الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«اقْضُوا اللَّهَ الذِي لَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالوَفَاءِ» (1).
وكذلك عقد ابن ماجه بابًا خاصًا للقياس، ترجمه بقوله:(بَابُ اجْتِنَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ)(2)، روى فيه أربعة أحاديث، بعضها ضعيف الإسناد، ومخالف للمشهور، كحديثه عن معاذ بن جبل قال:«لَا تَقْضِيَنَّ وَلَا تَفْصِلَنَّ إِلَاّ بِمَا تَعْلَمُ، وإنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ، فَقِفْ حَتَّى تَبَيَّنَهُ أَوْ تَكْتُبَ إِلَيَّ فِيهِ» . فإن هذا الحديث فضلاً عن ضعف إسناده، مخالف للمشهور عن معاذ، عندما سأله الرسول:«كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟» ، فَأَجَابَهُ: بِأَنَّهُ يَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ»، وقد أقره النبي على ذلك.
وقد كان أحمد بن حنبل يحصر القياس في نطاق ضيق، لا يلجأ إليه إلا بعد اليأس من العثور على أثر ولو ضعيف. وقد نقل عنه أنه سأل الشافعي عن القياس، فقال:«إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَة» (3). كما نقل عنه إنكاره على مَنْ يَرُدُّونَ الأحاديث لمخالفتها القياس، ويقول:«إنَّمَا القِيَاسُ أَنْ تَقِيسَ عَلَى أَصْلٍ، فَأَمَّا أَنْ تَجِيءَ إلَى الأَصْلِ فَتَهْدِمَهُ، ثُمَّ تَقِيسَ، فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ تَقِيسُ؟!» (4).
[هـ] تَأْلِيفُ الجَوَامِعِ وَالسُّنَنِ:
وهذا التأليف يعتبر نتيجة بدهية للاتجاه إلى الآثار. والدوافع التي حملت المحدثين على التأليف يمكن رجعها إلى أمرين أساسيين:
(1)" البخاري بحاشية السندي ": 4/ 264؛ وقد روى النسائي في " سننه ": (8/ 227، 230) الحديث الثاني بطرق وألفاظ مختلفة، تحت عنوان (الحُكْمُ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ).
(2)
" سنن ابن ماجه بحاشية السندي ": 1 / (*).
(3)
" إعلام الموقعين ": 1/ 35.
(4)
" إعلام الموقعين ": 2/ 395، 396.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع لم يقع ذكر الصفحة، انظر 1/ 26، طبعة دار الجيل، بدون تاريخ (نفس صفحات دار الفكر، الطبعة الثانية).
- أولهما: حفظ هذه الآثار وصيانتها وجمعها في دواوين خاصة، ليسهل تناولها لمن يريد الرجوع إليها.
- ثانيهما: التعبير بها عن آرائهم في مسائل العقيدة والفقه وتضمينها الرد على مخالفيهم من الفقهاء والمتكلمين. وتعتبر الجوامع والسنن - من هذه الناحية - البديل عن التأليف المستقل للآراء الفقهية والكلامية (1).
غير أن المحدثين سلكوا في تصنيفهم لكتبهم مناهج مختلفة، يمكن وصفها والموازنة بينهم على أساس من النقاط الآتية:
1 -
الشروط.
2 -
المقدمات.
3 -
ترتيب الأبواب.
4 -
ذكر آرائهم الفقهية وآراء غيرهم.
5 -
مختلف الحديث.
أولاً - الشروط:
فقد اختلف المحدثون في الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يروى عنه وعلى أساسها تفاوتت هذه الكتب في الصحة، فكان أعلاها " صحيحي البخاري ومسلم "، ثم يأتي بعدهما باقي السنن في درجات متقاربة (2). والذي يهمنا هنا هو تأثير هذه الشروط على الآراء الفقهية للمحدثين، حيث نتج عن تفاوتهم في الشروط اختلافهم في بعض الأحكام الفقهية، فأثبت
(1) ذكر الدهلوي أن أول ما صنف أهل الحديث في علم الحديث، جعلوه مدونًا في أربعة فنون:
1 -
فن السنة أي الفقه، مثل " موطأ مالك " و" جامع سفيان ".
2 -
فن التفسير، مثل " كتاب ابن جريج ".
3 -
فن السيرة مثل " كتاب محمد بن إسحاق ".
4 -
فن الزهد والرقاق مثل " كتاب ابن المبارك ". وقد جمع البخاري هذه الفنون في كتابه (انظر " شرح تراجم البخاري ": ص 2). والواقع أن " الكتب الستة " قد اشتملت على هذه الأبواب .. وإن كانت " سنن النسائي " أكثرها تجردًا للأحكام الفقهية، فليس صحيحًا ما ذهب إليه الأستاذ علي [حسن عبد القادر] (*) في كتابه " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 249 ج 1) من أن السنن تترك فيها الأحاديث التاريخية والخلقية والاعتقادية وأن عنايتها بأحاديث الأحكام فقط هي ما يميزها عن الصحاح.
(2)
رتب الدهلوي كتب الحديث حسب الصحة والشهرة، كما رتبها ابن حزم ترتيبًا مغايرًا للدهلوي (انظر " أبو جعفر الطحاوي ": ص 317 وما بعدها).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) في الكتاب المطبوع كُتِبَ خَطَأً (الأستاذ علي عبد الرازق) والصواب (الدكتور علي حسن عبد القادر، أستاذ تاريخ التشريع الإسلامى، تحصل على العالمية في الفلسفة من ألمانيا، ومجاز من كلية أصول الدين فى قسم التاريخ، وعميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف سابقًا)، صاحب كتاب " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي "، الطبعة الثالثة 1965م، طبعة دار الكتب الحديثة - مصر.
بعضهم أحكامًا بأحاديث صحت لديهم، ولم يأخذ بهذه الأحكام آخرون منهم، لعدم تسليمهم بصحة الأحاديث التي قررتها.
وكمثال على ذلك الوضوء من أكل لحوم الإبل: أثبته معظم أصحاب الحديث وذهبوا إليه، ولم يذكره البخاري، ولم ير أن أكل مما مسته النار ينقض الوضوء، أعم من أن يكون لحم إبل أو غيره (1).
ثانيًا - المقدمات:
ونعني بها تصدير الكتاب بمقدمة للمؤلف يذكر فيها الهدف من تأليفه، ويشرح فيها منهجه وشروطه، ولم يهتم المحدثون - باستثناء الإمام مسلم - بذكر هذه المقدمات.
أما مسلم فقد افتتح " صحيحه " بمقدمة، بَيَّنَ فيها الغرض من تأليفه، ونص فيها على شرطه، ثم ناقش من اشترط شروطًا مستحدثة لم تؤثر عن السلف.
أما دافعه إلى التأليف فكان استجابة منه لمن سأله أن يجمع الأحاديث الصحاح في مكان واحد بلا تكرار، ليسهل تناولها «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ - يَرْحَمُكَ اللهُ بِتَوْفِيقِ خَالِقِكَ -، ذَكَرْتَ أَنَّكَ هَمَمْتَ بِالفَحْصِ عَنْ تَعَرُّفِ جُمْلَةِ الأَخْبَارِ المَأْثُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سُنَنِ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صُنُوفِ الأَشْيَاءِ بِالأَسَانِيدِ التِي بِهَا نُقِلَتْ، وَتَدَاوَلَهَا أَهْلُ العِلْمِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَرَدْتَ، أَرْشَدَكَ اللهُ أَنْ تُوَقَّفَ عَلَى جُمْلَتِهَا مُؤَلَّفَةً مُحْصَاةً، وَسَأَلْتَنِي أَنْ أُلَخِّصَهَا لَكَ فِي التَّأْلِيفِ بِلَا تَكْرَارٍ يَكْثُرُ، فَإِنَّ ذَلِكَ زَعَمْتَ مِمَّا يَشْغَلُكَ عَمَّا لَهُ قَصَدْتَ مِنَ التَّفَهُّمِ فِيهَا، وَالاسْتِنْبَاطِ مِنْهَا» .
(1) ذكر حديث الوضوء من لحوم الإبل كل من مسلم (" صحيح مسلم ": 1/ 187، 189. الطباعة العامرة سنة 1959 م)؛ و" الترمذي ": 1/ 112، 113 وذكر أن أحمد وإسحاق قالا به؛ و" أبا داود ": 1/ 85؛ و" ابن ماجه ": 9221.
ثم يذكر أن الذي نشطه على الاستجابة والتأليف هو ما رآه من سوء صنيع قوم في روايتهم للضعيف والمنكر ونشره بين العامة، الذين يتقبلون كل ما يلقى إليهم دون أن يكون عندهم القدرة على تمييز الغث من السمين: «فَلَوْلَا الذِي رَأَيْنَا مِنْ سُوءِ صَنِيعِ كَثِيرٍ مِمَّنْ نَصَبَ نَفْسَهُ مُحَدِّثًا، فِيمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْحِ الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ، وَالرِّوَايَاتِ المُنْكَرَةِ، وَتَرْكِهِمُ الاقْتِصَارَ عَلَى الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ المَشْهُورَةِ، مِمَّا نَقَلَهُ الثِّقَاتُ المَعْرُوفُونَ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ وَإِقْرَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّا يَقْذِفُونَ بِهِ إِلَى الأَغْبِيَاءِ مِنَ النَّاسِ [هُوَ] مُسْتَنْكَرٌ، وَمَنْقُولٌ عَنْ قَوْمٍ غَيْرِ مَرْضِيِّينَ
…
لِمَا سَهُلَ عَلَيْنَا الانْتِصَابُ لِمَا سَأَلْتَ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَالتَّحْصِيلِ، وَلَكِنْ مِنْ أَجْلِ مَا أَعْلَمْنَاكَ مِنْ نَشْرِ القَوْمِ الأَخْبَارِ المُنْكَرَةِ بِالأَسَانِيدِ الضِّعَافِ المَجْهُولَةِ، وَقَذْفِهِمْ بِهَا إِلَى العَوَامِّ الذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عُيُوبَهَا، خَفَّ عَلَى قُلُوبِنَا إِجَابَتُكَ [إِلَى مَا] سَأَلْتَ».
ثم ذكر شرطه في كتابه، فقسم الأحاديث تبعًا لرواتها إلى ثلاثة أقسام:
1 -
ما رواه أهل الاستقامة والإتقان.
2 -
ما رواه من دون الأولين في الحفظ والإتقان، وإن كان يشملهم اسم الستر والصدق وتعاطي العلم.
3 -
ما رواه المتهمون بالكذب عند أهل الحديث أو عند أكثرهم، وما رواه من يغلب على حديثه المنكر والغلط.
ثم ذكر أنه يأخذ القسم الأول، فإذا فرغ منه أخذ القسم الثاني، أما القسم الثالث، فلا يعرج عليه، بل ساق الأدلة الكثيرة على عدم جواز الرواية عنهم، وعلى وجوب التعريف بضعفهم وإشهار هذا الضعف «إِذْ الأَخْبَارُ فِي أَمْرِ الدِّينِ إِنَّمَا تَأْتِي بِتَحْلِيلٍ، أَوْ تَحْرِيمٍ، أَوْ أَمْرٍ، أَوْ نَهْيٍ، أَوْ تَرْغِيبٍ، أَوْ تَرْهِيبٍ، فَإِذَا كَانَ الرَّاوِي لَهَا لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَنْ قَدْ عَرَفَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ جَهِلَ مَعْرِفَتَهُ كَانَ آثِمًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، غَاشًّا لِعَوَامِّ المُسْلِمِينَ» .
ثم يبين أن من يروي الأخبار الضعيفة بعد معرفة ضعفها، إنما حمله على ذلك حرصه على أن يقال عنه ما أكثر ما جمع فلان «وَمَنْ ذَهَبَ فِي العِلْمِ هَذَا المَذْهَبَ، وَسَلَكَ هَذَا الطَّرِيقَ فَلَا نَصِيبَ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ بِأَنْ يُسَمَّى جَاهِلاً أَوْلَى مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى عِلْمٍ» .
وفي نهاية مقدمته يهاجم هجومًا شديدًا ما اشترطه بعض العلماء - ومنهم البخاري - من عدم قبول حديث المتعاصرين إذا لم يصرح بالسماع، ما لم يثبت لقاؤهما والسماع منه ولو مرة، وبين أن هذا الشرط شرط مستحدث لا دليل عليه، ثم ساق أدلته في إبطاله.
ولم ينس مسلم أن ينص على التزامه بعد التكرار، إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن تكرار حديث، لما فيه من زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك، «فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ الحَدِيثِ الذِي فِيهِ مَا وَصَفْنَا مِنَ الزِّيَادَةِ، أَوْ أَنْ يُفَصَّلَ ذَلِكَ المَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ الحَدِيثِ عَلَى اخْتِصَارِهِ إِذَا أَمْكَنَ، وَلَكِنْ تَفْصِيلُهُ رُبَّمَا عَسُرَ مِنْ جُمْلَتِهِ، فَإِعَادَتُهُ بِهَيْئَتِهِ إِذَا ضَاقَ ذَلِكَ أَسْلَمُ، فَأَمَّا مَا وَجَدْنَا بُدًّا مِنْ إِعَادَتِهِ بِجُمْلَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنَّا إِلَيْهِ، فَلَا نَتَوَلَّى فِعْلَهُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى» .
وعلى الرغم من أن الإمام مسلمًا هو الذي تفرد من بين المحدثين بوضع مقدمة لكتابه، يشرح فيها منهجه، فإنه لم يكن الوحيد الذي أعلن عن منهجه.
فقد شرح الترمذي أيضًا خطته، وَبَيَّنَ مراجعه، وذكر شروطه، ولكنه اختار الخاتمة ليودع فيها ما أراده من ذلك.
وفي هذه الخاتمة ذكر الترمذي رأيه - على جهة الإجمال - في الأحاديث التي ضمنها " كتابه " فقال: «جَمِيعُ مَا فِي هَذَا الكِتَابِ مِنَ الحَدِيثِ فَهُوَ مَعْمُولٌ بِهِ، قَدْ أَخَذَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَا خَلَا حَدِيثَيْنِ، حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ
" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ بِالمَدِينَةِ، وَالمَغْرِبِ ، وَالعِشَاءِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ [وَلَا مَطَرٍ]، وَحَدِيثَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ " ، قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَّا عِلَّةَ الحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا» (1).
ثم بَيَّنَ مراجعه في آراء الفقهاء التي ذكرها في كتابه، فروى أسانيده فيها إلى سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه.
ويتضح من هذه الفقرة إعجاب الترمذي بالبخاري، وتأثره به، واستفادته منه، وهو ما يؤكده الاطلاع على كتابه.
ثم شرح الدافع فيما التزمه من ذكر الآراء الفقهية، وذكر علل الحديث فقال:«وَإِنَّمَا حَمَلَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي هَذَا الكِتَابِ مِنْ قَوْلِ الفُقَهَاءِ، وَعِلَلِ الحَدِيثِ لِأَنَّا سُئِلْنَا عَنْ هَذَا فَلَمْ نَفْعَلْهُ زَمَانًا، ثُمَّ فَعَلْنَاهُ لِمَا رَجَوْنَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ النَّاسِ» .
ثم رد على من يعيبون أهل الحديث بالكلام في الرجال، مبينًا أن هذا ليس من قبيل الغيبة، ولكنه من قبيل الحيطة والتثبت في أمر الدين.
ثم ذكر أقسام الرجال، ومن يؤخذ عنه، ومن يترك: فالمتهم بالكذب
(1) انظر " الترمذي ": 1/ 303، 304. 6/ 222، 224.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) انظر " شرح علل الترمذي "، لابن رجب الحنبلي (ت 795 هـ)، حققه وكمل فوائده بتعليقات حافلة الدكتور نور الدين عتر، 1/ 31، الطبعة الأولى: 1398 هـ - 1978 م، دار الملاح للطباعة والنشر.
أو المغفل الذي يكثر الخطأ في حديثه، «فَالذِي اخْتَارَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الحَدِيثِ مِنَ الأَئِمَّةِ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ» ، ولا يحتج بحديثه الذي انفرد به.
أما المختلف فهم الذين وثقهم بعض النقاد نظرًا إلى صدقهم، وَضَعَّفَهُمْ آخرون نظرًا إلى حفظهم «فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِحَدِيثٍ وَلَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ، لَمْ يُحْتَجَّ بِهِ» .
وقد رأى الترمذي أن الرواية بالمعنى جائزة لمن يستطيعها، وأن أهل العلم متفاضلون بالحفظ والإتقان والتثبت عند السامع.
ثم ذكر رأيه في بعض كيفيات التحمل، ومال إلى رأي من يسوي بين «حَدَّثَنَا» و «أَخْبَرَنَا» سواء قرأ الشيخ أو قُرِئَ عليه، كما ذهب إلى صحة (الإجازة) ونقل عن يحيى بن سعيد عدم الجواز.
وبعد أن ذكر طرفًا من اختلاف العلماء في التوثيق والتضعيف، يأتي إلى نهاية خاتمته، حيث يشرح بعض المصطلحات التي استعملها في كتابه، والتي قد تختلف فيها الأنظار، لجدتها، أو لتعدد مفهومها، مثل حديث حسن، وحديث غريب «وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الكِتَابِ (حَدِيثٌ حَسَنٌ) فَإِنَّمَا أَرَدْنَا بِهِ حُسْنَ إِسْنَادِهِ عِنْدَنَا، كُلُّ حَدِيث يُرْوَى لَا يَكُونُ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُتَّهَمُ بِالكَذِبِ، وَلَا يُكُونُ الحَدِيثُ شَاذًّا، وَيُرْوَى مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوَ ذَاكَ فَهُوَ عِنْدَنَا حَدِيثٌ حَسَنٌ» .
أما الغريب فهو أنواع وبينها بقوله: «وَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الكِتَابِ (حَدِيثٌ غَرِيبٌ) فَإِنَّ أَهْلَ الحَدِيثِ يَسْتَغْرِبُونَ الحَدِيثَ لِمَعَانٍ: رُبَّ حَدِيثٍ يَكُونُ غَرِيبًا لَا يُرْوى إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ مِثْلَ
…
وَرُبَّ حَدِيثٍ إِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ لِزِيَادَةٍ تَكُونُ فِي الحَدِيثِ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَى حِفْظِهِ، مِثْلَ
…
وَرُبَّ حَدِيثٍ يُرْوَى مِنْ أَوْجُهٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَغْرَبُ لِحَالِ الإِسْنَادِ مِثْلَ
…
» (1).
أما أبو داود فإن " رسالته إلى أهل مكة " قد وضحت منهجه وشروطه، على الرغم من أنه لم يذكر مقدمة ولا خاتمة لكتابه.
وفي هذه الرسالة يقول: «فَإِنَّكُمْ سَأَلْتُمُونِي أَنْ أَذْكُرَ لَكُمْ الأَحَادِيثَ التِي فِي كِتَابِ السُّنَنِ أَهِي أَصَحُّ مَا عَرِفْتُ فِي البَابِ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ كُلُّهُ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَقْوَمُ إِسْنادًا، وَالآخَرُ أَقْوَمُ فِي الحِفْظِ، فَرُبَّمَا كَتَبْتُ ذَلِكَ، وَلَا أَرَى فِي كِتَابِي مِنَ هَذَا عَشَرَةَ أَحَادِيثَ
…
».
وأما المراسيل فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى، مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي، حتى جاء الشافعي فتكلم فيها، وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره، فإذا لم يكن مسند غير المراسيل، فالمرسل يحتج به، وليس هو مثل المتصل في القوة.
«وَلَيْسَ فِي كِتَابِ " السُّنَنِ " الذِي صَنَّفْتُهُ عَنْ رَجُلٍ مَتْرُوكِ الحَدِيثِ شَيْءٌ، وَإِذَا كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بَيَّنْتُ أَنَّهُ مُنْكَرٌ، وَلَيْسَ عَلَى نَحْوِهِ فِي البَابِ غَيْرُهُ، وَمَا كَانَ فِي كِتَابِي مِنْ حَدِيثٍ فِيهِ وَهَنٌ شَدِيدٌ فَقَدْ بَيَّنْتُهُ وَمِنْهُ مَا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ، وَمَا لَمْ أَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا فَهُوَ صَالِحٌ، وَبَعْضُهَا أَصَحُّ مِنْ بَعْضٍ
…
» (2).
ونقل الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد، في مقدمة تحقيقه لـ " سنن
(1) انظر هذه الخاتمة في آخر " كتاب الترمذي بشرح ابن العربي ": 13/ 301، 339، مطبعة الصاوي سنة 1353 هـ - 1934 م.
(2)
انظر هذه الرسالة، في " توجيه النظر ": ص 152؛ و" شروط الأئمة الخمسة " للحازمي: ص 53، وقول أبي داود أنه لم يرو في كتابه عن متروك الحديث، أي متروك الحديث عنده، أو لمتروك متفق على تركه وإلا فإنه قد خَرَّجَ لمن قيل فيه: إنه متروك، ولمن قيل فيه: إنه متهم بالكذب (وانظر " شروط " الحازمي: ص 54).
أبي داود " عن أبي بكر محمد بن عبد العزيز قال: «سَمِعتُ أَبَا دَاوُدَ بْنَ الأَشْعَثِ بِالبَصْرَةِ وَسُئِلَ عَنْ " رِسَالَتِهِ " الَّتِي كَتَبَهَا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا جَوَابًا لَهُمْ، فَأَمْلَى عَلَيْنَا:
سَلَامٌ عَلَيْكُم فَإِنِّي أَحْمد إِلَيْكُمْ اللَّهَ الذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَسْأَلُهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم [كُلَّمَا ذُكِرَ]
أَمَّا بَعْدُ:
عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ
…
فَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ آلَافٍ وَالثَّمَانِمِائَةِ كُلُّهَا فِي الأَحْكَام، فَأَمَّا أَحَادِيثٌ كَثِيرَةٌ فِي الزُّهْدِ وَالفَضَائِلِ وَغَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ هَذَا لَمْ [أُخْرِجْهُ] وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ».
وعلى الرغم من قوله إن الأحاديث التي تضمنها كتابه خاص بالأحكام، فإنه ضمنه أبوابًا كثيرة في العقائد في " كتاب السنة " الذي رد فيه على المرجئة والجهمية والخوارج (4/ 276 - 338)، وكذلك كتاب الفتن والملاحم، ذكر فيه أمارات الساعة، بالإضافة إلى كتاب الأدب.
أما باقي كتب الصحاح والسنن، فليس لها مثل هذا البيان للمنهج الذي ستلتزمه.
ثالثًا - الترتيب:
سلك المحدثون طرقًا مختلفة في ترتيب كتبهم. ولا شك أن كلا منهم كان في ذهنه عند التأليف سبب مناسب صدر عنه في ترتيب كتابه، وداع مقنع في تقديم ما قدم وتأخير ما أخر. وحيث لم يعلن واحد منهم عن سر ترتيبه، فإن أية محاولة لاستكشاف هذا السر، أو استنباط السبب المستكن خلف هذا الترتيب سيكون اجتهادًا مثمرًا نتيجة ظنية، تحتمل الصواب والخطأ.
ويمكن تقسيم المحدثين إلى مجموعتين رئيسيتين، بالنسبة لما بدأوا به كتبهم من موضوعات:
المجموعة الأولى: ويمثلها النسائي، والترمذي، وأبو داود، وابن
أبي شيبة. وقد اتجهت هذه المجموعة إلى ذكر أحكام العبادات مباشرة، فبدأت بالطهارة، ثم الصلاة، ثم غيرها من العبادات، على خلاف بينهم في ترتيب العبادات بعد الصلاة.
وقد يقال في سبب هذا البدء عند هذه المجموعة: إن أول ما يطالب به الإنسان المسلم هو الصلاة، وهي لا تقبل إلا بشرط الطهارة.
أما المجموعة الثانية: وتتكون من البخاري، ومسلم، وابن ماجه، والدارمي. فقد اشتركت في أنها قدمت على أبواب الطهارة والعبادات أبوابًا أخرى، ثم اختلفت في موضوعات هذه الأبواب المقدمة على العبادات:
فالبخاري بدأ كتابه بباب بدء الوحي، ثم الإيمان، ثم العلم. وقد يكون ملحظ البخاري في ذلك أن أول ما يطالب به الإنسان هو الإيمان، وعن الإيمان تصدر بقية الأعمال، والإيمان أمر نفسي مستكن في القلب، لا يكفي في إثباته إعلانه باللسان، فيجب أن يتوفر فيه عنصر الإخلاص، لهذا بدأ البخاري كتابه بحديث:«إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وأول شيء يجب الإيمان به هو الوحي، لأن جميع متطلبات الإيمان مما سيذكره في " صحيحه " متوقف على كون مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا موحى إليه، فإذا استقر ذلك، وجب على الإنسان أن يتعلم الشرائع، حتى يكون متمثلاً لربه، متصفًا بالإيمان، وأول ما يجب أن يتعلمه حينئذٍ هو الطهارة ثم الصلاة، ثم تأتي بعد ذلك بقية الأحكام والفضائل.
وقد يكون بدؤه بالوحي إشارة منه إلى أن الحديث النبوي الذي هو موضوع كتابه من قبيل الوحي، فله من الطاعة والامتثال بالقرآن، حيث أن مصدرهما واحد، وهو الله سبحانه وتعالى (1).
(1) لسراج الدين عمر البلقيني (ت 805 هـ) كتاب سماه: " مناسبات تراجم البخاري " مخطوط، بدار الكتب المصرية تحت رقم (590 حديث تيمورية). ومن قوله فيه في ص =
وكذلك قدم مسلم أبواب الإيمان وأركان الإسلام، وبعض العقائد، كأحاديث الرؤية والشفاعة، قبل أن يأتي بأبواب الطهارة والعبادات.
أما ابن ماجه والدارمي، فمنهجهما متشابه، من حيث أنهما قدما على العبادات أبوابًا في اتباع السنة، وهي أشبه ما تكون بمقدمة تشرح سبب التأليف في الحديث، وتبين فضل الاشتغال به، وترد على أعداء أهل السنة والمحدثين، من المعتزلة وغيرهم.
فقد بدأ ابن ماجه كتابه بأبواب في اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم حديثه، والتغليظ على من عارضه، وعلى من تعمد الكذب فيه، ثم اتباع سنة الخلفاء الراشدين، واجتناب البدع والجدل، والرأي والقياس، ثم الإيمان والقدر، وفضائل الصحابة، وذكر الخوارج والجهمية والرد عليهم، بذكره طرفًا من أحاديث الصفات ورؤية الله في الآخرة، ثم ذكر أبوابًا في العلم، بدأها بفضل تعلم القرآن. وعقب ذلك شرع في ذكر الطهارة والعبادات.
وقد صنع الدارمي قريبًا من ذلك، وهو في الموضوعات التي سبقت أبواب العبادات. يروى الحديث وغيره من أقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم. بل يروي بعض ما في كتب النصارى وغيرهم: كقوله: «أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتُوَائِيُّ (*)، قَالَ: " قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ بَلَغَنِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عليه السلام: " تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا، وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمَلٍ "» (1).
وكما روى بسنده عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ لُقْمَانَ الحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ، لَا تَعَلَّمِ العِلْمَ لِتُبَاهِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِتُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ
…
» (2).
= 15 (ولما تمت المعاملات الثلاث: وهو معاملة الخالق، ومعاملة الخلق ومعاملة الخالق لإعلاء كلمته، وفيه نوع من الاكتساب - وهي الجهاد وما ذكر فيه
…
وكان هذا كله من الوحي المترجم عليه (بَابُ كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الوَحْيِ)، وكان للخلق مبدأ كما كان للوحي مبدأ فترجم بعد هذا كله (كِتَابُ بَدْءِ الخَلْقِ
…
).
(1)
و (2)" سنن الدارمي ": 103، 105، وانظر أيضًا 106.
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) ورد في الكتاب المطبوع ["الاتجاهات الفقهية "](وعن هشام صاحب الاستواء) وهو خطأ والصواب ما أثبته (الدَّسْتُوَائِيُّ).
قال الإمام الذهبي: هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ أَبُو بَكْرٍ بنُ سَنْبَرٍ البَصْرِيُّ، هُوَ الحَافِظُ، الحُجَّةُ، الإِمَامُ، الصَّادِقُ، أَبُو بَكْرٍ هِشَامُ بنُ أَبِي عَبْدِ اللهِ سَنْبَرٍ البَصْرِيُّ، الرَّبَعِيُّ مَوْلَاهُم. صَاحِبُ الثِّيَابِ الدَّسْتُوَائِيَّةِ، كَانَ يَتَّجِرُ فِي القِمَاشِ الَّذِي يُجْلَبُ مِنْ دَسْتُوَا. وَلِذَا قِيْلَ لَهُ: صَاحِبُ الدَّسْتُوَائِيِّ، وَدَسْتُوَا: بُلَيْدَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الأَهْوَازِ
…
انظر: " سير أعلام النبلاء " للذهبي، تحقيق الشيخ شُعَيْب الأرناؤوط: 7/ 149، الطبعة: الثالثة، 1405 هـ - 1985 م، نشر مؤسسة الرسالة.