الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5 - تَخْصِيصُ القُرْآنِ بِالسُنَّةِ:
والمقصود تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد، وهي من النقاط المختلف فيها، والتي تفرق بين المحدثين وأهل الرأي، بل جعلها الأستاذ أبو زهرة «فَيْصَلَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الفُقَهَاءِ الذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الرَّأْيُ، وَالفُقَهَاءِ الذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الأَثَرُ، فَإِنَّ الذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الرَّأْيُ لَا يَأْخُذُونَ بِأَخْبَارِ الآحَادِ فِي مَقَامِ تَعَرَّضَ لَهُ القُرْآنُ، وَلَوْ بِصِيغَةِ العُمُومِ، إِذْ يَجْعَلُونَ عُمُومَاتِ القُرْآنِ فِي عُمُومِهَا، وَلَا يَجْعَلُونَ خَبَرَ الآحَادِ فِي مَرْتَبَةِ تَخْصِيصِهَا، أَمَّا الفُقَهَاءُ الذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الأَثَرُ فَيُخَصِّصُونَ عَامَّ القُرْآنَ بِالخَبَرِ مُطْلَقًا» (1).
وتوضيح هذين الاتجاهين يستلزم إلمامة سريعة تتعرض فيها لتعريف العام، وكيف يخصص، ونبين الأساس الذي انبنى عليه كلاهما.
والعام - في أرجح الأقوال -: هو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين، على سبيل الاستغراق والشمول، سواء كانت دلالته على ذلك بلفظه ومعناه، بأن كان بصيغة الجمع: كالمسلمين والمسلمات، والرجال والنساء، أو كانت دلالته على ذلك بمعناه فقط، كالقوم ومن وما.
والخاص لفظ وضع للدلالة على فرد واحد أو أفراد محصورين.
والتخصيص: قصر العام على بعض أفراده (2).
وهذا الدليل المخصص قد يكون كلامًا مستقلاً (منفصلاً أو متصلاً)، وقد يكون كلامًا غير مستقل، وقد يكون أمرًا آخر غير الكلام: هو
(1)" ابن حنبل "، للأستاذ أبي زهرة: ص 215، 216.
(2)
انظر في هذه التعاريف " النسخ في القرآن الكريم "، للأستاذ الدكتور مصطفى زيد: 1/ 111، 113، وهناك رأيان آخران في تعريف العام: أحدهما أن صيغة العموم موضوعة لأقل الجمع والآخر [إنها] مشترك بين الاستغراق وأقل الجمع وما بينهما، غير أن دخول الجمع فيها ضروري لصدق الكلام (انظر: المصدر نفسه).
العقل، والحس الواقعي، والعادة والعرف، ونقص المعنى في بعض الأفراد وزيادته في بعض الأفراد (1).
والكلام غير المستقل - وهو الاستثناء المتصل، وبدل البعض، والصفة، والشرط والغاية - (2) لا يتعتبر ضمن المخصصات عند الأحناف، إذ تعتبر أنواعه أجزاء من الكلام متصلة به، فلا غنى لها عنه، ولا استقلال لها بدونه، وهم يشترطون في المخصصات الاستقلال عن العام، أي تمامها بنفسها (3).
والذي يهمنا هنا هو المخصص عندما يكون كلامًا مستقلاً منفصلاً، فإن اختلاف النظرة إليه وإلى حجية العام - هو الذي ترتب عليه اختلاف أهل الرأي مع المحدثين في مسألتنا التي نحن بصدد الحديث عنها الآن، وهي تخصيص عام القرآن بخبر الآحاد.
أما بالنسبة لحجة العام، فقد ذهب جمهور الحنفية إلى أن دلالة العام على كل أفراده قطعية، ما لم يدل دليل على خروج بعضها منه، لأنه موضوع للدلالة على أفراده على سبيل الشمول والاستغراق، واحتمال خروج بعض أفراده منه دون دليل - لا يؤبه له، وإلا ضاعت الثقة باللغة.
ولكن هل معنى ذلك أنه إذا قام الدليل على خروج بعض أفراد العام منه، يكون الباقي حجة ظنية عند الأحناف.
الواقع أن هذا ليس على إطلاقه، فإنما يكون الدليل القاصر مؤثرًا في حجية العام إذا أخرج منه قدرًا غير معين، ويتحقق هذا إذا كان القاصر كلامًا مستقلاً متصلاً.
(1) و (2) انظر الأمثلة على ذلك في المصدر السابق: 1/ 113، 114؛ و" أصول التشريع " لأستاذنا الشيخ علي حسب الله: ص 210، 212، الطبعة الثالثة بدار المعارف.
(3)
" النسخ في القرآن الكريم ": 1/ 114، 115.
فإذا كان كلامًا مستقلاً منفصلاً، اعتبروه نسخًا لا تخصيصًا، ولا أثر له فتبقى دلالته على الباقي بعده قطعية، وكذلك يكون الباقي قطعيًا إذا خرج منه شيء بكلام غير مستقل، لأن هذا ليس تخصيصًا عند الحنفية.
والتفريق في الكلام المستقل بين المتصل والمنفصل، واعتبار الأحناف الأول تخصيصًا، والثاني - وهو المنفصل - نسخًا، هذا التفريق مبني على قاعدة عندهم، مؤداها أن البيان يجب ألا يتأخر عن وقت الحاجة، فالشارع إذا أراد بالعام من أول الأمر بعض أفراده - قرنه بما يدل على مراده من المخصصات حتى لا يقع التجهيل الذي يتنزه الشارع الحكيم عنه، فإذا ورد العام من غير مخصص دل على أن الشارع يريد جميع أفراده ابتداء، فإذا جاء بعد ذلك نص يخرج من العام بعض ما كان داخلاً فيه - كان ناسخًا، لا مخصصًا. فالخارج من العام بالتخصيص لم يدخل فيه ابتداء، والخارج منه بالنسخ دخل فيه ابتداءً (1).
ولأن العام عند الأحناف حجة قطعية، اشترطوا أن يكون الخاص المخرج بعض أفراد العام قطعيًا مثله، سواءً أكان متصلاً أم منفصلاً، لأنه إذا كان متصلاً كان تخصيصًا، والقطعي لا يخصص إلا بمثله. وإذا كان منفصلاً كان نسخًا والقطعي لا ينسخه إلا قطعي مثله.
ومن هنا منعوا أن يخصص عام الكتاب بخبر الآحاد، لأن أخبار الآحاد ظنية فلا تصلح لتخصيص القطعي ولا لنسخه، إلا إذا خصص العام قبل ذلك بقطعي مثله، فإن دلالته على الباقي حينئذٍ تصبح ظنية، يمكن بأخبار الآحاد تخصيصها لتساويهما في الظنية: العام المخصص ظني الدلالة وخبر الآحاد ظني الثبوت.
(1) انظر " أصول التشريع "، للأستاذ علي حسب الله: ص 209 وما بعدها. الطبعة الثالثة.
أما جمهور الفقهاء - ومنهم المحدثون - فقد ذهبوا إلى أن دلالة العام على جميع أفراده دلالة ظنية، سواء قبل التخصيص أو بعده، لأن أكثر ما ورد من ألفاظ العموم أريد به بعض أفراده، وهذا يورث شبهة في شمول العام لكل أفراده، فتكون دلالته عليها ظنية. ولهذا يجب على المجتهد إذا عرض له لفظ عام - أن يطيل البحث والتحري، حتى لا يفوقه التخصيص مع وجود المخصص (1).
وما دام العام عند الجمهور حجة ظنية، فليس هناك ما يمنع من تخصيصه بأخبار الآحاد سواء منها المستقل المنفصل، والمستقل المتصل، لا كما فعل الحنفية من التفرقة بينهما، فهما عند الجمهور سواء في إفادة التخصيص، والتخصيص عند الجمهور من بيان التفسير، لا من بيان التبيدل الذي هو النسخ.
(1) المصدر نفسه؛ وانظر " المستصفى ": 2/ 114، 115؛ و" فواتح الرحموت ": 2/ 265، 245، 252.