ في (بَابُ الرُّخْصَةِ بِفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَةِ)، ثم رأى نسخ ذلك، فأتبعه بقوله:(بَابُ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ)(2).
أما النسائي فقد روى هذا الحديث بلفظ يجعل الاستدلال به مقصورًا على ما استدل له الترمذي، وهو بقية الماء الذي استعملت المرأة بعضه، لا الماء المستعمل ولذلك لم يذكر لفظ (فِي جَفْنَةٍ)، بل روى بسنده عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اغْتَسَلَتْ مِنَ الجَنَابَةِ فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفَضْلِهَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّ المَاءَ لَا [يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ]» (3).
وبذلك يتبين أن أبا حنيفة لم يخالف الحديث في هذه المسألة، ولكنه رجح بعض الأحاديث المختلفة. ويلاحظ أن الذين يذهبون إلى أن الماء لا ينجسه شيء وهم أهل الظاهر والبخاري والنسائي ورواية عن مالك لا يأخذون بحديث القلتين، والذين يأخذون بحديث القلتين لا يأخذون
(1)" الترمذي ": 1/ 81، 83.
(2)
" ابن ماجه "، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: 1/ 137.
(3)
" النسائي ": 1/ 173.