الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَمْ يَنْفَرِدْ الأَحْنَافُ بِإِجَازَةِ الحِيَلِ:
ولم ينفرد الأحناف من بين المذاهب الأخرى بالقول بالحيل، بل شاركهم القول بها الشافعية والمالكية والحنابلة وبخاصة بعد وفاة أئمة هذه المذاهب: فالشافعية قد أجازوا التحيل على إسقاط الشفعة، وقالوا بجواز التحيل على بيع المعدوم من الثمار، فَضْلاً عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ، وأجازوا مسألة العينة، وهي ملك أبواب الحيل. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْمَالِكِيَّةُ لَهُمْ مِنْ أُصُولِهِمْ مَا يَسُدُّ بَابَ الحِيَلِ سَدًّا مُحْكَمًا، «إِذْ عِنْدَهُمْ [أَنَّ] الشَّرْطَ الْمُتَقَدِّمَ كَالمُقَارَنِ، وَالشَّرْطَ العُرْفِيَّ كَاللَّفْظِيِّ، وَالقُصُودُ فِي العُقُودِ مُعْتَبَرَةٌ، وَالذَّرَائِعُ يَجِبُ سَدُّهَا -[فَجَوَّزُوا] التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ
…
وَكَذَلِكَ الحَنَابِلَةُ لَهُمْ كَثِيرٌ مِنَ الحِيَلِ» (1).
وَيَقُولُ ابْنُ القَيِّمِ: «[وَالْمُتَأَخِّرُونَ] أَحْدَثُوا حِيَلًا لَمْ يَصِحَّ القَوْلُ بِهَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَنَسَبُوهَا إلَى [الْأَئِمَّةِ]، وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِي نِسْبَتِهَا إلَيْهِمْ
…
وَأَكْثَرُ الْحِيَلِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ المُنْتَسِبُونَ إلَى [مَذْهَبِهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ]، تَلَقَّوْهَا عَنْ الْمَشْرِقِيِّينَ، وَأَدْخَلُوهَا فِي مَذْهَبِهِ، وَإِنْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُجْرِي العُقُودَ عَلَى ظَاهِرِهَا، [وَلَا يَنْظُرُ إلَى] قَصْدِ العَاقِدِ وَنِيَّتِهِ
…
[فَحَاشَاهُ ثُمَّ حَاشَاهُ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالكَذِبِ] وَالخِدَاعِ وَالمَكْرِ» (2).
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرَ «أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ تَعَاطِي الحِيَلِ فِي تَفْوِيتِ الحُقُوقِ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: " هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ مُحَقِّقِيهِمْ كَالْغَزَالِيِّ: " هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ وَيَأْثَمُ بِقَصْدِهِ "» (3).
والذي نخلص إليه أن الأحناف لم ينفردو بإجازة الحيل، وأن الحيل التي
(1) انظر " إعلام الموقعين ": 3/ 163، 167.
(2)
انظر: المرجع السابق: 3/ 218، 219.
(3)
انظر " فتح الباري ": 12/ 291.
يجيزونها مقيدة بما كان منها موصلاً إلى حق، أو دافعًا لظلم، فهي إذن من الحيل المباحة.
وقد ذكر ابن القيم من أمثلة الحيل المباحة سبعة عشر ومائة مثال (1).
ومن هذه الأمثلة ما نقله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ فِي " مَسَائِلِهِ ": «سَأَلْت أَبِي عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ أُجَامِعْك اليَوْمَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ اغْتَسَلْتُ مِنْكِ اليَوْمَ "، فَقَالَ: " يُصَلِّي العَصْرَ ثُمَّ يُجَامِعُهَا، فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ اغْتَسَلَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ " اغْتَسَلْتُ " - المُجَامَعَةَ "» .
ومن الأمثلة التي نقلها عن أبي حنيفة، «أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ:" نَزَلَ بِي اللُّصُوصُ؛ فَأَخَذُوا مَالِي وَاسْتَحْلَفُونِي بِالطَّلَاقِ أَلَّا أُخْبِرَ أَحَدًا بِهِمْ؛ فَخَرَجْتُ فَرَأَيْتُهُمْ يَبِيعُونَ مَتَاعِي فِي السُّوقِ جَهْرَةً "، فَقَالَ لَهُ:" اذْهَبْ إلَى الوَالِي فَقُلْ لَهُ يَجْمَعُ أَهْلَ المَحَلَّةِ [أَوْ السِّكَّةِ] الَّذِينَ هُمْ [فِيهِ، ثُمَّ يُحْضِرُهُمْ]، ثُمَّ يَسْأَلُك عَنْهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا؛ فَإِذَا سَأَلَك عَمَّنْ لَيْسَ مِنْهُمْ، فَقُلْ: " لَيْسَ مِنْهُمْ "، وَإِذَا سَأَلَك عَمَّنْ هُوَ مِنْهُمْ فَاسْكُتْ؛ فَفَعَلَ الرَّجُلُ، فَأَخَذَ الْوَالِي مَتَاعَهُ مِنْهُمْ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ».
قال ابن القيم: «وَهَذِهِ الحِيلَةُ فِي غَايَةِ اللُّطْفِ، فَإِنَّ المَرْأَةَ التِي دَخَلَ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا فِي عِدَّتِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُصَانُ مَاؤُهُ عَنْ مَائِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِالتِي طَلَّقَهَا فَالوَاحِدَةُ تُبِينُهَا، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ،
(1) انظر " إعلام الموقعين ": 3/ 254، 330.
فَلِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا» (1).
ولنا أن نتساءل: إذا كان أهل الرأي لم ينفردوا بإجازة الحيل، وإذا كانت الحيل التي أثرت عنهم مما لا حرج في استعماله فلم اختصوا وحدهم بالنقد؟ ولم شنع عليهم خصومهم بها؟
يبدو أن بعض المغرضين ممن انتسب إلى المذهب الحنفي قد صنف كتابًا في الحيل الهدامة، قلب فيه الحلال حرامًا، والحرام حلالاً. أو لعل مصنف هذا الكتاب قد وضعه بحسن نية، ليبين المخارج المختلفة، كنوع من أنواع الرياضة العقلية، دون أن يبيحها أو يدعو إلى الأخذ بها فقد قال ابن القيم:«وَالذِينَ ذَكَرُوا الحِيَلَ لَمْ يَقُولُوا إنَّهَا كُلَّهَا جَائِزَةٌ، وَإِنَّمَا أَخْبَرُوا أَنَّ كَذَا حِيلَةٌ وَطَرِيقٌ إلَى كَذَا. ثُمَّ قَدْ تَكُونُ الطَّرِيقُ مُحَرَّمَةً، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا» .
ويروي لنا ابن القيم بعض الحيل التي أثارت غضب العلماء، حتى رموا بالكفر مؤلفها أو من يفتي بها. فمن ذلك قولهم: «[الحِيلَةُ فِي فَسْخِ المَرْأَةِ النِّكَاحَ] أَنْ تَرْتَدَّ ثُمَّ تُسْلِمَ
…
وَالحِيلَةُ فِي سُقُوطِ الكَفَّارَةِ عَمَّنْ أَرَادَ الوَطْءَ فِي رَمَضَانَ أَنْ يَتَغَدَّى ثُمَّ يَطَأَ بَعْدَ الغَدَاءِ، وَالحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَتْ أَنْ تَفْسَخَ [نِكَاحَ زَوْجِهَا] أَنْ تُمَكِّنَ ابْنَهُ مِنْ الوُقُوعِ عَلَيْهَا».
فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم أن يفتي بها في دين الله تعالى. وقد كَفَّرَ الإمام أحمد وابن المبارك وغيرهما - من استحل الإفتاء بها، «حَتَّى قَالُوا: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِهَذِهِ الحِيَلِ فَقَدْ قَلَبَ الْإِسْلَامَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَنَقَضَ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً» لأن فيها الاحتيال على إسقاط فرائض الله وإسقاط حقوق المسلمين واستحلال ما حرم الله من الكفر وشهادة الزور والزنا والربا.
ويؤكد ابن القيم أن هذه الحيل وأمثالها لا يجوز نسبتها إلى أحد من
(1)" إعلام الموقعين ": 2/ 285، 286.