الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اضْطِرَابُ المُؤَرِّخِينَ فِي تَعْيِينِ أَهْلِ الرَّأْيِ وَأَهْلِ الحَدِيثِ:
وقد اضطرب المؤرخون في تحديدهم أهل الحديث وأهل الرأي، فاختلفوا في التقسيم، كما اختلفوا في التقويم، لاختلاف وجهاتهم في أسباب التقسيم من ناحية، ولنظرتهم إلى فترة زمنية معينة يُعَمَّمُونَ نَتَائِجَهَا على كل العصور السابق منها واللاحق من ناحية ثانية، وأحيانًا تتعدد وجهات النظر لدى الشخص الواحد، وتغمض عليه الفوارق، فيضطرب في تقويمه لشخص ما، يُرَدِّدُهُ بين أهل الحديث وأصحاب الرأي:
فابن قتيبة (ت 270 هـ) يَعُدُّ كل المجتهدين تقريبًا في أصحاب الرأي، ولم يذكر في المُحَدِّثِينَ إلا المشتغلين بالرواية ممن لا شهرة لهم في ميدان الفقه، ثم لم يَعُدَّ أحمد بن حنبل لا في جملة الفقهاء وَلَا فِي زُمْرَةِ المُحَدِّثِينَ، ولكنه يشير إليه في مقدمة كتابه " تأويل مختلف الحديث " فيذكره من بين العلماء المبرزين، والفقهاء المتقدمين، وَالعُبَّادِ المُجْتَهِدِينَ الذين لا يجارون ولا يبلغ شأوهم، وأمثال هؤلاء ممن قرب من زماننا، ثم يذكر من بين الأخيرين أحمد بن حنبل ولكنه يعود فيُخَصِّصَ في هذا الكتاب نفسه أهل الرأي بأبي حنيفة وأصحابه (1).
ويجيء المقدسي فيَعُدُّ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه من أصحاب الحديث، وَلَا يَعُدَّهُمَا من أهل المذاهب الفقهية الذين عَدَّ منهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية. وفي موضع آخر يعتبر المقدسي الشافعية أصحاب الحديث خلافًا للحنفية، ولكنه في موضع ثالث يعتبر أبا حنيفة والشافعي أهل رأي خلافًا لأحمد بن حنبل (2).
(1) انظر " المعارف ": ص 169، 171؛ و" تأويل مختلف الحديث ": ص 19، 20، 67، 69.
(2)
انظر " أحسن التقاسيم ": ص 37، 143، 179، 180.
ولكن الترمذي حرص على أن يذكر الشافعي من أصحاب الحديث في مواضع كثيرة من " جامعه ": كقوله في (بَابُ [مَا جَاءَ] فِي كَرَاهِيَةِ تَلَقِّي البُيُوعِ): «وَقَدْ كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ تَلَقِّي البُيُوعِ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الخَدِيعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا» (1).
أو قوله: «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِنَا» (2).
وقال في حديث المصراة: «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا [الحَدِيثِ] عِنْدَ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ: الشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ» (3).
أما الشهرستاني فيحصر المجتهدين في قسمين، ويجعل أصحاب الرأي عَلَمًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعِهِ، فيقول:«ثُمَّ المُجْتَهِدُونَ مِنْ أَئِمَّةِ الأُمَّةِ مَحْصُورُونَ فِي صِنْفَيْنِ لَا يَعْدُوَانِ إِلَى ثَالِثٍ: أَصْحَابُ الحَدِيثِ، وَأَهْلُ الرَّأْيِ. أَصْحَابُ الحَدِيثِ وَهُمْ أَهْلُ الحِجَازِ. هُمْ أَصْحَابُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَأَصْحَابُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسٍ الشَّافِعِيّ، وَأَصْحَابَ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَأَصْحَابُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلَ وَأَصْحَابُ دَاوُدَ بْنَ عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَصْفَهَانِيَّ. وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَهُمْ أَهْلُ العِرَاقِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ» (4).
ويلاحظ على هذا التقسيم أنه مبني على فترة زمنية معينة هي فترة قيام المذاهب، كما أنه راعى البيئة الإقليمية، بذكره أهل العراق مقابلاً لأهل
(1)" الترمذي بشرح ابن العربي ": 5/ 229.
(2)
المرجع السابق: 5/ 223.
(3)
نفسه: 5/ 257، 258.
(4)
" الملل والنحل ": 1/ 361، 368.
الحجاز مرادفًا لأهل الرأي، دون أن يلاحظ أن كثيرين ممن ذكرهم من أهل الحديث ليسوا من الحجاز، بل إن معظمهم من أهل العراق.
وقد جرى كثيرون من المؤرخين على هذا النسق من تقسيمهم للمجتهدين إلى أهل حديث وأهل رأي، كابن القيم الذي تبع الشهرستاني في تقسيمه، حيث قال في أثناء عرضه لموضوع اليمين مع الشاهد الواحد:«وَالذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ أَنَّ اليَمِينَ تُشْرَعُ مِنْ جِهَةِ أَقْوَى المُتَدَاعِيَيْنِ، فَأَيُّ الخَصْمَيْنِ تَرَجَّحَ جَانِبُهُ جُعِلَتْ اليَمِينُ مِنْ جِهَتِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ كَأَهْلِ المَدِينَةِ وَفُقَهَاءِ الحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمْ. وَأَمَّا أَهْلُ العِرَاقِ فَلَا يُحَلَّفُونَ إلَّا المُدَّعَى عَلَيْهِ وَحْدَهُ. فَلَا يَجْعَلُونَ اليَمِينَ إلَّا مِنْ جَانِبِهِ فَقَطْ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ..» (1).
وذكر البيهقي عن يحيى بن محمد العنبري قال: «طَبَقَاتُ أَصْحَابِ الحَدِيثِ خَمْسَةٌ: المَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالحَنْبَلِيَّةُ، وَالرَّاهَوِيَّةُ، وَالخُزَيْمِيَّةُ أَصْحَابُ ابْنِ خُزَيْمَةَ» (2) وقد يعني ابن القيم بـ (أَهْلِ الحَدِيثِ) أهل السُنَّةِ، فيذكرهم في مقابلة أصحاب البدع من الفرق الكلامية ولذا يُدْخِلُ فيهم أبا حنيفة وغيره، كقوله: «وَأَمَّا طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَئِمَّةِ الحَدِيثِ كَالشَّافِعِيِّ وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالبُخَارِيِّ وَإِسْحَاقَ
…
» (3).
ولكن فريقًا من المُؤَرِّخين ذهب إلى تقسيم ثلاثي لا ثنائي، فقسم المجتهدين إلى:
(1)" إعلام الموقعين ": 1/ 118.
(2)
" إعلام الموقعين ": 2/ 362.
(3)
" إعلام الموقعين " مع " حادي الأرواح ": 3/ 362.
أ - أهل الحديث وهم أهل الحجاز، وإمامهم مالك بن أنس.
ب - أهل الرأي.
ج - أهل الظاهر.
صنع ذلك ابن خلدون في " مقدمته "(1)، وصنع قريبًا منه الدهلوي (2) حيث قسمهم إلى أهل الرأي، وأهل الظاهر، وَبَيَّنَ هَذَيْنِ المُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُنَّةِ.
وإنما اختلفوا في التقسيم وفيمن ينضوي تحت هذا التقسيم نتيجة للقياس كل منهم في تحديده لأهل الحديث وأهل الرأي، فبعضهم يرى أن كل من قاس واستنبط فهو من أهل الرأي، وبذلك قسم العلماء إلى قسمين لا يعدوانهما إلى ثالث هما: أهل الرأي وأهل الظاهر (3)، وبعضهم يجعل التعامل مع السنة هُوَ المُحَدِّدُ لمكان العالم إما في أهل الحديث وإما في أصحاب الرأي: فمن يتمسّك بالسنة ويحرص على روايتها ويعتني بالقياس واستخراج العلل وفرض الفروض فهو من أهل الرأي. وبعضهم مقياسه التعامل مع السنة مضافًا إليه النظرة إلى القياس، مَا بَيْنَ مُسْرِفٍ فِيهِ، وَمُقتَصِدٍ، وَمُمْتَنِعٍ مِنْهُ، فجاء التقسيم إلى أهل حديث وأهل رأي وأهل ظاهر.
ثم جاء الدهلوي ورأى أن «التخريج» هو أهم الفروق بين أهل الحديث وأصحاب الرأي. وقد شرح «نظرية التخريج» هذه في كتابه " الإنصاف " و" حُجَّة الله البالغة " ويقرر الدهلوي هذه النظرية فيقول: «بَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ هُنَاكَ فِرْقَتَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَهْلُ الظَّاهِرِ وَأَهْلُ الرَّأْيِ
(1) ص 498. طبع مصر سنة 1327 هـ.
(2)
و (3) انظر " الإنصاف ": ص 73.
وَأَنَّ كُلَّ مَنْ قَاسَ وَاِسْتَنْبَطَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ. كَلَّا وَاللَّهِ، بَلْ لَيْسَ المُرَادُ بِالرَّأْيِ نَفْسُ الفَهِمِ وَالعَقْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَلَا الرَّأْيَ الذِي لَا يَعْتَمِدُ عَلَى سُنَّةٍ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَحِلُهُ مُسْلِمٌ البَتَّةَ، وَلَا القُدْرَةَ عَلَى الاِسْتِنْبَاطِ وَالقِيَاسَ فَإِنَّ أَحَمْدَ وَإِسْحَاقَ، بَلْ الشَّافِعِيَّ أَيْضًا لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ بِالْاِتِّفَاقِ، وَهُمْ يَسْتَنْبِطُونَ وَيَقِيسُونَ .. بَلْ المُرَادُ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ قَوْمٌ تَوَجَّهُوا بَعْدَ المَسَائِلِ المُجْمِعِ عَلَيْهَا بَيْنَ المُسْلِمِينَ أَوْ بَيْنَ جُمْهُورِهِمْ إِلَى التَّخْرِيجِ عَلَى أَصْلِ رَجُلٍ مِنَ المُتَقَدِّمِينَ فَكَانَ أَكْثَرُ أَمْرِهِمْ حَمْلُ النَّظَرِ عَلَى النَّظَرِ، وَالرَّدِّ إِلَى أَصْلٍ مِنَ الأُصُولِ، دُونَ تَتَبُّعِ الأَحَادِيثِ وَالآثَارِ، وَالظّاهِرِ لِمَنْ لَا يَقُولُ بِالقِيَاسِ وَلَا بِالآثَارِ كَدَاوُدَ وَاِبْنِ حَزْمٍ وَبَيْنَهُمَا المُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ، كَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ» (1).
وقد شرح نظرية التخريج هذه مُبَيِّنًا أنه كان في عصر مالك وسفيان ومن بعدهما قوم لا يكرهون المسائل ولا يهابون الفتيا، ولم يكن عندهم من الأحاديث والآثار ما يقدرون به على استنباط الفقه على الأصول التي اختارها أهل الحديث ولم تنشرح صدورهم للنظر في أقوال علماء البلدان وجمعها والبحث عنها، وكان عندهم من الفطانة والحدس وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم.
«فَمَهَّدُوا الفِقْهَ عَلَى قَاعِدَةِ التَّخْرِيجِ: وَذَلِكَ أَنْ يَحْفَظَ كُلُّ أَحَدٍ كِتَابَ مَنْ هُوَ لِسَانُ أَصْحَابِهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِأَقْوَالِ القَوْمِ، وَأَصَحَّهُمْ نَظَرًا فِي التَّرْجِيحِ فَيَتَأَمَّلُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَجْهَ الحُكْمِ، فَكُلَّمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ أَوْ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ رَأَى فِيمَا يَحْفَظُهُ مِنْ تَصْرِيحَاتِ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ وَجَدَ الجَوَابَ فِيهَا وَإِلَّا نَظَرَ إِلَى عُمُومِ
(1)" الإنصاف ": ص 73، وحكاية الاتفاق على عدم اعتبار الشافعي من أصحاب الرأي غَيْرَ مُسَلَّمٍ كما هو واضح مما سبق.
كَلَامِهِمْ فَأَجْرَاهُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، أَوْ إِشَارَةٍ ضِمْنِيَّةٍ لِكَلَامٍ فَاسْتَنْبَطَ مِنْهَا، وَرُبَّمَا كَانَ لِبَعْضِ الكَلَامِ إِيمَاءٌ أَوْ اِقْتِضَاءٌ يُفْهِمُ المَقْصُودَ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلْمَسْأَلَةِ المُصَرَّحِ بِهَا نَظِيرٌ يُحْمَلُ عَلَيْهَا. فَهَذَا التَّخْرِيجُ، وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ: المُجْتَهِدُونَ فِي المَذْهَبِ، وَعَنْ هَذَا الاِجْتِهَادِ عَلَى هَذَا الأَصْلِ مَنْ قَالَ: مَنْ حَفِظَ " المَبْسُوطَ " كَانَ مُجْتَهِدًا، أَيْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِرِوَايَةٍ أَصْلاً، وَلَا بِحَدِيثٍ وَاحِدٍ فَوَقَعَ التَّخْرِيجُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَكَثُرَ
…
» (1).
ومن هذا النص نتبين أن الدهلوي يُشَخِّصُ فترة زمنية معينة، ثُمَّ يُعَمِّمُ أعراضها على كل العصور منذ (عصر سعيد بن المسيب وإبراهيم والزُهري، وفي عصر مالك وسفيان وبعد ذلك)، على حين أن التخريج بصورته التي ذكرها لم ينشأ إلا في عصور التقليد، ويعني ذلك أنه لم يكن موجودًا في القرنين الأولين، كما يعترف بذلك الدهلوي نفسه حين يقول:«اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ قَبْلَ المِائَةِ الرَّابِعَةِ لَمْ يَكُونُوا مُجْمِعِينَ عَلَى التَّقْلِيدِ الخَالِصِ. قَالَ أَبُو طَالِبٍ المَكِّيُّ فِي " قُوتِ القُلُوبِ ": " إِنَّ الكُتُبَ وَالمَجْمُوعَاتِ مُحْدَثَةٌ، وَالقَوْلُ بِمَقَالَاتِ النَّاسِ، وَالفُتْيَا بِمَذْهَبِ الوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ وَاتِّخَاذِ قَوْلِهِ وَالحِكَايَةِ لَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالتَّفَقُّهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، لَمْ يَكُنْ النَّاسُ قَدِيمًا عَلَى ذَلِكَ فِي القَرْنَيْنِ الأَوَّلِ وَالثَّانِي ". اهـ. وَبَعْدَ القَرْنَيْنِ حَدَثَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ التَّخْرِيجِ» (2).
ومع اعترافه في هذا الموضع بأن التخريج حدث بعد القرنين، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ، فِي مُحَاوَلَةٍ تَعَسُّفِيَّةٍ لِتَطْبِيقِ نَظَرِيَّتِهِ وَقَصْرِ الوَصْفِ بِالرَّأْيِ عَلَى الأَحْنَافِ، أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مُقلِّدًا لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُخَرِّجًا عَلَى أَقْوَالِهِ (3)، هذا إلى اعترافه بأنّ التخريج لم يكن مقصورًا على المذهب الحنفي أو أهل
(1) انظر " الإنصاف ": ص 32، 46؛ " حجة الله البالغة ": 1/ 311، 321.
(2)
انظر " حجة الله البالغة ": 1/ 321.
(3)
انظر " الإنصاف ": ص 26، 27.
الرأي حيث قال فيما سبق: «فَوَقَعَ التَّخْرِيجُ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ وَكَثُرَ» وكما يقول في بيان أصول أهل الحديث: «وَكَانَ أَهْلُ التَّخْرِيجِ مِنْهُمْ يُخْرِجُونَ فِيمَا لَا يَجِدُونَهُ مُصَرَّحًا، وَمُجْتَهِدُونَ فِي المَذْهَبِ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ لَا يُنْسَبُونَ إِلَى مَذْهَبِ أَحَدِهِمْ، فَيُقَالُ فُلَانٌ شَافِعِيٌّ، وَفُلَانٌ حَنَفِيٌّ» (1)، وبذلك كان ينبغي له أن يشير إلى أنّ المَذَاهِبَ السُّنِّيَّةَ ليس بينها خلافات جوهرية «فَأُصُولُهَا جَمِيعًا وَاحِدَةٌ، وَخِطَّةُ الاِسْتِنْبَاطِ فِيهَا لَا تَخْتَلِفُ اِخْتِلَافًا يُؤَدِّي إِلَى اِعْتِنَاقِ بَعْضِهَا وَنَبْذِ بَعْضِهَا الآخَرِ، وَفِي أَحْكَامِهَا جَمِيعًا مَا فِيهِ يُسْرٌ وَتَخْفِيفٌ عَلَى النَّاسِ وَمَا بِهِ شِدَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَكُلُّهَا قَامَتْ عَلَى مُسَايَرَةِ التَّطَوُّرِ مَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى صَلَاحِ النَّاسِ» (2).
إن اعتبار الدهلوي أبا حنيفة مِنَ المُخَرِّجِينَ، وَعَدِّهِ من أهل الرأي لذلك، هو اعتبار ينقصه الدليل، إذ يلزم أن يثبت أن المعاصرين لأبي حنيفة كانوا يصفونه بالرأي لذلك، مع ما سبق من قول الأوزاعي أنه لا ينكر الرأي على أبي حنيفة، وإنما ينكره عليه تركه للحديث.
وفي رأيي أن التقسيم الذي نبذه الدهلوي والذي يقسم المجتهدين إلى قسمين: هما أهل الظاهر وأهل الرأي، كان يمكن أن يكون أقرب التقسيمات إلى الواقع في القرن الثالث، لو لم يظهر في هذا القرن مَذْهَبُ المُحَدِّثِينَ، إذ ليس بين المذاهب الأربعة خلاف يرجع إلى الأصل والأساس، كما سبق وإنما هو خلاف يرجع إلى الفهم والوزن والتقدير كخلاف أصحاب المذهب الواحد، فخلاف أبي حنيفة مع أصحابه لا يختلف في وسائله وأسبابه عن خلافه مع الشافعي أو خلافه مع مالك إذا ما دققنا النظر وحققنا أسباب الخلاف، والشافعي بدوره كان تابعًا لمالك في بداية أمره، ثم لم ينفصل عنه
(1) انظر " حجة الله البالغة ": 1/ 321.
(2)
" محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء "، للأستاذ علي الخفيف: ص 268.
بمذهب يعتبر به مفارقًا لمالك إلا بعد أن عني برأيه وحده ونشره بين الناس، وكذلك الحال في كثير من الفقهاء كأبي ثور والطبري، فقد كانا في بداية أمرهما شَافِعِيَيْنِ، وكل هذه المذاهب تعتمد على الرأي وتستعمل القياس على خلاف بينهما في الكثرة والقلة، وبذلك يصح أن تندرج كلها تحت (أَهْلِ الرَّأْيِ).
أما أهل الظاهر فهو يختلفون عن غيرهم اختلافًا يرجع إلى الأصل والأساس فإن من لا يرى العمل بالقياس أو بالمصالح المرسلة لا شك أنه يختلف مع من يراهما أصلين يعمل بهما ويبني عليهما كثيرًا من الأحكام (1).
أما التقسيم الذي يضع المذهب الحنفي تحت شعار (أَهْلِ الرَّأْيِ) ويضع باقي المذاهب تحت شعار (أَهْلِ الحَدِيثِ) فليس قائمًا على أساس موضوعي، وإنما يقوم على أساس عاطفي نفسي، فمالك ممن اشتغل برواية الحديث والشافعي شيخ أحمد بن حنبل، ورأي أحمد فيه رأي حسن، وقد تبع أحمد في ذلك من اشتغلوا برواية الحديث، ومن لم يشتغل بروايته من العامة الذين كانوا متعصبين لأحمد منذ المحنة، انسياقًا وراء العاطفة الدينية، دون أن يكون عندهم مقدرة عقلية على الموازنة والمقارنة.
إِنَّ الظَّاهِرِيَّةَ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ أصرح مواجهة مع أنفسهم ومع غيرهم، فما دامت الآثار كثيرة، وما دام القياس مذمومًا - وَهَذَا رَأْيُ عَامَّةِ المُحَدِّثِينَ - وَجَبَ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْبَذَ القِيَاسُ وَيُكْتَفَى بِالنُّصُوصِ. أما أن القياس مذموم، ولا بأس في استعماله عند الضرورة، كما يضطر الجائع إلى أكل الميتة، فهذا رأي ينطوي في ثناياه اعترافًا بأهمية القياس وَتَعَيُّنِهِ في بعض المسائل، وَهُوَ مَا يَؤُولُ بِهِمْ إِلَى رَأْيِ أَهْلِ الرَّأْيِ الذين يعلنون أنهم لا يستخدمون القياس إلا حيث لا توجد نصوص صحيحة.
(1) انظر: المصدر السابق: ص 287، 288.
إن أصدق تقسيم يمكن أن ينطبق على العلماء في القرن الثالث الهجري وهو القرن الذي نُعْنَى بِهِ في دراستنا هذه، هو الذي يقسمهم إلى ثلاثة أقسام:
[أ] أهل حديث. [ب] وأهل رأي. [ج] وأهل ظاهر.
على أن يدخل في مفهوم أهل الرأي المالكية، والشافعية، والحنفية، والحنبلية بعد وفاة أحمد بن حنبل. أما أهل الحديث فهم: أحمد، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الكتب الستة وغيرهم من المشتغلين برواية الحديث في هذا القرن.
وقد أحسن الأستاذ الخضري رحمه الله في التعريف بأهل الحديث وأهل الرأي، ووصفهم بما ينطبق مع فهمنا الذي قدمناه، وذلك حيث قال: «أَهْلُ الحَدِيثِ قِبْلَتُهُمْ السُّنَّةُ بِاعْتِبَارِهَا مُكَمِّلاً لِلْقُرْآنِ، وَبِاعْتِبَارِهَا نُصُوصًا تُعُبِّدَ بِهَا الشَّارِعُ الإِسْلَامِيُّ مَنْ دَانَ بِالإِسْلَامِ، مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى عِلَلٍ رَاعَاهَا فِي تَشْرِيعِهِ، وَلَا أُصُولَ عَامَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا المُجْتَهِدُ، وَلَا أُصُولَ خَاصَّةً بِالأَبْوَابِ المُخْتَلِفَةِ، فَهُوَ المُتَشَرِّعُونَ الحِرَفِيُّونَ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نَرَاهُمْ إِذَا لَمْ يَجِدُوا نَصًّا فِي المَسْأَلَةِ سَكَتُوا وَلَمْ يُفْتُوا.
أَمَّا أَهْلُ الرَّأْيِ وَالقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْا الشَّرِيعَةَ مَعْقُولَةَ المَعْنَى، رَأَوْا أُصُولاً عَامَّةً نَطَقَ بِهَا القُرْآنُ الكَرِيمُ وَأَيَّدَتْهَا السُّنَّةُ، وَرَأْوا كَذَلِكَ لِكُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الفِقْهِ أُصُولاً أَخَذُوهَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَرَدُّوا إِلَيْهَا جَمِيعَ المَسَائِلِ التِي تُعْرَضُ مِنْ هَذَا البَابِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ، وَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السُّنَّةِ كَالأَوَّلِينَ مَتَى وَثِقُوا مِنْ صِحَّتِهَا» (1).
(1)" تاريخ التشريع ": ص 197.
أما أهل الظاهر فهم طَائِفَةٌ مِنَ المُحَدِّثِينَ، فيهم بعض ما قدمه الأستاذ الخضري في وصف أهل الحديث، ولكنهم يفارقونهم في أمور أخرى، سوف يعنى هذا البحث ببيانها في فصل خاص، ولكننا نستطيع أن نقول بصورة عامة إن أهم مَا يُميِّزُهُمْ هو أن لهم أصولاً عامة مطردة، قد يتطرفون في تطبيقها وأنهم - استنادًا إلى هذه الأصول - لا يتوقفون في المسائل، ولا يتحرجون من الإفتاء.