الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَعْنَى هَذَا الاِتِّجَاهِ:
ونبتغي من هذا الاتجاه أن نتلمس الجانب الخلقي والنفسي الذي صدر عنه فقه المحدثين، وأن توضح ملاحظتهم له عند حكمهم على الأفعال الإنسانية المختلفة، وكيف أن هذه الأحكام كانت تختلف باختلاف النية والباعث النفسي من جهة، وبمآلات الأفعال وصيرورتها من جهة أخرى، وكيف كانت تخضع لسلطان الدين والتقوى في كل الأحوال.
إن نظرة المحدثين للفقه، تمثل الاتجاه الديني، والتصور الإسلامي للحياة ووظيفتها، هذا الاتجاه الذي لا ينسى، وهو يقرر الضوابط للسلوك الإنساني في الحياة أن يعد الإنسان أولاً، وأن يثير في نفسه الدوافع التي تحثه على تقبل هذه الضوابط، والرغبة في تطبيق الأحكام التي يكلف بها، وأن يطلق قوى الخير الكامنة فيه، عن طريق الترغيب والترهيب، والتذكير الدائب بأن هذه الحياة التي نعيشها ليست كل شيء، ولن تكون خاتمة المطاف، بل هي لن تعدو أن تكون ميدانًا للعمل، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، ويؤكد هذا التصور الإسلامي أن حياة الإنسان ليست إلا فترة مرحلية، وأن الموت لا ينهي الإنسان، وإنما تنتهي به مرحلة من مراحل تطوره، لتبدأ بعده مرحلة أخيرة لها سماتها الخالدة.
ويبين الله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة المراحل التي يمر بها الإنسان منبهًا على أنها دليل على حتمية الحياة الآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1).
وقد أمضى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يزيد على عشر سنوات في إرساء هذه القواعد، وتثبيت هذه الدعائم، وصرف الله سبحانه القرآن فيها تصريفًا، حتى إذا ثبتت الدعائم واستقرت الأركان، نزلت الأحكام تترى، وهي توجب أو تحرم، فوجدت آذانًا مصغية، وقلوبًا واعية وأرضًا خصبة طيبة، قد أحسن إعدادها لتقبل التشريعات الإسلامية، فما كاد يلقي فيها البذر، حتى انشق عنها الزرع، ثم بادر الطرف استواؤه ونماؤه، فكان كما وصفهم لله تبارك وتعالى {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} (2).
وبهذا الإعداد الجديد يتم التناسق والألفة بين المجتمع، وما يراد منه وبه، ويوجد نوع من المصالحة بين التشريعات، والبيئة المهيأة المعدة لتلقيها، وإغفال هذا الإعداد الروحي، الذي يضيء القلب، ويهذب الوجدان، ويوثق الصلة بين العبد وخالقه، ويثير الأشواق إلى الله، ويوحي بالتنافس في رضاه - يؤدي إلى انفصال المجتمع الإسلامي عن تشريعاته، ويتسبب في إيجاد هوة عميقة تفصل بين واقع الناس، وما يلقى إليهم من أحكام، فيعمدون إلى تأويلها والتحايل على إخضاعها لواقعهم. وكلما اتسعت الفجوة اشتدت الجفوة، ووهن سلطان هذه الأحكام، واستخف الناس بها،
(1)[الحج: 5 - 7].
(2)
[الفتح: 29].
واستعلنوا بعصيانها، فيصبح الناس وعلاقاتهم وسلوكهم في جانب، وتقبع الأحكام والتشريعات في جانب قصي عنهم لا تأثير لها ولا حياة فيها.
إن من الخطأ أن نقرر للناس أحكام إلهية، دون أن يمهد لهم الطريق إلى معرفة الإله. وإن التناقض أن يعترف المؤلفون في الفقه الإسلامي بأن الله هو مصدر أحكامهم، وغاية جهده، ثم يهملوا توجيه المشاعر إليه تعالى، وإثارة الخوف من غضبه والأمل في رحمته، ودون أن يحركوا سائر الأحاسيس التي ترهف الوجدان، وتوقظ الضمير، مع أهمية ذلك ومراعاة التشريع الإسلامي، وانبنائه عليه.
ولذلك كان مفهوم الفقه عند السلف مفهومًا رحبًا، يتسع لمعرفة الأحكام العملية والدوافع الإلهية مَعًا، وقد نقلنا فيما سلف عبارات لهم في ذلك، ورأينا كيف أن الغزالي هاجم الفقه الذي يتجرد لمعرفة الأحكام العملية، دون أن يعنى بالجانب الإلهي في الإنسان، وهو الجانب الهام الذي ينير بصيرة الفقيه، ويلهمه عند استنباطه، ويعينه على أن يوائم بين سلوكه وبين الأحكام التي يستنبطها، إذ ليس من المستساغ أن يقرر الفقيه نظريات، ويصوغ مواد، ثم يكون سلوكه مجافيًا لهذه النظريات والمواد، فذلك دليل الضعف في الإيمان وفي العقل. وقد ذم الله سبحانه هذا الصنف من العلماء بقوله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (1).
وقد كان الشعبي رضي الله عنه: «إِنَّا لَسْنَا بِالفُقَهَاءِ، وَلَكِنَّا سَمِعْنَا الحَدِيثَ فَرَوَيْنَاهُ، الفَقِيهُ مَنْ إِذَا عَلِمَ عَمِلَ» (2).
(1)[البقرة: 44].
(2)
" تذكرة الحفاظ ": 1/ 79.