الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يجعلون للإرادة والقصد تأثيرًا في الأحكام الناتجة عن أسباب شرعية (1).
ورأي الأحناف في إجازة الرجوع في الهبة، ليس معناه أنهم يجيزون استخدامه في التحيل على إسقاط الزكاة، ولكن أصحاب الحيل ممن لا يراقبون الله قد اتخذوه تكأة ووسيلة للتهرب من فرض الله، وقد رأينا أن الشافعي رحمه الله قد «أَبَاحَ بَيْعَ العَيِّنَةِ أَخْذًا بِظَاهِرِ العَقْدِ المُسْتَكْمِلِ لِلْشُّرُوطِ وَتَرْجِيحًا لِحُسْنِ الظَّنِّ بِالمُتَعَاقِدِينَ» . ولكننا لا نستطيع أن ننسب إليه إجازة التحيل على الربا المحرم باستخدام هذا العقد.
الحِيَلُ فِي إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ:
لم يؤثر عن أبي حنيفة رأي جواز الحيلة لتفويت الشفعة على الشفيع، ولكن المروي هو اختلاف أبي يوسف ومحمد في ذلك، «حَيْثُ أَجَازَهَا أَبُو يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَهَا الشَّفِيعُ، وَمَنَعَهَا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ» . (2).
وقد انتقد البخاري الأحناف في أربعة مواضع، تمثل أربع صور من صور الحيلة لإسقاط الشفعة، ولم يذكر في هذه المواضع إلا حديثين:
أَوَّلَهُمَا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:«إِنَّمَا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الحُدُودُ، وَصُرِّفَتِ الطُّرُقُ، فَلَا شُفْعَةَ» .
وَثَانِيهُمَا حديث: «الجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» . وَالصَّقَبُ: القُرْبُ. وقد كرر هذا الحديث الثاني ثلاث مرات، قبل اعتراضه وبعده.
يقول البخاري في الموضع الأول، منتقدًا أهل الرأي، ومبرزًا تناقضهم بعد أن روى حديث جابر السابق:
(1) انظر " فتح الباري ": 12/ 304؛ و" شرح ابن العربي على الترمذي ": 6/ 31، 33؛ و" الهداية ": 3/ 166، 167.
(2)
انظر " المبسوط " للسرخسي: 30/ 239، 240؛ و" أبو حنيفة " للأستاذ محمد أبي زهرة: ص 431، 432؛ و" فتح الباري ": 12/ 305، وَالشُّفْعَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَّفْعِ، وَهُوَ لِلْضَّمِّ، سُمِّيَتْ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ضَمِّ العَيْنِ المُشْتَرَاةِ إِلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ.
وَقَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ المَدِينَةِ وَجُمْلَةُ أَهْلِ الحَدِيثِ إِلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لَا تَجِبُ إِلَّا لِلْشَّرِيكِ الذِي لَمْ يُقَاسِمْ. أَمَّا أَهْلُ العِرَاقِ - وَمِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ المُبَارَكِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ - فَقَدْ أَوْجَبُوا الشُّفْعَةَ لِلْشَّرِيكِ الذِي لَمْ يُقَاسِمْ، ثُمَّ لِلْشَّرِيكِ المُقَاسِمِ إِذَا بَقِيَتْ فِي الطُّرُقِ أَوْ فِي الصَّحْنِ شَرِكَةٌ، ثُمَّ الجَارُ المُلَاصِقُ، يُقَدَّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَذَا التَّرْتِيبِ (1).
وانتقاد البخاري لأهل الرأي ليس لأنهم قد أوجبوا الشفعة للجار، ولكن لأنهم بعد أن أوجبوها له تحيلوا لإسقاطها، لأن المشتري إذا اشترى سهمًا شائعًا من مائة سهم أصبح شريكًا للمالك، وأصبحت له الأولوية في شراء باقي المائة، في الوقت الذي لن يطالب فيه أحد بالشفعة في السهم الواحد، لحقارته وقلة الانتفاع به.
والمعروف أن هذه الحيلة لأبي يوسف. أما محمد بن الحسن فكرهها أشد الكراهية، لأن الشفعة شرعت لدفع الضرر عن الشفيع، فالذي يحتال لإسقاطها بمنزلة القاصد إلى الإضرار بالغير.
أما الموضعان الثاني والثالث من مواضع الحيل في الشفعة، فقد ذكر البخاري فيهما صورتين استخدمت الهبة فيهما لإسقاط الشفعة، وذلك حيث يقول في الموضع الثاني: وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: «[إِذَا] أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ
(1) انظر " شرح معاني الآثار ": 2/ 265، 269؛ و" شرح ابن العربي على الترمذي ": 6/ 128، 133؛ و" بداية المجتهد ": 2/ 214، 215؛ و" الهداية ": 4/ 18 وما بعدها.
الشُّفْعَةَ فَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ حَتَّى يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، فَيَهَبَ البَائِعُ لِلْمُشْتَرِي الدَّارَ وَيَحُدُّهَا، وَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ، وَيُعَوِّضُهُ المُشْتَرِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ» وذلك لأن الإمام مالك وأهل الرأي قد ذهبوا إلى أن للواهب أن يطلب ثواب هبته، فإذا أخذ العوض ولم يكن مشروطًا في عقد الهبة، سقطت الشفعة لأنها تجب بالبيع، والهبة ليست معاوضة محضة، فأشبهت الإرث.
ومن صور استخدام الهبة في التحيل على إسقاط الشفعة ما ذكره البخاري في الموضع الثالث حيث قال: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: " إِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ دَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُبْطِلَ الشُّفْعَةَ، وَهَبَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ "» ، لأن الهبة لو كانت لأجنبي كان للشفيع أن يحلفه أن الهبة [حقيقية]، وليست صورية، وأنها جرت بشروطها، ولكنه إذا وهب لابنه الصغير استفاد أمرين: أن الصغير ليس عليه يمين، وأن العين لم تنتقل من يده حيث يقبلها الوالد لولده عن نفسه.
الثمن الحقيقي الذي أراد البائع أن يبيع به هو عشرة آلاف درهم،