الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، سواءً كان المقصود أمرًا جائزًا أو محرمًا.
ثم استعملت فيما هو أخص من هذا، وهو التوصل إلى الغرض الممنوع شرعًا، وهذا هو الغالب عليها في عرف الفقهاء.
وكما يذم الناس أرباب هذا النوع الأخير من الحيل، يذمون أيضًا العاجز الذي لا حيلة عنده، لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه. فالأول ماكر مخادع، والثاني عاجز مفرط، والممدوح غيرهما، وهو من له خبرة بطرق الخير والشر، خفيها وظاهرها، فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرف طرق الشر الظاهرة والخفية التي يتوصل بها إلى خداعه والمكر به، فيحترز منها ولا يفعلها ولا يدل عليها.
وهذه كانت حال سادات الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أبر الناس قلوبًا، وأعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقى للهِ من أن يرتكبوا منها شيئًا أو يدخلوه في الدين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:«لَسْتُ بِخِبٍّ، وَلَا يَخْدَعُنِي الخِبُّ» . «وَكَانَ حُذَيْفَةُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالشَّرِّ وَالفِتَنِ، وَكَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الخَيْرِ وَكَانَ هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يَأْتِيهِ» ، إذ القلب السليم ليس هو الجاهل بالشر، بل الذي يعرفه ولا يريده -، «وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ سَمَّى الحَرْبَ خُدْعَةً» ، ولهذا كانت الحيلة بمعناها العام يمكن أن توصف بالأحكام الخمسة: الوجوب، والاستحباب والإباحة والكراهة والحرمة، باعتبار الوسيلة في الحيلة والغاية منها (1).
تَقْسِيمُ الشَّاطِبِيِّ:
وقد قسم الشاطبي (2) الحيل ثلاثة أقسام: القسم الأول، لا خلاف في بطلانه، كحيل المرائين والمنافقين، فالنطق بالشهادتين والصلاة وغيرهما
(1) انظر " إعلام الموقعين ": 3/ 191، 192؛ و" فتح الباري ": 12/ 289.
(2)
انظر " الموافقات "، طبع مصر: 2/ 268، 271.
من العبادات إنما شرعت للتقرب إلى الله، ومطابقة القلب للجوارح في الطاعة والانقياد، فإذا أريد بها نيل الحظ من الدنيا، من دفع مضرة أو جلب مصلحة، كالناطق بالشهادتين بقصد صيانة دمه وماله فقط، أو المصلي رئاء الناس ليحمد على ذلك أو ينال به حظًا في الدنيا - كانت هذه الأعمال مناقضة للمشروع، وإن وافقته في الظاهر. وقد أطال ابن القيم في بيان الحيل المحرمة وأنواعها وأوضح بطلانها وفسادها (1).
والقسم الثاني: لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر إكراهًا عليها، فإن نسبة التحيل بها في إحراز الدم بالقصد الأول من غير اعتقاد لمقتضاها - كنسبة التحيل بكلمة الإسلام في إحراز الدم بالقصد الأول كذلك. إلا أن هذا مأذون فيه، لكونه مصلحة دنيوية لا مفسدة فيها بإطلاق لا في الدنيا ولا في الآخرة. بخلاف الأول، فإنه غير مأذون فيه لكونه مفسدة أخروية بإطلاق، والمصالح والمفاسد الأخروية مقدمة في الاعتبار على المصالح والمفاسد الدنيوية باتفاق، إذ لا يصح اعتبار مصلحة دنيوية تخل بمصالح الآخرة، فمعلوم أن ما يخل بمصالح الآخرة غير موافق لمقصود الشارع فكان باطلاً.
أما القسم الثالث: فهو في محل الإشكال والغموض، وفيه اضطربت أنظار النظار، من جهة أنه لم يتبين فيه بدليل واضح قطعي لحاقه بالقسم الأول أو الثاني، ولم يتبين فيه للشارع مقصد يتفق على أنه مراد له، ولم يتبين أنه على خلاف المصلحة التي وضعت لها الشريعة بحسب المسألة المفروضة فيه. فصار هذا القسم من هذا الوجه متنازعًا فيه هل هو غير مخالف للمصلحة، فالتحيل جائز، أو هو مخالف لها فالتحيل ممنوع؟
(1) انظر " إعلام الموقعين ": 3/ 193، 252.