الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[النَّبِيُّ] صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ
…
) (1).
وكقوله، (بَابُ تَأْوِيلِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ [يُوصِي] بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَيُذْكَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ» ، وَقَوْلِهِ عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]«فَأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الوَصِيَّةِ» ) (2). والبخاري يشير بهذا إلى أن تقديم الوصية على الدَّيْنَ في نسق الآية لا يفيد عليه في الواقع، بل يقضي الدَّيْنَ أولاً، ثم تنفذ الوصية. فإن بقي شيء فهو للورثة.
هذه بعض الملاحظات التي أمكن استنتاجها من منهج البخاري في ربطه بين القرآن والسنة في " صحيحه "، وهي تدل دلالة واضحة على أنه يرى أنهما متعاونان في إثبات الأحكام. ومن منهجه في ذلك يمكن القول بأنه كان أميل إلى رأي من يجعل الكتاب أصلاً لكل ما جاءت به السنة. وإذا لم تكن الملاحظات السابقة قاطعة بذلك، فإنها على الأقل تؤكد أن البخاري لم يندفع في تيار الذين قَدَّمُوا السُّنَّةَ عَلَى القُرْآنِ، ولا شك أن موقفه في ذلك موقف معتدل سليم، ومنهجه وسط قديم.
2 - عَرْضُ السُّنَّةِ عَلَى القُرْآنِ:
يراد بعرض السنة على القرآن أَلا يكتفى بالنظر إلى السند في الحكم على الحديث، بل يجب أن يضاف إليه النظر في متنه ومعناه، للتأكد من أنه لم يأت بما يخالف القرآن، فإن جاء الحديث بما يخالف القرآن، اعتبرت هذه المخالفة علة يضعف بها الحديث، وقرينة على خطأ ما في الرواية،
(1)" البخاري ": 2/ 48. والآية هي 283: البقرة.
(2)
" البخاري ": 2/ 78، 79، الآيتان هما 12، 58: النساء.
فالقرآن قاض على الحديث من حيث الصحة والضعف، حاكم على السنة من حيث الأخذ بها أو الترك، إذ هو الأصل الثابت المقطوع بثبوته.
وقد اختلف في الأخذ بهذا المبدأ في اعتبار صحة الحديث. وقد ذكر الأسنوي أن الشافعي ذهب إلى أنه لا يجب عرض خبر الواحد على الكتاب، وأن عيسى بن أبان رأى أن ذلك واجب (1).
وقد قسم بعض العلماء الحديث بالنسبة للقرآن ثلاثة أقسام: «حَدِيثٌ مُوَافِقٌ لِمَا فِي القُرْآنِ، فَالأَخْذُ بِهِ فَرْضٌ، وَحَدِيثٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي القُرْآنِ، فَهُوَ مُضَافٌ إِلَى مَا فِي القُرْآنِ، وَالأَخْذُ بِهِ فَرْضٌ، وَحَدِيثٌ مُخَالِفٌ لِمَا فِي القُرْآنِ فَهُوَ مُطَّرِحٌ» (2).
وإلى عرض السنة على الكتاب ذهب أبو يوسف، كما يفهم من مناقشته للأوزاعي في حكم الرجل يموت في دار الحرب أو يقتل، هل يضرب له بسهم في الغنيمة؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يضرب له بسهم، وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ:«أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِرَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ قُتِلَ بِخَيْبَرَ فَأَجْمَعَتْ أَئِمَّةُ الهُدَى عَلَى الإِسْهَامِ لِمَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ» .
وقد رد أبو يوسف على الأوزاعي ذلك، وكان مما قاله: «فَلَا نَعْلَمُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْهَمَ لأَحَدٍ مِنَ الغَنِيمَةِ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَلَا يَوْمَ حُنَيْنٍ وَلَا يَوْمَ خَيْبَرَ وَقَدْ قُتِلَ بِهَا رَهْطٌ مَعْرُوفُونَ فَمَا نَعْلَمُ أَنَّهُ أَسْهَمَ لأَحَدٍ مِنْهُم وَهَذَا مَا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ، فَعَلَيْكَ مِنَ الْحَدِيثِ بِمَا تَعْرِفُ العَامَّةُ وَإِيَّاكَ وَالشَّاذَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي كَرِيمَة عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دَعَا اليَهُودَ فَسَأَلَهُمْ فَحَدَّثُوهُ حَتَّى
(1) انظر " نهاية السول " للإسنوي؛ " شرح منهاج الوصول " للبيضاوي: 2/ 122 ط. بولاق سنة 1316 هـ؛ و" الموافقات " طبع مصر: 3/ 9.
(2)
انظر " الإحكام " لابن حزم: 2/ 81.
كَذَبُوا عَلَى عِيسَى عليه الصلاة والسلام فَصَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المِنْبَرَ فَخَطَبَ النَّاس فَقَالَ: " إِنَّ الْحَدِيثَ سَيَفْشُو عَنِّي فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُوَافِقُ الْقُرْآنَ فَهُوَ عَنِّي وَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي يُخَالِفُ الْقُرْآنَ فَلَيْسَ مِنِّي "» (1).
وقد تابع أبا يوسف في ذلك معظم الأحناف، فجعلوا عرض السنة على الكتاب من أسس نقد الحديث. فالسرخسي يقسم الانقطاع في الخبر إلى انقطاع في اللفظ - ويعني به المرسل -، وانقطاع في المعنى ثم يبين أن من الانقطاع في المعنى أن يكون الحديث مخالفًا لكتاب الله تعالى، فإنه حينئذٍ لا يكون مقبولاً ولا يكون حجة، عامًا كان ما تقرره الآية أو خاصًا، نَصًّا أَوْ ظَاهِرًا.
وقد استدل على ما ذهب إليه بالنقل والعقل. أما النقل، فقوله عليه الصلاة والسلام:«كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ» . وقد فسر السرخسي هذا الحديث بقوله: «وَالمُرَادُ كُلَّ شَرْطٍ هُوَ مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا أَنْ يَكُونَ المُرَادُ مَا لَا يُوجَدُ عَيْنُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ
…
». كما استدل أيضًا بما رواه من قوله عليه السلام: «تَكْثُرُ لَكُمْ الأَحَادِيثُ بَعْدِي، فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَمَا وَافَقَهُ فَاقْبِلُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مِنِّي، وَمَا خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ وَاعْلَمُوا أَنِّي مِنْهُ بَرِيءٌ» .
أما استدلاله العقلي فيتركز على الموازنه بين الكتاب والخبر من جهة الثبوت «لِأَنَّ الكِتَابَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَفِي اتِّصَالِ الخَبَرِ الوَاحِدِ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شُبْهَةٌ فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الأَخْذِ بِهِمَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُؤْخَذَ بِالمُتَيَقَّنِ وَيُتْرَكَ مَا فِيهِ شُبْهَةٌ وَالعَامَّ وَالخَاصَّ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ العَامَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ
(1)" الرد على الأوزاعي "، لأبي يوسف: ص 24، 25.
فِيمَا يتَنَاوَلُهُ قَطْعًا كَالخَّاصِّ وَكَذَلِكَ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ سَوَاءٌ لِأَّنَّ المَتْنَ مِنَ الكِتَابِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَمَتْنُ الحَدِيثِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَةٍ لاحْتِمَالِ النَّقْلِ بِالمَعْنَى. ثمَّ قَوَامُ المَعْنى بِالمَتْنِ فَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالتَّرْجِيحِ مِنْ حَيْثُ المَتْنِ أَوَّلاً إِلَى أَنْ يَجِيءَ إِلَى المَعْنَى وَلَا شَكَّ أَّنَّ الكِتَابَ يَتَرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ النَّقْلِ المُتَوَاتِرِ فِي المَتْنِ عَلَى خَبَرِ الوَاحِدِ فَكَانَتْ مُخَالفَةَ الخَبَرِ لِلْكِتَابِ دَلِيلاً ظَاهِرًا عَلَى الزَّيَافَةِ فِيهِ» (1). ثم ذكر السرخسي أن الأحناف بناءً على هذا الأصل رَدُّوا أحاديث مس الذكر، وحديث فاطمة بنت قيس، وخبر القضاء بالشاهد واليمين.
ثم يقول السرخسي مؤكدًا أهمية عرض الحديث على القرآن والسنة المشهورة، مُثْنِيًا على طريقة أئمة الأحناف في هذا الصدد:«فَفِي هذَيْن النَّوْعَيْنِ مِنَ الانْتِقَادِ لِلْحَدِيثِ عِلْمٌ كَثِيرٌ، وَصِيَانَةٌ لِلْدِّينِ بَلِيغَةٌ، فَإِنَّ أَصْلَ البِدَعِ وَالأَهْوَاءِ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ قَبْلِ تَرْكِ عَرْضَ أَخْبَارِ الآحَادِ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ المَشْهُورَةِ فَإِنَّ قَوْمًا جَعَلُوهَا أَصْلاً مَعَ الشُّبْهَة فِي اتِّصَالِهَا بِرَسُولِ اللَّهِ عليه السلام، وَمَعَ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمَ اليَقِين، ثُمَّ تَأَوَّلُوا عَلَيْهَا الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ فَجَعَلُوا التَّبَعَ مَتْبُوعًا، وَجَعَلُوا الأَسَاسَ مَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ بِهِ فَوَقَعُوا فِي الأَهْوَاءِ وَالبِدَعِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَنْكَرَ خَبَرَ الوَاحِدِ» إلى أن قال: «وَإِنَّمَا سَوَاءُ السَّبِيلِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا رحمهم الله مِنْ إِنْزَالِ كُلِّ حُجَّةٍ مَنْزِلَتَهَا فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ المَشْهُورَةَ أَصْلاً ثمَّ خَرَجُوا عَلَيْهِمَا مَا فِيهِ بَعْضَ الشُّبْهَةِ وَهُوَ المَرْوِيُّ بِطَرِيقِ الآحَادِ مِمَّا لَمْ يَشْتَهرْ فَمَا كَانَ مِنْهُ مُوَافِقًا لِلْمَشْهُورِ قَبِلُوهُ وَمَا لَمْ يَجِدُوا فِي الكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ المَشْهُورَةِ لَهُ ذِكْرًا قَبِلُوهُ أَيْضًا وَأَوْجَبُوا العَمَلَ بِهِ وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُمَا رَدُّوهُ» (2).
(1)" أصول السرخسي ": 1/ 364، 365.
(2)
" أصول السرخسي ": 1/ 367، 368.
وممن ذهب مذهب الأحناف في ذلك - مع اختلاف يسير - الإمام مالك، فقد قارب فقهاء العراق في عرضهم أخبار الآحاد على الكتاب، وقد استنبط المالكية من صنيع إمامهم أن مالكًا يقدم ظاهر القرآن على السنة إلا إذا عارض السنة أمر آخر، من قياس أو عمل أهل المدينة، وَرَدَّ لذلك بعض السنن (1).
وقد أيد الشاطبي مسلك الأحناف في عرض السنة على القرآن وذكر أن السلف الصالح كانوا يفعلونه، ثم قال بعد أن ذكر أمثلة لذلك:«وَفِي الشَّرِيعَةِ مِنْ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا، وَفِي اعْتِبَارِ السَّلَفِ لَهُ نَقْلٌ كَثِيرٌ. وَلَقَدِ اعْتَمَدَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لِصِحَّتِهِ فِي الاعْتِبَارِ» .
ثم ذكر بعض الأمثلة لأخذ مالك بهذا الأصل، وَرَدَّ بناء على القول به " حَدِيثَ غَسْلِ الإِنَاءِ مِنَ الكَلْبِ "، وَ" حَدِيثَ خِيَارِ المَجْلِسِ "، وَ" حَدِيثَ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " (2).
أما المحدثون وغيرهم ممن ذهب إلى أن الكتاب والسنة في مرتبة سواء، أو أن السنة قاضية على الكتاب - فإنهم لم يأخذوا بمبدأ عرض الحديث على القرآن، بل هاجموه بشدة، ومنعوا أن يكون هناك حديث صحيح مخالف للقرآن ويعبر ابن حزم عن رأيهم فيقول:«لَا سَبِيلَ إِلَى وُجُودِ خَبَرٍ صَحِيحٍ مُخَالِفٍ لِلْقُرْآنِ أَصْلاً، وَكُلُّ خَبَرٍ شَرِيعَةٍ فَهُوَ إِمَّا مُضَافٌ إِلَى مَا فِي القُرْآنِ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمُفَسِّرٌ لِجُمْلَتِهِ وَإِمَّا مُسْتَثْنَى مِنْهُ مُبَيِّنٌ لِجُمْلَتِهِ وَلَا سَبِيلَ إِلَى وَجْهٍ ثَالِثٍ» (3).
وقد صنف الإمام أحمد بن حنبل كتابًا في طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم رَدَّ فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة السنن، وقد ذكر
(1) انظر " ابن حنبل "، للأستاذ أبي زهرة: ص 216، 218.
(2)
انظر " الموافقات ": 3/ 7، 12، المطبعة السلفية بمصر.
(3)
" الإحكام " لابن حزم: 2/ 81.
وقد ذكر ابن القيم خطبة أحمد في هذا الكتاب (1).
وكما استدلت الفئة الأولى بحديث يفيد وجوب عرض السنة على القرآن، استدل المحدثون أيضًا بحديث يفيد عدم وجوب هذا العرض، فقد روى ابن ماجه عَنِ المِقْدَامِ بْنِ معْدِ يكَرِبَ الكِنْدِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يُحَدَّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ عز وجل، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ، أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ» .
ونقل السندي عن الخطابي أن في هذا الحديث تحذيرًا من مخالفة السنن التي ليس لها في القرآن ذكر، «عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الخَوَارِجُ وَالرَّوَافِضُ فَإِنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِظَاهِرِ القُرْآنِ وَتَرَكُوا التِي قَدْ ضُمِّنَتْ بَيَانَ الكِتَابِ فَتَحَيَّرُوا وَضَلُّوا. قَالَ: وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالحَدِيثِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى الكِتَابِ وَأَنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ حُجَّةً بِنَفْسِهِ» (2).
وروى ابن ماجه أيضًا عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ» (3).
أما الحديث الذي رواه من رأى وجوب عرض الحديث على القرآن،
(1) انظر " إعلام الموقعين ": 2/ 367، 370.
(2)
و (3)" سنن ابن ماجه بحاشية السندي ": 1/ 5؛ أبو داود: 4/ 279، 280؛ وقد رواه الترمذي في: 10/ 132، 133 وقال:«حَسَنٌ صَحِيحٌ» ، وكذلك روى ابن حزم حديث ابن أبي رافع في " الإحكام ": 2/ 82 وصححه.
فقد ضعفه المحدثون، بل حكموا عليه بالوضع، فنقل الخطابي عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ قَالَ:«هَذَا حَدِيثٌ وَضَعَهُ الزَّنَادِقَةُ» (1)، قَالَ فِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ:«الزَّنَادِقَةُ وَالخَوَارِجُ وَضَعُوا هَذَا الحَدِيثَ» . «وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الحَدِيثَ قَوْمٌ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ [قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَنَعْتَمِدُ عَلَى ذَلِكَ]، [قَالُوا]: فَلَمَّا عَرَضْنَاهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، [وَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ]، لأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ لَا نَقْبَلَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَاّ مَا وَافَقَ [كِتَابَ اللَّهِ]، بَلْ وَجَدْنَا كِتَابَ اللَّهِ يُطْلِقُ التَّأَسِّيَ [بِهِ]، وَالأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَيُحَذِّرُ مِنَ المُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ جُمْلَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ» (2).
وقد رأى المحدثون أن الاتجاه إلى عرض السنة على القرآن اتجاه خطير، يؤدي إلى القول بترك السنة أصلاً، والاقتصار على الكتاب. وهذا رأي [قَوْمٍ] لا خلاق لهم من الدين خارجين على إجماع المسلمين، وقد أشار الخطابي آنفًا إلى أن هذا هو رأي الخوارج والروافض، ويقرر ابن القيم رأي المحدثين في مناصرته لرأي الإمام أحمد، فيقول:«وَلَوْ سَاغَ رَدُّ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا فَهِمَهُ الرَّجُلُ مِنْ ظَاهِرِ الكِتَابِ لَرُدَّتْ بِذَلِكَ أَكْثَرُ السُّنَنِ، وَبَطَلَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِسُنَّةٍ صَحِيحَةٍ تُخَالِفُ مَذَاهِبَهُ وَنِحْلَتَهُ إلَاّ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِعُمُومِ آيَةٍ أَوْ إطْلَاقِهَا، وَيَقُولُ: هَذِهِ السُّنَّةُ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا الْعُمُومِ وَالإِطْلَاقِ فَلَا تُقْبَلُ» (3)(*).
ولعل الخوارج والروافض وغيرهما من الفرق التي عاصرت هذا الخلاف هي التي أدت إلى احتدامه، وحالت دون لقائهما حول معنى
(1)" سنن ابن ماجه بحاشية السندي ": 1/ 5.
(2)
انظر " الموافقات " للشاطبي: 4/ 9. وقد روى ابن حزم بعض طرق الحديث في " الإحكام ": 2/ 76 - 82 وَبَيَّنَ وجوه ضعفها: " مجمع الزوائد " 1/ 155، 169، 172.
(3)
" إعلام الموقعين "(*).
[تَعْلِيقُ مُعِدِّ الكِتَابِ لِلْمَكْتَبَةِ الشَّامِلَةِ / البَاحِثُ: تَوْفِيقْ بْنُ مُحَمَّدٍ القُرَيْشِي]:
(*) لم أجده في " إعلام الموقعين " لابن القيم، وإنما هو في كتابه " الطرق الحكمية ": انظر " الطرق الحكمية " لابن القيم، تحقيق نايف بن أحمد الحمد: 1/ 187، مطبوعات مجمع الفقه الإسلامي - جدة، نشر دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع.
قريب. بالإضافة إلى فقهاء أهل الرأي قد أدخلوا في مفهوم عرض الحديث على الكتاب ما عرف بمسألة الزيادة على النص - التي سنعرض لها في النقطة التالية - حين ردوا أحاديث لمجرد أنها أتت بأحكام زائدة على القرآن، وإلا فإن فكرة عرض الحديث على الكتاب فكرة سليمة لا غبار عليها. والقول بها ليس بدعة ولا حدثًا في الدين. فقد رأينا في فصل سابق أنها كانت موجودة في عصر الصحابة. استعملها من أكثر الرواية منهم ومن لم يكثر، ولكنهم في الواقع لم يستعملوها على أنها مبدأ ملتزم به، بل على أنها حكم عند التنازع، وأصل يرجع إليه عند الاختلاف أو الشك في صحة بعض الأحاديث.
وَلِذَا رَأَى السِّنْدِيُّ أن العرض المذموم هو الذي يقصد منه رد الحديث بمجرد أنه ذكر فيه ما ليس في الكتاب «وَإِلَاّ فَالعَرْضُ لِقَصْدِ الفَهْمِ وَالجَمْعِ وَالتَّثَبُّتِ لَازِمٌ» (1).
ومما يدل على أن الفكرة في حد ذاتها فكرة [سليمة] وأن الاختلاف فيها نشأ بسبب الظروف المحيطة بها والاختلاف في مفهومها - أن المحدثين أنفسهم لم يغفلوها بل راعوها، وجعلوها من أسس نقد الحديث، جعلوا مناقضة الحديث لصريح القرآن من علامات الوضع في المتن (3).
(1)" ابن ماجه بحاشية السندي ": 1/ 5.
(2)
" ابن حنبل ": ص 216.
(3)
انظر " السنة قبل التدوين ": ص 144؛ والإسنوي: 2/ 120، 122.