الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفَصْلُ الثَّالِثُ (*): نَتَائِجُ الاِتِّجَاهِ إِلَى الآثَارِ:
أسفر هذا الاتجاه عن نتائج، نسجل أهمها فيما يأتي:
[أ] التَّوَقُّفُ فِيمَا لَا أَثَرَ فِيهِ:
رأينا فيما سبق أن غير المحدثين شاركوا المحدثين في الأخذ بالآثار، ولكن اتجاه المحدثين إلى الآثار كان يعني قصر الحجة عليها، وعدم اعتبار الرأي، ولهذا توسعوا في الأخذ بها.
وهذا الاتجاه يقتضي التوقف في المسائل التي لا أثر فيها، والإحالة إلى من جرؤ على الفتيا من معاصريهم أو ممن سبقهم.
ولهذا كثر في إجابتهم «لَا أَدْرِي» ، أو «لَا أَعْلَمُ» ، يتواصون بها وينقلونها عن السلف، فعن أبي الدرداء (**) قال:«قَوْلُ الرَّجُلِ فِيمَا لَا يَعْلَمُ: لَا أَعْلَمُ نِصْفُ العِلْمِ» (1) وعن ابن عباس: «إِذَا أَخْطَأَ العَالِمُ لَا أَدْرِي - أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ» (2)، وَسُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ:«لَا أَدْرِي» فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ قَالَ: " نِعِمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ فَقَالَ:«لَا عِلْمَ لِي بِهِ» (3).
وَسُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: «هِيَ زَبَّاءُ هَلْبَاءُ ذَاتُ وَبَرٍ وَلَا أُحْسِنُهَا وَلَوْ أُلْقِيَتْ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأَعْضَلَتْ بِهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي العُنُوقِ (
…
) وَلَسْنَا فِي النُّوقِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: قَدِ اسْتَحْيَيْنَا مِنْكَ مِمَّا رَأَيْنَا مِنْكَ، فَقَالَ: لَكِنَّ المَلَائِكَةَ المُقَرَّبِينَ لَمْ تَسْتَحِ حِينَ قَالَتْ:
(1) و (2)" جامع بيان العلم ": 2/ 54.
(3)
" جامع بيان العلم ": 2/ 52، وانظر القصة بالتفصيل في " إعلام الموقعين ": 2/ 291.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع خطأ (الفصل الرابع) والصواب (الفصل الثالث) قارن بـ (فهرس الموضوعات) صفحة 667، السطر 18 حيث جعله فصلاً ثالثًا. (وهو ما نص عليه المؤلف - حَفِظَهُ اللهُ تَعَالَى - في [تصحيح الأخطاء] في صفحة 663 من هذا الكتاب).
(**) في المطبوع من " جامع بيان العلم وفضله "(قَالَ أَبُو دَاوُدُ)، قال محقق الكتاب: «كذا في أ، ولعله الصواب، والظاهر أنه من قوله بعد الفراغ من ذكر آثار الباب في الكتاب المذكور تحت رقم (1580) باسم " حديث مالك " والله أعلم، وفي ط: أبو الدرداء.
انظر " جامع بيان العلم وفضله " لابن عبد البر، تحقيق أبي الأشبال الزهيري: 1/ 842، حديث رقم 1586، الطبعة الأولى: 1414 هـ - 1994 م، نشر دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.
(
…
) في " جامع بيان العلم ": (الغُوقِ)، انظر نفس المصدر، ص 832.
{لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32]» (1).
وسئل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء فقال: «لَمْ أَسْمَعْ فِي هَذَا بِشَيْءٍ» فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: إِنِّي أَرْضَى بِرَأْيِكَ ، فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ:«لَعَلِّي [أَنْ] أُخْبِرُكَ بِرَأْيِي ثُمَّ تَذْهَبُ، [فَأَرَى بَعْدَكَ] رَأْيًا غَيْرَهُ [فَلَا أَجِدُكَ]» (2).
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ، إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، قَالَ:«لَيْسَ عِنْدِي فِيهِ إِلَاّ رَأْيٌ أَتَّهِمُهُ» فَيُقَالُ لَهُ: قُلْ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ بِرَأْيِكَ فَيَقُولُ: «لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ رَأْيِي يَثْبُتُ لَقُلْتُ فِيهِ، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ أَرَى اليَوْمَ رَأْيًا وَأَرَى غَدًا غَيْرَهُ، فَأَحْتَاجُ أَنْ أَتْبَعَ النَّاسَ فِي دُورِهِمْ» (3).
وهذا الموقف نفسه يُرْوَى عن ابن شهاب الزهري، فقد سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ:«مَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا وَمَا نَزَلَ بِنَا» ، فقال السائل: إنه قد نزل لبعض إخوانك. قال: «مَا سَمِعْتُ فِيهِ بِشَيْءٍ وَمَا نَزَلَ بِنَا، وَمَا أَنَا بِقَائِلٍ فِيهِ شَيْئًا» (4).
هذا التوقف في المسائل التي لا أثر فيها، حتى وإن كانت هذه المسائل مما يعانيه الناس ويبتلون به، قد ورثه المحدثون عن السلف، فساروا على منوالهم، لا يفتون إلا عن علم، ويتحرجوا من الإفتاء بالرأي. والعلم في عرفهم هو العلم بالآثار (5).
(1)" جامع بيان العلم ": 2/ 51. يقال للداهية الصعبة: زباء ذات وبر: والزبب: كثرة الشعر، يعني أنها جمعت بين الشعر والوبر. والعُنُوقُ - بضمتين -: جمع عناق - بالفتح - هي الأنثى من المعز وهو مثل يضرب في الضيق بعد السمة (هامش المصدر نفسه).
(2)
و (3)" جامع بيان العلم ": 2/ 32.
(4)
" جامع بيان العلم ": 2/ 165.
(5)
بدليل أن عَطَاءَ سُئِلَ عَنْ الْمُسْتَحَاضَةِ، فَقَالَ:«تُصَلِّي وَتَصُومُ [وَتَقْرَأُ القُرْآنَ وَتَسْتَثْفِرُ بِثَوْبٍ ثُمَّ تَطُوفُ» فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى]: أَيَحِلُّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، [قَالَ سُلَيْمَانُ]: أَرَأْيٌ أَمْ عِلْمٌ؟ قَالَ: «[بَلَى] سَمِعْنَا أَنَّهَا إِذَا صَلَّتْ وَصَامَتْ حَلَّ لِزَوْجِهَا أَنْ يُصِيبَهَا» .
وَسَأَلَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَطَاءً، عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الحَجِّ، فَأَجَابَ، فَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:«أَرَأْيٌ أَمْ عِلْمٌ؟» ، قَالَ:«بَلْ عِلْمٌ» . (انظر " جامع بيان العلم ": 2/ 30، 31).
هذا أحمد بن حنبل - وهو الذي هيأت له الظروف أن يقصد للفتوى - يروي عنه الكثير من قول: «لَا أَدْرِي» . قَالَ أَبُو دَاوُد فِي " مَسَائِلِهِ ": «مَا أُحْصِي مَا سَمِعْتُ أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا فِيهِ الاخْتِلَافُ فِي العِلْمِ فَيَقُولُ: " لَا أَدْرِي "» . قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَا رَأَيْت مِثْلَ ابْنِ عُيَيْنَةَ فِي الفَتْوَى أَحْسَنَ فُتْيَا مِنْهُ، كَانَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: " لَا أَدْرِي "» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: «كُنْت أَسْمَعُ أَبِي كَثِيرًا يُسْأَلُ عَنْ المَسَائِلِ فَيَقُولُ:" لَا أَدْرِي " وَيَقِفُ إذَا كَانَتْ مَسْأَلَةٌ فِيهَا اخْتِلَافٌ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ: " سَلْ غَيْرِي "، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: مَنْ نَسْأَلُ؟ قَالَ: " سَلُوا العُلَمَاءَ "، وَلَا يَكَادُ يُسَمِّي رَجُلاً بِعَيْنِهِ» .
وقال لبعض أصحابه: «إيَّاكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ لَيْسَ لَكَ فِيهَا إمَامٌ» (1).
وقد ترجم البخاري بعض أبوابه بقوله: (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الوَحْيُ، فَيَقُولُ:«لَا أَدْرِي» ، أَوْ لَمْ
(1)" إعلام الموقعين ": 1/ 36.
(2)
" جامع بيان العلم وفضله ": 2/ 31.